التطور الفكري لدي الدكتور جون قرنق: تحليل أسباب صراع قيادات الحركة الشعبية المتتبع للتطور الفكري للحركة الشعبية للتحرير السودان سيكتشف حتما ان تطورها الفكري إرتبط بالتطور الفكري لقائدها ومفكرها الأوحد الدكتور جون قرنق دي مبيور فقد تحركت معه هذه الحركة من أقصي اليسار الماركسي – اللينيني في الفترة من 1983م إلي 1994م إلي منتصف اليمين الإشتراكي الديمقراطي في الفترة من 1994م إلي 2005م. فالدكتور جون قرنق بدأ ثائرا علي الطريقة الجيفارية التي سادت فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين. والثورية الجيفارية هي النسخة اللاتنينة للماركسية اللينينة والتي إستبدلت طبقة العمال والمهنييين بالفلاحين الذي يقوده طليعة ثورية مثقفة وهذه المدرسة هي التي إنتمي لها كل من الرئيس سلفا كير والأمين العام فاقان أموم أيضا. وقد تعرض الدكتور جون قرنق لمراجعة فكرية علي مدي ثلاثة سنوات بعد أن تعرض لتحدي فكري إثر إعلان الناصر الذي صاغ معظم أفكاره الدكتور لام أكول أجاوين فهو رغم ماركسيته الواضحة لكنه بدأ متاثرا بالسندكالية أو النقابية وهو منهج ماركسي إصلاحي يتبني العمل السلمي بديلا للعمل الثوري المسلح وتقوم أدوات نضاله علي الأضرابات العامة تحت قيادة النقابات المهنية والعمالية وهو فعلا كان ناشطا في إتحاد أساتذة جامعة الخرطوم وقد كان فاعلا في قيادة الإضرابات التي سبقت ثورة أبريل من عام 1985م وأدت لسقوط نظام نميري لكنه دفع دفعا لخوض النضال المسلح. والسندكالية أو النقابية هي النهج الذي إختطه الحزب الشيوعي السوداني بعد أن هزم النميري الماركسيون الثوريون بقيادة عبدالخالق محجوب وهاشم العطا في إنقلابهم المشهور ويبدو ان لام أكول كان مقربا من الجبهة الديمقراطية اثناء دراسته الجامعية رغم أنه لم يكن عضوا بها لكنه كان واضح التأثر بالأفكار الماركسية. أما الدكتور ريك مشار فهو رغم ثوريته الجيفارية لكنه يبدو انه قد إستسلم لأفكار الديمقراطية الليبرالية أثناء دراسته في بريطانيا لنيل الدكتوراة وهي الفترة التي واكبت صعود اليمين المسيحي المحافظ بقيادة مارغريت تاتشر ونظرية الطريق الثالث الأقرب للإصلاحيين الإشتراكيين. ويبدو من حيث تحليل إعلان الناصر أن من صاغوه لم يتحملوا "دكتاتورية الطليعة" التي كان يقودها قرنق. فبعد القضاء علي "القوي الرجعية" من قوات أنيانيا تو ومواجهة "قوات البرجوازية الصغيرة" ممثلة في الجيش السوداني يبدو انهم توقعوا مشاركة أكبر في إصدار القرارات "الكبيرة" التي تخص مستقبل الحركة والجيش. لكن الطبيعة الفكرية للماركسية اللينينة – الجيفارية تؤمن إيمانا قاطعا بمبدأ الديقراطية المركزية وبقيادة القائد الفيلسوف كما انها تؤمن بمبدأ إزالة الخصوم الفكريين أو تصفيتهم وهي أفكار يسميها الديمقراطيين الليبراليين بالدكتاتورية. عامل مهم وقف حجر عثرة أمام الأفكار الماركسية اللينينة للدكتور جون قرنق وهو أن الحركة الشعبية للتحرير السودان كان قد إلتحق بها كثير من الطليعة المثقفة والواعية من خريجين جدد وطلاب جامعات وأساتذة جامعات بالإضافة للقوي الكادحة من فلاحين ورعاة وبعض العمال. ومن غرائب الصدف أنه كما تنبأ كارل ماركس بأن الرأسمالية تحمل بداخلها بذور فنائها نسبة للتناقضات التي تحملها حيث تستغل الطبقة الإرستقراطية الطبقات الوسطي والكادحة, فإن الماركسية الشيوعية تحمل بداخلها أدوات تدمير نفسها بداخلها أيضا لأن الماركسية تعمل من أجل إستنارة وتعليم المجتمع وتحكم هذا المجتمع بقبضة مركزية أو كما يسميها ماركس بدكتاتورية البرولتاريا أو حكم الطليعة كما يقول لينين. لكن الحقيقة الفلسفية الموجعة هي أن الإستنارة والدكتاتورية لا تجتمعان. لذلك إنهار الإتحاد السوفيتي لكثرة المستنيرين الذين يرفضون ان يتحكم فيهم أقلية مركزية. وقد تمكن الحزب الشيوعي الصيني من ملاحظة هذه النقطة فعمل علي إبتداع حكم الجيل إذ تتغير اللجنة المركزية الحاكمة كل عشرة سنوات بما يضمن إدخال قيادة جديدة بجيل جديد. لذلك فقد ظهر تنظيم ما يسمي بالضباط الأحرار داخل الجيش الشعبي وبدأوا في توزيع كتيب بعنوان لماذا يجب ان يذهب قرنق؟ وهؤلاء الضباط كان معظمهم من الثوار الماركسيين اللينينيين لكن دكتور قرنق لم يشركهم في إتخاذ القرارات العسكرية والسياسية. فرأوا ان قائدهم يدير الحركة بمفرده وهو ما يشكل دكتاتورية فردية عكس دكتاتورية الطليعة والديمقراطية المركزية التي كانوا يؤمنون بها, لذلك ذهب بعضهم لأبعد الحدود وتشكك في ماركسية قرنق نفسه وقد وثق الدكتور لام أكول شكوكه تلك في كتابه إعلان الناصر إذ ذكر موقفا شخصيا مر به فيي كبويتا عندما تفاجأ حسب زعمه ان الدكتور جون قرنق لم يطلع من قبل علي كتيب الجدلية التأريخية والجدلية المادية لماركس وهي أساس الفكر الديالكتيكي. عموما بعد تمرد الطليعة الثورية علي قيادة الدكتور جون قرنق مثل الدكتور لام اكول والدكتور ريك مشار وسجن بعضهم مثل مارتن ماجير وشول دينق ألاك واتير بنجامين. قرر الدكتور جون قرنق الدخول في مراجعة فكرية شاملة خصوصا وان إعلان الناصر إشتمل علي قضايا جوهرية وهي قضية تقرير المصير وحقوق الإنسان وديمقراطية مؤسسات الحركة الشعبية ومن الواضح ان هذه المراجعة الفكرية إمتدت من عام 1991م إلي عام 1994م وقت المؤتمر الأول للحركة الشعبيىة في شكدوم ففي هذا المؤتمر تبنت الحركة الشعبية مسارا فكريا جديدا هي الأشتراكية الديمقراطية وتدعو الاشتراكية الديمقراطية إلى زيادة حقوق العمال, و توسيع الديمقراطية الاقتصادية لضمان حقوق كافية من الإدارة المشتركة لجميع العاملين و الموظفين, و تطبيق مجانية الخدمات الاجتماعية العامة كالصحة, و التعليم, و رعاية الأطفال و المسنين. تنشط الأحزاب الديمقراطية في النقابات العمالية حيث تروج للبرامج الإصلاحية و التفاوضية التي تهدف إلى الظفر بمزيد من التعويضات لصالح العمال وتتبنى الديمقراطية الاشتراكية نظام الاقتصاد المختلط أو اقتصاد السوق الاجتماعي وهي المبادئ الموجهة لرؤية السودان الجديد. ويرفض الاشتراكييون الديمقراطيون الاضطهاد و الفقر و التفاوت الناجم عن السوق الحرة, كما يرفضون الاقتصادات المخططة والمدارة مركزياً ويعمل الاشتراكيين الديمقراطيين على إصلاح النظام الرأسمالي القائم عبر دمج عناصر اشتراكية بعناصر رأسمالية لضمان العدالة الاجتماعية و بناء دولة الرفاهية والمثال الواضح هو الإقتصاد الصيني بعد نهاية عصر الثورة الثقافية الماوية بقيادة ماو تسي تونق وصعود برنامج دينق ضياوفينق الإصلاحي المنفتح. وقد تبني مؤتمر شكدوم كل ما جاء في إعلان الناصر ساحبا البساط منها عندما تبنت جق تقرير المصير وأكدته في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا مع التجمع الوطني الديمقراطي كما أنشأت الحكم المدني في الأراضي المحررة وأدخلت المنظمات الدولية لمراقبة حقوق الإنسان ويقال أن هذا التحول الفكري تم بمعاونة قيادات مثل الدكتور منصور خالد وهو إشتراكي ديمقراطي بخلفية متشبعة بالثقافة الغربية. الآن يبدو جليا ان داخل الحركة الشعبية معسكران فكريان: معسكر ما زال متمسكا في لا وعيه بالديمقراطية المركزية او دكاتوتورية الطليعة ويريد ان يقلد المرحلة الأولي من العمر الفكري للحركة الشعبية من عام 1983 ألي 1994م ومعسكر يريد أن يتبني الديمقراطية الليبرالية بنكهة إشتراكية. التحدي يبدو واضا كما ذكرنا من قبل وهو ان الحركة الشعبية تفتقد لمنظرين لمواجهة هذه التحديات الجديدة. أجاك مكور [email protected]