هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    حمّور زيادة يكتب: ما يتبقّى للسودانيين بعد الحرب    هجوم مليشيا التمرد الجمعة علي مدينة الفاشر يحمل الرقم 50 .. نعم 50 هجوماً فاشلاً منذ بداية تمردهم في دارفور    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    تدني مستوى الحوار العام    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    تأخير مباراة صقور الجديان وجنوب السودان    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من السخف أن ينسب لقرنق التهديد بطرد العرب من السودان..دمنصور خالد : الحديث عن مساع أمريكية غربية لتفتيت السودان (ونسة حيشان)
نشر في الراكوبة يوم 23 - 11 - 2010

الحوار السياسي.. او الحديث الاجتماعي مع الدكتور منصور خالد المفكر والعالم الموسوعي والمعرفي المدهش وابن البلد المتواضع.. الحديث مع هذا الرجل المتعدد المواهب يحلو كلما طال الحديث ولا يمل الانسان الحديث معه. ومعرفة الدكتور منصور خالد.. ميزة في حد ذاتها.. تتفق معه أو تختلف، فالامر سيان عنده يتناقش معك دون تزمت او ضيق صدر.
تعود علاقتي بالدكتور منصور خالد في سبعينات القرن الماضي.. وتوطدت الى أن غادرت السودان مجبراً لا بطلاً، وكان يراسلني عندما اخترت بغداد موقعاً نضاليا وكانت رسائله كلها تدعوني إلى الصمود في الغربة والاستفادة من ارض النهر الجارف بغداد. وعندما اقام في لندن كان اول من تنبأ لي بسقوط نظام نميري وبالتاريخ، وكنت اول من قرأ كتابه الأول الذي كان عنوانه (السودان داخل الكرة البلورية).. الذي كان يحمل النسخة الاصلية وذاهب الى الكويت حيث كانت تربطه علاقة قوية مع امير الكويت الحالي الذي كان وقتها وزيراً للخارجية.
اجريت عدة حوارات مع الرجل.. وكان اخطرها الذي نشر في صحيفة (الايام) عام 1974م.. وتحدث حديثاً اغضب بعض نخب مايو.. واحدث الحوار زلزالاً عنيفاً داخل الاتحاد الاشتراكي.. هذا أمر يذكره كثيرون وكثيرات.
الحوار مع د. منصور متعة.. والحديث معه متعة ومعرفته متعة كثيرة. هذه الحلقة الثالثة مع هذا الرجل النبيل.
....
* عند ذكرك في كيفية قضاء وقتك.. قلت: هو في الإستمتاع بقراءة كتاب أو تدوين مذكرات او التملي في صورة أو تشمير ساعدك لإحياء الأرض بعد موات في محقلتك بالجريف- الشيطة، دعوت الله أن يرعى اهلها ويقبح وجه اناس وصفتهم بانهم (مالهمش لازمة).. هل هناك أناس لا لزوم لهم.. وما هي اوصافهم؟
الله أعلم مني بعباده وهو القائل: «وضرب الله مثلاً رجلين احدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كلُّ على مولاه اينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم».
* قلت إنك لا تخدم الدول بل تشارك في صنعها.. عندما كنت وزيرا والآن مستشارا.. ألا تخدم دولتك.. ام انك تجاوزت مسألة الإنتماء للوطن وأصبحت إنسانا عالميا.. وولاؤك للإنسانية؟
كان ذلك في معرض ردي على سؤال منك يوحي بان حياة الإنسان تبدأ وتنتهي عند الوظائف العامة، وها أنت تكررها الآن: الوزير، المستشار. اي شخص عام - رجلاً كان أو إمرأة - يظن أن لا حياة بعد الوظيفة العامة شخص يفتخر بما ليس عنده. هو أجهل من فراشة، فالفراش يزدهيه الضوء فيقع فيه ليهلك. انا بحمد الله صاحب صنعة تشغلني عما عداها. وانا صاحب هوايات متعددة تملأ علي وقتي. وأنا ذو علاقات متنوعة مع أنماط من البشر يثرون الحياة منهم صاحب الأزميل، ومنهم صاحب الفرشاة، ومنهم الزراعي ذو الأصابع الخضراء، ومنهم من تستطربه فيهتز لصوته البشر والشجر.
في سؤالك ايضاً هذا محاولة للفصل العسفي بين الوطنية والإنسانية. قلت لك في حديثي السابق أن الوطنية التي تُعادي الإنسانية هي وطنية يجب أن لا يفاخر بها الإنسان ، وأنا من أولئك. في مقال له اوصى طاغور اهله الهنود قائلاً: «لئن أردتم إسترداد هندكم عليكم أن تكفوا عن تدريس ابنائكم أن حب الوطن يعلو على حب الإنسانية». أما سؤالك عمن كنت أخدم فلا شك أنني كنت أخدم السودان وشعبه وليس جمهورية الإكوادور أو شعوب دول البلطيق.
* ما هي الدول التي شاركت في صناعتها.. وهل من خلال رؤاك السياسية والإستراتيجية ترى أنه يمكن قيام دول عدة في السودان ? كما يرى معظم المحللين- وأن هناك مساع غربية امريكية لتفتيت السودان إلى دول.. وحددت بخمس دول؟
الدول أعني بها أنظمة الحكم التي كنت في موقع صنع القرار فيها وساهمت في تكوينها، أو تطويرها، أو تحسين مناهج العمل فيها. هذا عمل مؤسسي لا يقوم به فرد حتى وإن تولى قيادته. واظلم نفسي قبل غيري إن زعمت أن ما قمت به كان جهد فرد واحد لا شريك له.
عندما تقول أن هناك مساعي غربية امريكية لتفتيت السودان إلى دول وتحددها بخمس لا تتوقع مني رداً غير أن اقول: «بالله! عليك الله!» أنا أحترم نفسي كصاحب رأي. وأحترم قواعد المهنة التي تمهرت عليها. وأحترم عقل القارئ الذي تريد مني أن اخاطبه. لهذا لا اتناول القضايا الهامة على طريقة ونسة الحيشان. السؤال يصبح ذا معنى لو قلت لي أن قراراً قد صدر في هذا اليوم أو ذاك، من هذه المؤسسة او تلك في الولايات المتحدة، أو أن مؤسسة راند أو معهد ماسيشوستس للتنكولوجيا أعدا تقريراً سرياً حول تفتيت السودان، أو قلت أن هذه الدولة الغربية أو تلك تسعى لتفتيت السودان بدلاً من الحديث عن «مساع» امريكية أو غربية. الغرب، مثلاً، يشمل دول الإتحاد الأوروبي ودولاً خارج ذلك الإتحاد مثل سويسرا والنرويج. كما تشمل دول الإتحاد بريطانيا وفرنسا والمانيا إلى جانب اليونان والبرتغال وجمهورية التشيك. هذا التمييز ضروري حتى نعرف - على وجه التحديد - ماهي الدول التي تعد المعاول لتفتيت بلادنا. ما هو اخطر من ذلك في سؤالك هو قولك بأن هناك «مساع». لم تقل تفكير أو نوايا؛ أي أن التفتيت تجاوز حد التفكير فيه إلى العمل. هذا النمط في التعامل مع القضايا الكبرى هو الذي أودى بنا إلى حالة لعلها هي البلاء الذي يدعو أهلنا الختمية رب العالمين لألحاقه باعدائهم: «وأبلوهم ربي بالمرج». ما نحن فيه هو مرج لو تعلمون عظيم وللصحافة يد طولى فيه.
* قلت إن اول حكومة لو قبلت بالنظام الفيدرالي لانتهى الامر.. هل كان باستطاعة العدد المحدد من الكفاءات الجنوبية سياسيا وإداريا حينها النهوض باعباء دولة.. أو إدارة الحكم في الإقليم؟
في مقالات نشرتها في هذه الصحيفة قلت ان الذين يقولون ? حتى إن كان ذلك من موقف الحادب - أن الجنوب لن يقوى على إدارة نفسه إن إستقل لا يختلفون كثيراً عن الجنرال هدلستون حاكم عام السودان في سني ما بعد الحرب. أنكر هدلستون على الوطنيين السودانيين المطالبة بالحكم الذاتي لأن طريقه، كما قال، شاق وطويل ودعا أن لا يمنح الحكم الذاتي للسوان إلا بعد عشرين عاماً من سنة 1947. نعم لم يكن بالجنوب الكفاءت اللازمة أو أي كوادر مؤهلة عندما دعا الجنوبيون للفيدرالية في عام 1955. ولكن الفيدرالية لم تكن تعني الإستقلال، وإنما الإدارة الذاتية التي كان من الممكن أن ترفد بالخبرات الشمالية إلى حين تدريب الجنوبيين. هل تدبر الذين يطرحون مثل هذه الأسئلة أنه لم يكن بالكونغو البلجيكي عندما أستقل خريج جامعي واحد، وكان الرجل الوحيد المؤهل لقيادة الجيش فيها هو الشاويش موبوتو. مع ذلك خرجت جموعنا تهتف لباتريس لوممبا المناضل.
* د. منصور أول من طرح فكرة دولة بنظامين، هل يمكن القول إن الدولة السودانية خلال الفترة الإنتقالية كانت أقرب لهذا الطرح.. وبالتالي فإنه يمكن القول ? أيضا- أن لا داعي لقيام استفتاء لتقرير المصير؟
لست أنا أول من طرح الفكرة بل كنت من المترددين في قبولها. الفكرة جاءت من معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية في جامعة جون هوبكنز وقام بطرحها مدير المعهد ستيفن موريسون وشاركه الرأي فيها فرانسيس دينق. أنت محق في أن الدولة السودانية خلال الفترة الإنتقالية قامت على هذا الطرح، ولكن قولك انه طالما كان هناك نظامان للحكم في الدولة الواحدة فلماذا لا يبقى الحال على حاله إستنتاج خاطئ. فنظام الحكم القائم الآن لا يسمى حكومة السودان ذات النظامين وإنما يسمى حكومة الوحدة الوطنية المنشأة بموجب إتفاقية السلام الدائم والتي يحكمها دستور السودان الإنتقالي. إذن كل قرار نتخذه ينبني على ما أقرته الإتفاقية ونص عليه الدستور وكلاهما قد قضى أن يكون هناك إستفتاء يقرر عبره الجنوبيون مصيرهم. أنا اعرف الهموم التي تجوس في خاطرك وأنت تبحث عن كل ما يمكن أن يحول دون إنشطار السودان. في السياسة لا يعمل الناس بمنطق رعاة الماشية: «سيد الرايحة يفتش عليها في خشم البقرة». البقرة الوحيدة ? لسوء الحظ او حسنه لا أدري ? التي تفتش في داخلها عن الحلول هي الدستور أو الإتفاقية التي إنبنى عليها. كلاهما ليس بمقدس ولكن تعديلهما لايتم إلا بالطريقة التي حددت الوثيقتان بشأن التعديل.
* هل توافق على انه يمكن الإستمرار بنظام الحكم الحالي وباتفاق الشريكين لعدة سنوات خاصة بعد تنفيذ تقسيم الثروة والسلطة وتوقف الحرب؟
مرة اخرى نعود إلى منطق رعاة الماشية. لا أنا ولا أنت ولا حزب المؤتمر ولا الحركة الشعبية ولا مجتهدة الصحافة والإعلام الذين يسعون كل صباح لإختراع العجلة من جديد، ولا الجنرال قريشن الذي تقول أن دولته تسعى لتفتيت السودان يملك ان يرد عليك بالإيجاب. رغم ذلك اتجاسر لأقول لك نعم أوافق شريطة أن تحصل لي على تفويض من أهل الجنوب الذين كفلت لهم الإتفاقية والدستور الحق لتقرير مصيرهم لكيما اتخذ نيابة عنهم القرار الذي يحفظ للسودان وحدته ويحقق لهم مطامحهم. فإن افلحت في الحصول على ذلك التفويض سأسعى، بعون الله تعالى، لأكون عند حسن ظنك.
* هل يمكن لأي إقليم او ولاية.. او مديرية (سابقا) ان تطالب بالإنفصال و إقامة دولتها مسترشدة بما تم للإقليم الجنوبي.. ام أن هناك شروطا ومطلوبات لابد من توافرها.. وما هي؟
المطالبة بالإنفصال لا تحتاج لإسترشاد بأية تجربة، إلا إن أردت القول أن التجارب تعدي. كما أن الإنفصال لا يتم وفق شروط ومطلوبات، وإنما يقع لأن الوحدة لم تعد عند أهل هذا الإقليم أو ذاك ذات جدوى وليس فيها ما يُرغِّب. هذا هو ما دفع كرواتيا مسقط رأس تيتو لتكون هي وسلوفينيا أول ولايتين تنسلخان عن يوغسلافيا التي أنشأها تيتو. كما هو الذي جعل مسلمي البوسنة والخزر ينسلخون عن ذلك الإتحاد وكنا في السودان ندعو الله في المساجد لينصرهما «على القوم الظالمين».
السودان قبل الحكم التركي كانت تحكمه دويلات من شرقه إلى غربه. توحيد السودان كدولة حديثة بدأه الأتراك وثبتوه بحد السيف. وعلى أي الذي يقرر بقاء السودان كدولة موحدة في الزمن الراهن أو إنفراط عقد وحدتها هي عوامل و ظروف موضوعية: جغرافية / سياسية / ثقافية تفضي إلى مصالح مشتركة. وبقدر إدراكنا لهذه العوامل الموضوعية وإدراك ما فيها من تقاطعات ومصادمات، وبقدر نجاحنا في تكثيف المصالح الجمعية، وتقليص المصادمات تفلح في تحقيق الوحدة.
* ألا تعتقد أن تمرد توريت كان الشرارة التي انطلقت منها النيران في السودان.. كمفكر وسياسي ومراقب وباحث متفرد.. كيف تقيم ذلك التمرد وما هي اسبابه.. ومن ثم تداعياته؟
في عام 1955م كلفت حكومة الزعيم الأزهري لجنة برئاسة القاضي قطران للتحقيق في تلك الأحداث. الذي يطلع على ذلك التقرير يعرف ان كانت تلك الاحداث هي الشرارة التي إنطلقت منها النيران في كل السودان. التقرير متوافر لمن يحبون القراءة فقد بسطه مركز الدراسات السودانية على الناس منذ بضع سنوات ليذكر به من شاء أن يتذكر من الباحثين. محنة السودان التي لم يفطن لها الدكتور حيدر إبراهيم الذي نذر نفسه لعقلنة الحياة العامة هي أن أكثر الذين يتصدون للكتابة في الشأن العام هم أقل الناس إقبالاً على القراءة، بل إدراكاً لأهميتها في البحث وإستصدار الأحكام. على كل حال، ما هو أهم من تقرير قطران هو البحث عن الاسباب التي أدت إلى إطفاء هذه النيران في عام 1972 وفي عام 2005م. تقرير قطران قد يفيد الباحثين من اساتذة العلوم السياسية والتاريخ ولكن لا يعين على حل لمشكل الذي يحيط بنا. ولو كان هنالك من راغب في القراءة عليه أن يقرأ مثنى وثلاث ورباع إتفاق السلام الشامل دستور السودان، قبل التقارير التي مضى على صدورها ما يزيد على نصف قرن.
* وأن نيران الحرب تلك ? وقد انطفأت في الجنوب ? امتدت إلى دارفور التي يبدو أن حركاتها المسلحة تخطو ذات الخطوات التي اتخذتها الحركة الشعبية.. أم ان هناك اختلاف؟
طبيعة الصراع في دارفور قد تتفق في جوهرها مع قضية الجنوب كظلامات تاريخية: إقتصادية وسياسية وإجتماعية إلا أن هناك إعتبارات ثقافية ودينية وجيوسياسية تجعلها جد مختلفة. تلك الإعتبارات التي تميز دارفور عن الجنوب كان من الممكن أن توفر ارضية ثابتة لمعالجة المشكل. التململ الدارفوري يعود إلى حركة سوني ولكن الظاهرة الهامة في احداث دارفور هي أن أولى الحركات المسلحة التي إنطلقت منها كانت بقيادة دارفوري خرج من رحم الحركة الإسلامية: داؤود بولاد. لا يقدم ولا يؤخر في هذا الأمر إستعانته بالحركة الشعبية فلولا إستقوائه بها لما كان في مقدورها أن تدعمه. واشد حركات دارفور مغالبة للنظام اليوم يقودها إسلامي آخر: خليل إبراهيم. لماذا أنعت هذا الحدث بالظاهرة ؟ أقول حين إستطاع قرنق أن يحول الحركة الشعبية ? خاصة العنصر غير الشمالي فيها ? من مجموعة لم تكن ترتقي مطامحها السياسية إلى أفق اعلى من الرقعة الجغرافية التي تعيش فيها، إنكفأت أهم قيادات الحركات الدارفورية ذات التوجه الإسلامي السياسي من الفكر الذي يهدف إلى تجاوز الإقليم والعرق، بل الوطن، إلى آفاق إنسانية عليا (الفكر الإسلامي الكوني) إلى مطالب تتعلق برقعة جغرافية محددة وبسكان تلك الرقعة. هذه الظاهرة كانت جديرة بالتملي على المستوى الفكري من جانب الإسلاميين، بل من جانب غيرهم من أرباب العقائد الذين ينشدون إعادة صياغة الوجود المطلق.
وراء التطور الإنساني دوما فكر خلاق، أوعمل قاصد، أو هو نتيجة غير محسوبة لأي منها أو لكليهما. مثلاً ظللنا نقول أن الحسنة الكبرى للطائفية الدينية في الشمال هو توحيدها لقبائل الشمال والإرتقاء بها إلى مستوى أعلى من مستويات التدرج الإجتماعي: من القبيلة التي تحصرك في افق جغرافي معين، إلى الطائفة التي تجمعك مع قوم آخرين في أفق وطني اعلى. مشكلة الطائفية بدأت عندما سعت لحبس من والاها في اطر تنظيمية أو فكرية لا تتوافق مع التطور الذي طرأ على المجتمع. الذين رحلوا عن تلك الطوائف إلى احزاب حديثة تلبي مطامحهم وتستجيب لأشواقهم مثل بولاد وخليل صدموا كثيراً عندما رأوا البون البون الشاسع بين جنة الله على الأرض التي وعدوا بها الناس وبين ما هو أدنى: تحسين الأوضاع التي عليها اهلوهم، وهم اولى بالمعروف.
زاد الأمر بلبالاً تعامل النظام مع القضية، منذ منشئها، تعاملاً امنياً وإنتقامياً صحبه تهوين غير ذكي لما يدور في دارفور بحسبانه نهباً مسلحاً. كلا الأمرين جعل الخارجين على المنظومة الاسلامية يعبرون نهر الربيكون كما عبره يوليوس قيصر إلى حرب دون رجعة، كما أعطى القضية بعداً عرقياً ما كان ينبغي أن يكون لها.
مشكلة أخرى هي إستئثار حزب المؤتمر بالسعي لحل ذلك المشكل ذي الأبعاد القومية - حتى على مستوى المشاركة في إبتداع الحلول، أما للظن بان الحل في متناول اليد ولهذا يريد حزب المؤتمر الإستئثار به، او الخشية من أن تصبح مشاركة الآخرين، خاصة الشعبي معبراً لتحالفات عدائية لهذا لم يتجاوز التواصل بين الحكومة - ممثلة في حزب المؤتمر - وبين القوى الأخرى بشأن دارفور اللقاءات العابرة التي لا تحقق مكسباً لأهل دارفور وقضيتهم، ولا تفيد حزب المؤتمر غير الكسب الإعلامي، وقد ترضي طموح بعض القيادات التي أصبح غاية ما تتمناه هو ما يسميه الخواجات ( ) اي فرصة للظهور في الصورة مع الرئيس.
إيجاد الحلول العملية لمشاكل دارفور تركناه للمبادرات الأممية والأفريقية بدلاً من الأحزاب الوطنية المعارضة. ومن جانب تلك الأحزاب لم نعرف واحدة منها جعلت من قضية دارفور قضية محورية يتم تداولها في غرفة عمليات دائمة . من المؤسف أيضاً انا لم نشهد منظمة واحدة من منظمات المجتمع تسير تظاهرة من اجل دارفور كما يحدث في بلاد العالم. ومع ادراكنا لأن جانباً كبيراً من التحرك الخارجي تحرص عليه مجموعات ذات أجندات غير خفية على رأسها النكاية في حزب المؤتمر إلا ان كثراً من أولئك المتظاهرين تدفعهم الشفقة على أهل دارفور.
بآخره بدأ النظر في القضية من منظور إستراتيجي شامل يحدد معالم القضية وعناصرها الداخلية، ويتناول المفاعل الخارجي كََعَرض، والأعراض لا تقوم إلا بغيرها إذ تطرأ وتزول بإزالة البؤر الداخلية التي سمحت لها بالإستشراء. من واجبنا الإطراء على ذلك المنظور الذي اعده الدكتور غازي عتباني برصانة عرفت عنه ولكن حتى لا تفقد تلك الإستراتيجية المصداقية عليها أن تتضمن خمسة أمور:
الأول الإعتراف بالأخطاء التي أرتكبه إبتداءً بالتهوين من قضية دارفور لا من باب جلد الذات وإنما لإقناع من يلزم إقناعه من المتأبين من أهل دارفور، خاصة الذين تربوا في كنف الحركة الإسلامية وتأدبوا بأدبها إلى جانب الذين وقعوا الإتفاقيات مع حكومة الوحدة الوطنية وما فتئوا يتشككون من عدم إنقاذها كاملة.
الثاني هو إشراك القوى الإجتماعية من خارج المؤتمر إشراكاً فاعلاً في الحل، خاصة من يملك ان يعين بالرأي والتجربة في الجامعات والمعاهد وذوي الخبرات في الإدارة.
الثالث هو إيلاء إعتبار اكبر لموضوع العدالة والتي هي حجر الزاوية، ليس فقط في المصالحة بين أقوام دارفور كما ذكرت الوثيقة الإستراتيجية بحق، بل أيضاً لإنهاء الإستغلال المُغرِض للمحكمة الجنائية الدولية لأهداف لا تهم بالضرورة اهل دارفور وأمن السودان.
الرابع وهو ذو صلة بما سبق أن نأخذ دور الإتحاد الافريقي ودور وفده المقيم في السودان مأخذ جد: نقبل منه الحقيقة الناصعة التي تهدي إلى سواء السبيل، ولا نحمله على ان لا يعزف لنا غير الموسيقى التي تشنف آذاننا. ومن بين امثال أهلنا السائدة: «الما بكاتلك ما بكاتِل لك».
الخامس إيقاف أي مبادرات امنية أو عسكرية أو سياسية أو إعلامية في المستويات الدنيا والوسيطة تخل بالإستراتيجية الشاملة الشاملة.
* هدد قادة الحركة الشعبية وتوعدوا ?وفي مقدمتهم الراحل د. جون قرنق- بطرد العرب الجلابة من السودان ?كما طرد العرب من الأندلس سابقا- ألم يكن يستفزك هذا الطرح أثناء الحرب، وقد كنت ومازلت أحد قيادات الحركة الشعبية ومفكريها؟
من هم قادة الحركة الذين هددوا وتوعدوا؟ ومتى طالب قرنق بطرد العرب من السودان كما طرد العرب من الأندلس؟ في هذا السؤال فساد وإضطراب. قيادات الحركة تعرف جيداً من هم العرب الجلابة، ولكن أكثرهم لا يعلم شيئاً عن الاندلس وخروج العرب منها. أما قرنق فمن السخف نسبة رأي كهذا إليه إذ هو الذي بشر بقيام سودان جديد لُحمته الحقائق التاريخية منذ الدولة النوبية إلى الدولة النوبية المسيحية إلى الدويلات الإسلامية بإعتبارها جميعاً مقومات للوطن السوداني الذي هو، حسب نظره، في طور التخليق. تلك هي اللحمة، اما السَدى فهو التعايش بين اقوامه على أختلاف مللهم ونحلهم تعايشاً خلاقاً يُفضي إلى التمازج والإنصهار.
الذي يستفزني هو الكذب على الأحياء والتكذب على الموتى لأنه يرضي فيّ الباحث الناقد الذي يسعى لتعرية المتكذبين وأصابتهم في مقتل. كما يستفزني أن يكون بين اهل السودان من يفترض أن مستعربة السودان أنظار لعرب الأندلس. الذي يظن هذا يضع كل ذوي الإصول العربية في السودان في موضع حرج. فالعرب الذين جاءوا السودان لم يفدوا اليه كغزاة فاتحين. جاءوا إليه وفيهم الباحث عن مرعى اخضر، وفيهم الساعي وراء تجارة رابحة، وفيهم الراغب في نشر الدين والعلم. هؤلاء جميعاً استقروا بين اهلهم من النوبة، وتصاهروا وتناسلوا حتى أصبحوا جزءًا من نسيج جديد. وإن كان هناك بعد كل هذا التمازج من لايزال يظن أنه حفيد لبني عبد شمس فما أحرانا بحمله على النظر على وجهه في مرآة، وإن أصر على أنه مازال عبشمياً (اي من بني عبد شمس) فلا مجال إلا لأخذه إلى أقرب مارستان.
حوار: كمال حسن بخيت - مالك طه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.