مساء الأربعاء وقبل مغادرتي المكتب سلمني الزميل حامد إبراهيم مقالة للبروفيسور مهدي أمين التوم جاءت عبر الإنترنت تحت عنوان "أحلام قبل الرحيل الأبدي". ونصحني حامد بقراءتها.. لم أكن أعرف البروف التوم من قبل ولكن مقالته استوقفتني طويلاً، هو يكتبها وهو على مشارف الخامسة والسبعين، والمقالة تحمل قدرًا كبيرًا من الصدق، وأمنيات هو سمّاها أحلامًا نتمنى جميعنا أن تتحقق حتى يعود للسودان وجهه الصبوح بعد أن عاش أهوال ثلاثة أنظمة شمولية قاهرة، وفوضى عدّة أنظمة ديمقراطية عابثة "لنجد أنفسنا في آخريات أيامنا نعيش غرباء ومضطهدين في وطن لم يعد مليون ميل مربع كما ورثناه من الآباء والأجداد". أولى الأمنيات التي سمّاها البروف التوم أحلامًا مشروعة أن نجد الساحة السياسيّة خالية تمامًا من كل من عبثوا بها خلال الثماني والخمسين سنة الماضية "أي منذ استقلال السودان عام 1956"، أحلم بإزالة الإنقاذ حزبًا وشخوصًا ومفاهيم، كذلك أحلم بغياب الطائفيّة تمامًا عن الساحة السياسيّة وحتى الاجتماعيّة واصفًا إياها بأنها استعباد لا يليق بعالم القرن الحادي والعشرين واستغلال لإرث لا يملكونه ولم يصونوه وقال: "كفانا دورانًا حول أنصارية مزعومة، وختمية مدعاة"، موضحًا أن تاريخ كلتيهما البعيد والقريب ينطوي على مآخذ ومحن تؤهلهما للانطواء الأبدي. ويورد البروف التوم العديد من الأحلام التي نتشاطرها معه والتي نتمنّى أن تتحقق، منها أن السودان يستحق أن يكون له نظام حزبي متقدّم ينظم حياته السياسية على أسس ديمقراطية ثابتة تقوم على المؤسسيّة الفعليّة وليس النظريّة، كما يحلم بأن يعود السودان مقسمًا إلى وحدات إدارية كبرى إنهاءً لعبث التشرذم الولائي الذي أضعف الانتماء الوطني عبر بعثه للقبليّة والجهويّة البغيضة، وأن يُحكم السودان مركزيًا كما في الماضي شريطة أن يواكب ذلك توفير كوادر إدارية مؤهلة وقادرة. ويُعيدنا البروف التوم إلى أيام الزمن الجميل أيام مجانيّة العلاج ومجانيّة التعليم، ويقول إن التعليم هو أساس المستقبل ولكنه الآن مُحتضَر، ويحلم بإدخاله غرفة الإنعاش، حيث يحتاج التعليم العام إلى إعادة صياغة هيكليّة وعلميّة والعودة إلى الثلاثيّة المجربة: أساس ومتوسط وثانوي، ولكل مرحلة سنوات أربع تليها تصفيات طبيعية عبر منافسات أكاديمية عادلة تؤهل البعض للتقدّم علميًا كما تؤهل آخرين للتقدّم في سلم المهنيّة التي يحتاجها المجتمع بقدر احتياجه للأكاديميين، مسترجعًا الحلم بعودة بخت الرضا كفكرة تؤازرها مجموعة معاهد تدريب المعلمين التي تخلق من التعليم مهنة جديرة بالاحترام وليست مهنة من لا مهنة له. كما تمنّى عودة التعليم الأهلي بمفهومه الصحيح، مستذكرًا الشيخ بابكر بدري وروّاد مؤتمر الخريجين الذين أرسوا قواعد ومفاهيم التعليم الأهلي في السودان فنفعوا به الأبناء والبنات دون مَنٍّ أو أذى أو تربّح ظالم على حساب الأفراد والمجتمع. ويضيف البروف: إن ما حدث من عبث منهجي وهيكلي بالتعليم العام انعكس سلبًا على التعليم العالي فانحطّ هو الآخر وضعفت مخرجاته وأصبحت سمعة مؤسساته في الحضيض وخرجت جامعاته من مظلات الترتيب العالمي، ويحلم بعودة الجامعات السودانية إلى مواقعها المتقدّمة في العالم والإقليم. وحلم آخر يراودنا جميعًا هو عودة دولة الرعاية الاجتماعيّة التي أعطت المجتمع تعليمًا راقيًا وأعطته خدمة طبية ممتازة متاحة مجانًا لكل أفراد الشعب دون تمييز ودون طبقيّة، ويحلم بأن يكون المعلمون هم الأكثر تقديرًا ماديًا ومجتمعيًا، فهم بناة المجتمع الحقيقيون الذين يحترقون لإنارة الطريق لأجيال المستقبل، وقال البروف التوم: إن هناك أحلامًا كثيرة يحتاج تفصيلها إلى مجلدات، غير أننا نتفق معه على وجوب اختفاء مصطلح "عفا الله عما سلف" من قاموس أهل السودان ليدفع كل من اقترف ذنبًا في حق هذه البلاد العظيمة ثمنًا يليق بجرمه وليرعوي الآخرون ويتقوا الله في وطنهم وأهلهم .. ولك الله يا وطني. [email protected]