نعم هناك قوم اختصوا بتقليم أظافر الآخرين وإصابتهم بالإحباط، وعلى من يريد النجاح في الحياة أو تحقيق غاية وطموح ما، أن يتجاهل آراء هذه النوعية من البشر وأن يسمو فوق شماتة الشامتين وضحكات المستخفين بمساعيه.. من يدخل منتديات الانترنت الخليجية والسعودية يعجب كيف لم يجد عشرات المبدعين ذوي المواهب الناضجة السبيل إلى الصحافة المطبوعة.. لا شك ان كثيرين منهم حاولوا توصيل إنتاجهم إلى مختلف المطبوعات، ولكنهم قوبلوا بالتجاهل لأنهم «نكرات».. مع ان من أصدروا الحكم عليهم بأنهم نكرات كانوا يوما ما نكرات، بل ربما لا يزالون نكرات رغم ان أسماءهم وصورهم تظهر بانتظام في الصحف والمجلات.. فما قيمة أن تكتب إذا لم يكن هناك من يقرأ لك؟ عندما دخلنا جامعة الخرطوم كان هناك شاب هزيل القوام قال لنا من زاملوه في المرحلة الثانوية أن وجوده في الجامعة أمر مريب: أكيد غش في امتحان الشهادة الثانوية أو كان هناك خطأ ما في رصد الدرجات لأنه كان طالبا ضعيف التحصيل الأكاديمي.. وعندما تعرفت عليه أحسست بأنه ضعيف القوى العقلية، فقد كان مشتت الذهن.. من النوع الذي يشعل السيجارة من ناحية الفلتر، ويبدأ معك الحديث ثم لا يكمل الجملة الأولى، وينتقل إلى موضوع آخر، أو يستوقفك في أحد ممرات الجامعة صائحا «دقيقة من فضلك»، وتتوقف.. ولكنه يمر بجوارك حتى من دون ان ينظر اليك.. (لاحقا وبعد أن قرر الزواج حرصنا نحن أصدقاءه على محاصرته طوال مراسيم الزواج خوفا من أن يزوغ ويختفي بسبب توهانه وسرحانه الدائم)، وقرر ذلك الطالب، واسمه طه، ان يتخصص في الفلسفة، وشأن معظم ابناء العالم الثالث كنا نحن زملاءه نعتبر دراسة الفلسفة نوعا من العبث ومضيعة للوقت: ماذا ستفعل ببكالوريوس الفلسفة؟ تشتغل فيلسوف؟ وحاول الكثيرون إقناعه بدراسة مادة «عليها القيمة» ولكنه طنش كل النصائح وأصرَّ على دراسة الفلسفة، والغريب في الأمر ان طه هذا كان - حتى خلال محاضرات الفلسفة التي اختارها طوعا - يمضي معظم الوقت يرسم.. نعم فقد كان رساما ناضج الموهبة، ومع هذا نال بكالوريوس الفلسفة مع مرتبة الشرف العليا.. وقرر التخصص (الدراسات العليا) في علم النفس، ولم يكن ذلك متاحا في جامعتنا، وقلنا شامتين فيه: دي فرصة تدرس علم النفس وتعالج نفسك، ثم حمل ذلك الطالب المشتت الذهن حقائبه وهاجر إلى ألمانيا... وبدأ مسيرته بتعلُّم الألمانية (معلومة لوجه الله للشباب الطامح في الدراسة الجامعية في أوروبا: التعليم الجامعي في ألمانيا بالمجان حتى للأجانب شريطة اجتياز امتحان اللغة الألمانية وهناك العديد من الطلاب العرب الذين يجتازون ذلك الامتحان بعد عام واحد يقضونه في ألمانيا).. المهم ان صاحبي طه هذا نال الماجستير والدكتوراه بامتياز من ألمانيا وهو اليوم أستاذ جامعي يشار إليه بالبنان وعضو مرموق في جمعيات علم النفس العالمية وله دراسات مُحَكَّمة منشورة في كبريات المجلات العلمية الرصينة. طه هذا مثل الضفدع الذي حكيت لكم على مدى الأيام الأربعة الماضية كيف نجح في تسلق عمارة شاهقة رغم شماتة الشامتين، لأنه أطرش وبالتالي لم يسمع الكلام المحبط الذي كان يصدر عمن جاءوا ليروا كيف يفشل ضفدع هزيل في عمل «أكبر من إمكاناته». جعفر عباس [email protected]