نص رأي يا «لوموند» . . المجتمع الدولي ليس بريئاً خالد التيجاني النور في افتتاحية علقت بها صحيفة «لوموند» الفرنسية على شبح الحرب الذي يخيم على دولتي السودان ، قالت إنه «لا يمكن لأحد أن يتهم المجتمع الدولي بعدم بذل ما يكفي من جهود الوساطة بين الطرفين، فقبل انفصال جنوب السودان، ظلت في البلاد بعثتا حفظ سلام دوليتان». وفي الواقع فإن هناك الكثير من اللوم على الأقل، حتى لا نقول الاتهام، الذي يوجه للمجتمع الدولي بشأن قصر نظره، وبؤس تعاطيه وبخل عطائه من أجل دعم صناعة واستدامة السلام في السودان. لم تكن اتفاقية السلام الشامل شأناً سودانياً داخلياً محضاً، ولا صناعة محلية خالصة بأي حال من الأحوال، وليس في ذلك ما يعيب الاتفاقية أو يقلل من شأنها، فالحرب الأهلية السودانية التي كانت أطول حروب القارة الإفريقية كانت ذات آثار ممتدة إلى ما وراء الحدود السودانية وتشكل تهديداً للامن والسلم الدوليين فضلاً عن استمرارها بلا تسوية كان يشكل وصمة عار في جبين الضمير العالمي ويمتحن مسؤوليته الأخلاقية. لم يكن ممكناً التوصل إلى تسوية شاملة أمراً ممكناً بغير تدخل خارجي إيجابي حيث كانت عملية التفاوض معقدة بالغة الصعوبة لحلحلة قضية تجاوزت نصف قرن من التراكمات، وقد أسهمت الجهود والرعاية الدولية والوساطة الإقليمية بدور فعال في تشجيع مفاوضي الطرفين على جسر هوة انعدام الثقة، وتقديم المقترحات البناءة، وتوفير أسباب النجاح للمفاوضات المباشرة بين الفريقين المفاوضين. وحين جرى الاحتفال الرسمي بتوقيع الاتفاقية في استاد نياييو بالعاصمة الكينية نيروبي لم يكن حدثاً سعيداً اقتصر قطف ثماره على الزعماء السودانيين، بل تقاطر العشرات من كبار ممثلي الدول صاحبة القرار في الساحة العالمية، وفي المنظمات الدولية والإقليمية، كان حدثاً اعتبر بامتياز نجاحاً عالمياً لصناعة السلم والأمن في عالم مضطرب لا تنقصه الحروب الوحشية، ومهرت الاتفاقية بتوقيعات أربعة عشر من الشهود المرموقين إقليمياً ودولياً تقدمهم وزير الخارجية الأمريكي الاسبق الجنرال كولن باول. لم يكن حضور هذه الشخصيات البارزة من أجل حفل مراسمي عارض، أو شهادة مجاملة، بل كان تأكيداً لإلتزام قطعوه على أنفسهم لدعم عملية السلام في السودان وضمان استدامتها، وقد ناشد طرفا الاتفاقية في ديباجتها الاستهلالية «المجتمع الإقليمي والدولي والمنظمات والدول التي طلب منها أن تشهد على توقيع هذا الاتفاق أن يقدموا دعمهم الثابت والقوي لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، ويناشدونهم كذلك توفير الموارد اللازمة للبرامج العاجلة وانشطة الانتقال إلى السلام كما جاء في الاتفاق». ولم يكن مطلوباً من المجتمع الدولي أن يقدم دعماً دون أن يكون له دور وشريك في الرقابة ومتابعة التنفيذ، فقد نص اتفاق مجاكوس الإطاري على تشكيل «مفوضية مستقلة للتقويم والتقدير» خلال الفترة الانتقالية بمشاركة ممثلي المجتمع الدولي والوسطاء الإقليميين لمتابعة تنفيذ الاتفاقية وإجراء تقويم منتصف الفترة «لترتيبات الوحدة التي وضعت وفقاً لاتفاقية السلام»، ومهمة المفوضية المحددة في الاتفاقية هي العمل «بغية تحسين المؤسسات والتدابير التي أنشئت بموجب الاتفاقية لجعل وحدة السودان جذابة لشعب جنوب السودان». حسناً ما الذي فعله المجتمع الدولي حقاً للوفاء بهذه الالتزامات الجسيمة والحاسمة لصناعة واستدامة السلام، وقد علمنا ما آل إليه الحال، لم تتبدد الآمال العريضة التي بنيت في الاتفاقية على اعتبار ان تلبية طموحات شعب جنوب السودان في إطار الحفاظ على وحدة السودان امر ممكن فحسب، بل تحققت أسوأ المحاذير تم تقسيم السودان وضاع السلام وعادت الحرب. لا نحتاج هنا للتذكير بأمر بديهي وهو المسؤولية الأساسية لطرفي الاتفاقية، وبصفة خاصة الحكومة السودانية التي تتحمل بلا شك نصيباً اكبر من المسؤولية الوطنية والأخلاقية في واجب الحفاظ على وحدة البلاد، عن التقصير الذي شاب تنفيذ الاتفاقية من قبلهما وتنكرهما بأقدار مختلفة ل»إلتزامها بتنفيذها كاملاً ومعاً». وقد فصلنا في ذلك مقالات عديدة ومطولة مما لا حاجة لاستعادته هنا. ولكننا بصدد تقييم مسؤولية المجتمع الدولي لنرى إن كانت «لوموند» محقة في رفض أي اتهام يوجه بالتقصير للدول الكبرى والمنظمات الدولية في ما آلت إليه الأمور في السودان، وتبدد فرص السلام المجهضة، وما ذكرته الصحيفة الفرنسية هو نموذج لاتجاه عام في الصحافة الغربية ما فتئت تحمل الأطراف السودانية، لا سيما الحكم في الخرطوم، المسؤولية عن انهيار عملية السلام، وهي محقة في ذلك، ولكن الانصاف يقتضيها القول ان الأطراف الدولية تتحمل أيضاً مسؤولية مماثلة على الاٌقل لعجزها عن الوفاء بالالتزامات التي تعهدت بها، ليس التعهدات الاقتصادية فحسب، بل لعب دور الشريك السياسي النزيه والحريص. ويكتفي المسؤولون الغربيون، والصحافة الغربية كذلك، عادة بلعب دور القاضي وحارس الضمير اليقظ واحتكار المرجعية والتفنن في إصدار الأحكام الأخلاقية على مسائل عويصة ومتشابكة وبالغة التعقيد في مجتمعات لا توفر لها القاعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نفسها التي تتوفر للمجتمعات الغربية، صحيح أن هناك حاجة ملحة لترقية هذه المجتمعات المغرقة في العوز الاقتصادي والسياسي والتنموي، للحاق باللحظة الكونية الراهنة وتمثل قيمها وهي مسألة لا تتم بالمواعظ الاخلاقية، وإصدار الأحكام الإطاحية بالأنظمة السياسية، والتحدي الحقيقي امام المجتمع الدولي هو مساعدة هذه المجتمعات في بلد مثل السودان على استدامة السلام والاستقرار والمساعدة في التنمية والتطور، فالديمقراطية في رأي مادلين أولبرايت ليست حبة دواء تبتلعها اليوم لتصبح غداً ديمقراطياً مكتمل الأركان. ومسألة التنمية البشرية قضية بالغة الحيوية للمجتمعات في هذه المنطقة من العالم، وبعيداً عن استسهال الأمور والتنظير السياسي ومحاكمة النظام في الخرطوم، يأتي السؤال المهم ما الذي قدمه المجتمع الدولي حقاً من أجل التنمية البشرية للمواطنين البسطاء من شعب شمال وجنوب السودان؟. لقد كانت الاتفاقية واضحة في ديباجتها عندما أشارت إلى الخسائر المريعة البشرية والمادية لاستمرار النزاع في السودان والتدمير الذي لحق بالبنى التحتية، وإهدار الموارد الاقتصادية والمعاناة التي لم يسبق لها مثيل لا سيما فيما يتعلق بشعب جنوب السودان. وكانت واحدة من أهم مبادئ التسوية الاهتمام بالكلفة الإنسانية الباهظة للحرب ومساعدة اللاجئين والنازحين «على إعادة توطينهم وإعادة التأهيل، وإعادة البناء والتنمية لمعالجة احتياجات تلك المناطق المتأثرة بالحرب وتقويم أوجه الخلل التاريخية في التنمية وتخصيص الموارد». للأسف لا شئ من هذا تم على الوجه المطلوب ولا حتى أدنى من ذلك، صحيح هي مسؤولية الأطراف السودانية بالدرجة الأولى، ولكن الصحيح أيضاً أن المجتمع الدولي شريك اصيل في هذه المسؤولية. وبعد سنوات من توقيع الاتفاقية لا يزال مئات الآلاف، إن لم نقل ملايين، من المواطنين في حالة يرثى لها من النزوح والتشرد الداخلي يفتقدون كل تلك الوعود البراقة المبذولة من المجتمع الدولي بلا وفاء. لقد تسارع الشركاء الدوليون للاجتماع في العاصمة النرويجية أوسلو بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاقية السلام الشامل لإظهار إحسانهم وبرهم لدعم عملية السلام والمساعدة على إعادة الأعمار والبناء والتنمية وإعادة التوطين، وبذل المانحون تعهدات سخية من أجل ذلك، لكن الوفاء بها كان أقرب إلى الشح، وعقدت أوسلو الثانية وبحت الاصوات تدعو لتنفيذ تلك الالتزامات ولكن ذلك كله ذهب أدراج الرياح. وسيقت مبررات باهتة فاقدة للجدية في تبرير ذلك فتارة يقال ان السودان يملك من العائدات النفطية ما يكفي ويزيد لتمويل، وتارة يقال ان الأموال أعيد تخصيصها لدارفور، ومن قائل ان الخشية من الفساد جعلت المانحين يمسكون أيديهم، كل هذا حسن، ولكن لماذا يعاقب المجتمع الدولي بإمساكه مواطني الجنوب قبل الشمال، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في السلام، بجريرة أنظمة الحكم . ولك ان تدرك عبثية هذه المبررات حين تكتشف أن المجتمع الدولي أنفق بسخاء على عمليتي الأممالمتحدة في السودان «يونميس» و»يوناميد» لحفظ ودعم السلام في الجنوب ودارفور ما يقارب الاثني عشر مليار دولار في السنوات الست الماضية، في دلالة واضحة على سوء ترتيب الأولويات، إن لم نقل سوء النيات، فهذه المبالغ الطائلة لم تصرف من أجل برامج التنمية البشرية لصالح المواطنين البسطاء المتضررين من الحرب إذا لكانت أغنتهم عن المسغبة ولجعلت منهم سداً منيعاً يحقق استدامة السلام والاستقرار، لقد ذهبت تلك الأموال الضخمة بلا مسوغات موضوعية للصرف على بيروقراطية الأممالمتحدة المفتقرة للفعالية، وإغناء لوردات الفقر. لقد كانت الفكرة الأساسية لتشكيل بعثة الاممالمتحدة للسودان «يونميس» بطلب من طرفي الاتفاقية لتقديم المساعدة اللازمة لدعم عملية السلام، ولا أحد لا يعلم أن أحد أهم اسباب الأزمة السودانية فقدان التنمية المتوازنة، وكان المطلوب من المجتمع الدولي أن يسهم بجدية بخبراته وقدراته وإمكانياته في عملية التنمية البشرية للسكان في المناطق المتأثرة بالحرب، ولكن بدلاً أن يرسل المجتمع الدولي والمنظمة الدولية بعثات وقوافل التعمير والتنمية وتركيز الصرف عليها، بعث بأكثر من عشرة آلاف جندي في عملية حفظ سلام لم تكن هناك حاجة لها أصلاً، فإرادة حفظ السلام كانت متوفرة فعلاً عند الطرفين، فضلاً عن أنه حتى عندما حدثت اشتباكات أبيي عند منتصف الفترة الانتقالية وقفت قوات حفظ السلام المزعومة هذه تتفرج لم تدر ما تفعل، وهي التي أنفق عليها مليارات الدولارات بلا طائل. إذن فما كانت الحاجة لها ألم يكن المجتمع الدولي إذا كان جاداً فعلاً في المساعدة على صناعة واستدامة السلام أن يعمل وفق أولويات صحيحة. والأمر نفسه، وعلى نحو أسوأ جرى استنساخه في دارفور، في بعثة حفظ سلام لم يكن له وجود اصلاً، حشد لها أكثر من خمسة وعشرين ألف جندي ودار جدل بيزنطي كثيف حول لون قبعاتها، إفريقية خضراء أم أممية زرقاء، ولم تكن هي الأخرى ذات نفع ولا قادرة أن تحمي نفسها دعك من حماية من زعم أنه جئ بها لحمايتهم، وهكذا بددت مليارات آخرى في أولوية مختلة. بالطبع لا أحد يتصور أن حرص القوى الفاعلة في المجتمع الدولي على حشد نحو أربعين ألف جندي أجنبي لحفظ سلام لم يتحقق فعلاً في السودان، أمر اعتباطي أو أن ذلك يحدث عن جهل أو غفلة، كما أن لا أحد بالطبع يتوقع ان تنفق الدول الكبرى المانحة أموالاً طائلة من باب البر والإحسان فمن المؤكد أنها ليست جمعيات خيرية تنفق رجاء الأجر في الدار الآخرة، ولكنها تفعل ما تراه محققاً لمصالحها، ولغة المصالح هي الحقيقة الوحيدة المعتمدة في لعبة الأمم، ولا بأس في ذلك، فقواعد اللعبة لا تعفي من يجهلها أو يخضع لها، كما انه لا يمكنك أن تعفي الحكومة العاجزة عن إدراك مصالحها الوطنية والدفاع عنها من المسؤولية في الوقوع تحت طائلة الغباء أو التآمر. لقد كان بوسع القوى الكبرى إن كانت جادة فعلاً في دعم استدامة السلام في السودان أن تعمل حقاً على جعل سانحة اتفاقية السلام الشامل نموذجاً في قدرة المجتمع الدولي على صناعة السلام وحفظ السلم والأمن الدوليين خاصة في ظل تجاوب طرفي الاتفاقية بل ومبادرتهما لاستدعاء الدور الدولي وفق صيغة تضمن له مشاركة فعالة في تثبيت دعائم السلام. ولكن من الواضح أن الأطراف الدولية الفاعلة لم تكن مهتمة بأجندة السلام الحقيقية قدر اهتمامها بأن تستغل الظرف لتصبح طرفاً في اللعبة السياسية الداخلية، ولم تنس معركتها مع الحكم في الخرطوم وفي غمرة انشغالها بتصفية حساباتها مع حكومة البشير وابتزازها تجاهلت الدور الذي كان ينتظره منها ملايين المواطنين البسطاء الذين أهلكت الحرب حرثهم ونسلهم وتطلعوا لتعهداتها بدعم عملية السلام الذين كانوا هم أصحاب المصلحة الحقيقية فيها، وغفلت عن مسؤوليتها في ضمان استدامة السلام حتى عادت الحرب بأسرع مما كانت تنتظره أسوأ التوقعات تشاؤماً ومن يدفع ثمنها في نهاية الأمر هم غمار الناس لا القادة. لقد كان مثيراً للسخرية دور المجتمع الدولي في المسرح السياسي السوداني، فبدلاً من ان يسهم بجدية في تأسيس نظام ديمقراطي راشد نصت عليه الاتفاقية، فقد شارك في لعبة الانتخابات فقط بغرض تمرير مسألة الاستفتاء دون أي اعتبار لمقتضى النزاهة، وكانت قمة تلك المفارقة الاعتراف المؤقت الملتوي بالرئيس لحاجة تقرير المصير ليس إلا. والمجتمع الدولي ومجلس الأمن يصدران هذه الأيام بيانات متكاثرة تعرب عن القلق وتطالب بانسحاب الجيش الشعبي من هجليج، إنما تمارس لعبة الاستهانة نفسها بأرواح ملايين السودانيين وهي تتقاعس حتى أعيد إنتاج الحرب بلا مبررات موضوعية ولا مسوغات مقبولة. ويا «لوموند» المجتمع الدولي ليس بريئاً. الصحافة