أكثر ما يعجبني وغيري في الخواجات، هو إدراكهم لقيمة الوقت، والإنجليز هم من صاغ عبارة yenom si emit أي أن الوقت يعني المال، وبالتالي فإن إهداره إضاعة للمال، فإذا كنت طالبا وأضعت وقتك في اللعب، فإنك قد ترسب في الامتحانات و«تعيد» السنة الدراسية، وتتخلف عن بنات/أبناء دفعتك، فيسبقونك في الحصول على الشهادات والوظائف والترقيات الخ، وقد تجعل إضاعة الوقت في اللهو الطالب بحاجة الى مدرس خصوصي، ونحن - اسم الله علينا - نعجبك في إضاعة الوقت في اللامُجدي، وحتى من يؤدون أعمالهم الرسمية بإخلاص وإتقان، قد يميلون الى اعتبار الوقت ما بعد انتهاء ساعات العمل، فرصة لتبديد الطاقات والموارد في أمور لا تجدي، وبالطبع من الضروري ان يخصص كل إنسان سويّ جزءا من اليوم أو الأسبوع للترويح عن النفس، ولكننا بصفة عامة شعوب جعلت الترويح عن النفس «أولوية»، مع أنها لا تجيد حتى ذلك الضرب من الترويح، فنحن نتسلى ببعضنا البعض، بمعنى أننا نحب اللمة والشلة لطقّ الحنك والنميمة أو لعب الورق.. والإنسان السوي بحاجة الى طق الحنك في مناخات تسود فيها روح الفرفشة، ولكن ليس كوجبة يومية، كما هو الحال في العالم العربي حيث صارت عبارة مثل: رايح أقعد مع أصحابي/ربعي/ شلّتي/ جماعتي، من كليشيهات الحياة اليومية.. وأعرف أن الكنكان والوست والبلوت (هذه الأخيرة وباء خاص بالسعودية)، فيها الكثير من المرح وتتطلب قدرا من المهارة، ولكن هناك من يعتبر لعب الورق محطة ثابتة في حياته على مر الأيام، وبالمناسبة فإن أبو الجعافر ماهر في عدد من ألعاب الورق (الكنكان هو وباء السودان)، وفجأة صرت أصاب بالملل وأنا في انتظار الكرت/الورقة التي يستخدمها الخصم لحرماني من الفوز، وهو نفس السبب الذي جعلني أنفر من الشطرنج، وهي لعبة تتطلب البال الطويل لأن من حق الطرف الآخر أن «يعمل فيها مفكر ومخطط استراتيجي على أقل من مهله». وأعتقد أن واحدة من أطيب الخصال التي تعلمتها من البريطانيين منذ أول زيارة لي للندن هي ملء أوقات الفراغ ب«الكتاب»، فقد لاحظت أن الواحد منهم ما ان يجلس داخل أداة نقل ومواصلات حتى يفتح كتابا أو جريدة أو مجلة، بل إن شركة قطارات الأنفاق في لندن تصدر صحيفة يومية اسمها «مترو»، يتم توزيعها مجانا على الركاب، وهكذا صار الكتاب وسيلتي لنفي وقهر الملل، في العيادات الطبية والمطارات ووسائل النقل، ثم «مسّختها» حسبما تقول زوجتي لأنني لا أتمدد على سرير أو كرسي إلا ومادة للقراءة في يدي.. طبعا جيلنا في معظمه تربى على حب القراءة، لأن جميع المراحل الدراسية كانت تتطلب وجود مكتبات تناسب كل مرحلة عمرية، ففي المرحلة الابتدائية قرأت جميع كتب كامل كيلاني وجورجي زيدان، وفي المرحلة المتوسطة قرأت جميع الكتب التي كانت في المكتبة الإنجليزية، ودخلنا مرحلة قراءة روايات إحسان عبدالقدوس وشعر نزار قباني وكانت رؤية جيل الكبار لما يكتبه الرجلان، كرؤية جيلي لمجلات من شاكلة بلاي بوي، ولهذا كنا نقرأها ونتبادلها سرا من وراء ظهر أساتذتنا، وفي المرحلتين الثانوية والجامعية صرنا قادرين على قراءة الكتب «الفكرية/النظرية». ولكن التعلق بالقراءة لدرجة الإدمان الحميد أمر تعلمته من الخواجات، ولا غرابة في ذلك فمجموع الكتب التي تُنشر في بلد كحيان مثل اليونان في سنة واحدة يعادل إنتاج المطابع في الدول العربية مجتمعة في عشرين سنة. جعفر عباس [email protected]