شاهدت حلقتين من برنامج "فلاش باك" لقناة الشروق خلال الأسبوع الأخير من مايو الحالي، وكان الضيف في الحلقتين الأستاذ جبريل عبد الله علي. موضوع الحلقتين تمحور حول السلطان علي دينار الذي تولّى السلطة على دولة دارفور في الفترة ما بين 1898 – 1916 م. ولعل خلفية الاستضافة قد جاءت عقب تدشين الأستاذ جبريل لكتابه الذي أصدره أخيراً تحت عنوان "من تاريخ مدينة الفاشر"، رغم أنني لم أحظ بقراءة الكتاب بعد، وبالتأكيد أتشوّق إلى ذلك لما يمكن أن يتضمّنه من تذكير بالكثير مما أعرفه ولا أعرفه، لكن بلا شك هو جهد مقدّر ومطلوب من كل الذين نالوا قسطاً من المعرفة وصقلوها بالمعايشة والتجربة أن يساهموا في إثراء الساحة المعرفية في مناحيها المتعددة، لا سيما تلك الكتابات التي تلامس مناحي تاريخية واجتماعية لم يتطرق لها آخرون من قبل. أما عن الحلقتين في قناة الشروق، فقد أجاد الأستاذ جبريل في سرده عن سيرة السلطان علي دينار ومآثره ونهجه في الحكم، وأبان الكثير من الجوانب الإيجابية التي كانت وما زالت غائبة عن معارف الكثيرين، ولعل قدرة الإستاذ التي تراكمت من كونه كان معلماً لمادة التاريخ ضمن مواد أخرى في المرحلة المتوسطة، قد أكسبت سرده رصانة التوصيف وحسن الترتيب، وأجمله بحدس التوثيق، وزاد على ذلك بدقّة تذكّره للتواريخ التي بدورها ستبقى ساحة رحبة للمؤرخين والباحثين من بعد للتمحيص. ولن أجزم لكن لم تتأثر ذاكرته بتعريات تقدّم السن كأمر حتمي أحياناً وهو الذي إذا لم يتجاوز الثمانين فعلى أعتابها، ولعل ذلك التعتيق التجاربي أيضاً قد أكسب السرد ميزة التأطير والتبيين. مقدمة البرنامج (عفراء) ورغم فارق السن بينها وبين ضيفها إلا أنها أفلحت وساهمت بنهجها المتراتب وأسئلتها المتبانية في أن يتم تقديم خلاصة التعريف بخصائص السلطان علي دينار ونهجه في إدارة دولته وتعاملاته الدبلوماسية، وقد تم كل ذلك في إطار زمني قصير تمثّل في الحلقتين، ولكن بمضمون متكامل يُمكّن الراغبين في البحث من مرجعية داعمة ستساهم في ردف مساعيهم للتوثيق. ليس الكتاب ولا مضمونه هما هدف هذا المقال، وإنما بعضاً مما سرده الأستاذ جبريل ضمن ذلك اللقاء والذي أجد فيه مساً شائهاً وواخزاً لقامة زعماء أهليين هم زعماء لعشائرهم ووجهاء لقبائلهم، كانت وما زالت مساهماتهم الاجتماعية ومساهمات أقرانهم، أعرافاً تعيش في المجتمع، ونضالاتهم معالم يسندها التاريخ وتجسّدها تضاريس الجغرافيا، ألا وهما السلطان محمد دوسه والناظر دبكة. قد يأخذ القارئ شهادتي عن الأول مجروحة لصلتي به كوني أحد أحفاده، رغم قناعتي بأن صلة الرحم لا تجبّ ضياء الحقيقة ولا تخدش أصالتها، لكني بالتأكيد أزاود بطمأنينة في المكانة المرموقة للناظر دبكة وسائر زعماء القبائل في دارفور وفي غيرها، وفي مقدّمتهم السلطان علي دينار، بالأدوار الكبيرة التي قاموا بها. وأُثنِي على صيت نبائلهم وبالتأكيد على حكمتهم التي ظلّت هادية لقبائلهم وداعمة للنسيج المجتمعي المتجانس، قبل أن تطاله الآن سِنان السِنين العُجاف. أسمحوا لي الآن أن أورد الأسماء بدون ألقابها. لقد جاء على لسان جبريل عبد الله بأن "محمد دوسه ودبكة" قد تربّيا في منزل علي دينار وأضاف بعد حين في سياق متتابع أنهما عملا في بناء القبّة التي بناها الأخير تخليداً لذكرى والده زكريا، وزاد قائلاً أن علي دينار كان يقول عن دبكة "ولدي دبكه ده يوم يبقى زعيم في أهله" ثناءً لنشاطه في نقل الطوب كما جاء على لسان جبريل. أولاً بالنسبة لي أين تربى محمد دوسه معلوم بتفاصيله، ولكن للمتلقين ممن شاهدوا البرنامج وسمعوا ذلك الحديث المُلقى على العواهن، وأؤلئك الذين ربما نُقِل إليهم، أؤكد لهم الحقيقة بحججها الدامغة أن محمد دوسه لم يتربى في منزل علي دينار ولم يعمل في بناء القبّة، لأنه حين التقى علي دينار لأول مرة في العام 1904م أو بعد ذلك بقليل، كان شاباً قارب الثلاثين، وحسبي أن دبكه أيضاً لم يتربّى في منزل على دينار، بيد أن القول الفصل في ذلك لآل دبكة وقبيلة البني هلبه. وحتى إذا أحسنّا الظن وتجاوزنا عن المفردات التي صاغت القول وأوّلنا معانيها بما قد يقصده جبريل بأنهما تربّيا، أي نهلا نهج الحكم في بيته، لانهزمت ظنوننا المعتدلة بما قاله عن واقعة بناء القبّة، لأنه قول تعضيد لتوضيع مهدوف، فضلاً عن أعمار الزعيمين حينها. لا أقول هذا الحديث تقليلاً من شأن الذين تربّوا في منزل علي دينار أو تشويهاً لمن عملوا في بناء القبّة أو مهنة البناء في ذاتها، فهي مهنة شريفة وقد كان أبو الأنبياء إبراهيم علية الصلاة والسلام قد مارسها عندما وضع قواعد الكعبة، وأن الرسول محمد صلي الله عليه وسلم قد أعاد وضع الحجر الأسود بيديه في ركنها في حقبة لاحقة. لكن المهنة الشريفة قد تفقد شرفها إذا أراد البعض قاصدين أو غافلين وضع مُمَارسُها في سياق وضيع ومعيب وشائه الصياغة، فكيف الحال إذا كانت المعلومة عارية عن الصِحة في الأصل. أقول ذلك لمجانبة حديث جبريل للحقيقة مضموناً وواقعاً ووقائعاً وتحليلاً، لا سيما وأن المساحة الزمنية منذ تولّي علي دينار السلطنة ليس بعيداً من حيث عدد السنين التي تفصل بينه وبين حاضرنا بما يزيد على (قرن) واحد بستة عشر عاما لِمن أراد تقصّي الحقيقة في شأن خلالها. وقول جبريل في ظنّي الغالب يعتمر الإشانة والتقليل والتطاول، وأرجو أن يخطّئني هو بقول مبين، فإن الحديث الذي أورده بصيغة متكررة في سياقات مبتورة خلال البرنامج والذي يمكن لكثير من المعمّرين أن يضحضوه، وللمحللين أن يشنّفوه اتّساقاً مع معطياته، لا يخرج والأمر كذلك عن أمرين هما، إما أنه زل لسانه أو قصد الذل للشخصيتين ولقبيلتيهما، وأدنى المصيبتين مُر. فأما الأولى فهي تستضمن تسامحها في داخلها بشرط اعترافه بذلك، وأما الثانية فلا يجبّها إلا اعتراف وتصحيح واستسماح علني وعبر نفس الوسيلة التي تحدث فيها وهي القناة التلفزيونية، وبغير ذلك تبقى الجروح غائرة بلا مرية وقد يطول اندمالها. ما كنت أتمنى أن ينزلق جبريل عبد الله نحو هذا المنزلق، وهو المربّي وفي هذه السن الراشدة التي ينبغي أن يكون قد تصفّح فيها برصيد التجربة ومُعين أصالة البيئة التي نشأ فيها في مدينة الفاشر. وكما أقطع أنا بعدم صحة الحديث لما نملكه من إرث تاريخنا الذي توارثناه عن الآباء والأجداد، أقطع أيضاً بعدم صِحّة الحديث لواقع كون الشخصيتين أبناء زعماء عشائر كانوا يشاركون ممثلين لقبائلهم في الاحتفالات الرسمية (الزفّة) التي يدعو لها علي دينار سائر زعماء القبائل في دولته آنذاك (دارفور). وعلي دينار الذي هو بمثابة رئيس دولة حينها، يتمتّع بكل صفات الحكمة والحنكة التي توارثهما عن أسلافه السلاطين، ويُدرك تمام الإدراك بأن عزة ومنعة وهيبة واستقرار وتوسّع دولته في ذلك الزمان، تقوم على علاقة متميّزة يحفظها بينه وبين سائر القبائل مُمَثلة في زعمائها، وبذلك فهو أكثر حرصاً على تقدير زعماء العشائر وتكريمهم وحسن وفادتهم وضيافتهم عندما يلبّون دعوته لهم للمشاركة في إحتفالات الدولة في مناسباتها المتعددة سواء في عاصمة الدولة (الفاشر) أو غيرها. وقدوم أؤلئك الزعماء وظهورهم في معية السلطان كان يعزز ويعضدد من منعة وقوة الدولة، والعكس يضعضعها ويهدّها، وبالتالي لم يكن مؤرّخاً ولا مشروداً ولا وارداً أنه سعى لإذلال أي منهم بما في ذلك الذين ناصبوه العداء في بعض الأحيان. لعل القارئ يوافقني في أن تخصيص جبريل عبد الله إيراد إسمي "محمد دوسه ودبكه" ضمن حديثه في واقعتين بذلك التركيز دون سواهم حتى من عامة الناس، إنما يرجّح الفرضية الثانية التي تعني بأنه قصد الإذلال. وهنا أتساءل عن الدوافع التي حدت به أن يسعى إلى استخدام المعلومة الخاطئة لإذلال الشخصيتين في برنامج تلفزيوني لا شك يشاهده الآلاف ويستمدّون من أهمية موضوعه بعضاً مما ينبغي أن يوثّق ويصبح تاريخاً تحفظه الأجيال. لم يشر جبريل عبد الله مثلاً إلى النضالات والتضحيات الكبيرة التي قدّمتها قبيلة السلطان محمد دوسه ووالده السلطان عبد الرحمن (فرتي) الذي استشهد في معارك ضد الفرنسيين ذوداً عن حياض الوطن، والذي ما زال قبره وقبور الآلاف من الذين استشهدوا معه من قبيلته (الزغاوة) مسجاة كشواهد تجسّد عظمة تلك التضحيات، والتي بها أوقفوا تمدد الفرنسيين شرقاً في دارفور، وحافظوا على حدود السودان الغربية ورسموها بدمائهم. ولم يتناول تاريخ ونضالات قبيلة البني هلبه، وهنا عندما أخص بتساؤلي القبيلتين، فإنما أملت عليّ ذلك ورود اسمي زعيميهما. كل ذلك التاريخ الناصع لم تُلن له قريحة جبريل عبد الله السردية، ولم تتواضع عنده حدود اللباقة، وآثر إصراراً أن يورد حديثاً لا يسنده مرجع ولا واقع ولا تحليل، وهنا يبرز السؤال بقوة حول المغزى من وراء ذلك مرات ومرات. الغريب في الأمر حتى عندما أراد تعزيز التعريف عن محمد دوسه قال هو جد (النائب) محمد بشاره دوسه، ولم يقل جد (الوزير) محمد بشاره دوسه، ولعله يزيدنا إمعاناً وإصراراً بالكشف عن مكنون ومخزون أقلّه خالي الإحترام يريد أن ينفثه، لكن القارئ أفطن من أن يتنسمه أو نشرحه له. جبريل عبد الله ومحمد بشاره دوسه ينتميان إلى تنظيم واحد هو المؤتمر الوطني الحاكم في السودان الآن، والأول تولّى يوماً رئاسة المجلس التشريعي في ولاية شمال دارفور. كان الأولى أن يرعى جبريل عبد الله حق الإنتماء لتنظيم واحد إن لم تثنه رعاية حقوق عرفية وأدبية واجتماعية وواعزية وضمائرية كثيرة في أن يُعطي زميله في التنظيم لقبه الذي يحمله الآن. بقي أن أقول بأن معرفتي بالأستاذ جبريل تعود إلى منتصف ستينيات القرن الماضي في مدينة الفاشر التي عشنا فيها، ونادي المريخ الذي لعبت له وكان هو سكرتيره، ومع فارق السن بيننا حيث يكبرني بكثير، لا بد أن أكنّ له الاحترام الذي تفرضه أعرافنا وتقاليدنا وتمليه علينا نشأتنا، ومن هنا فلا ينبغي تأويل ما أوردته في هذا المقال لأي منطلق شخصي ولا لأي بُعد قبلي له رغم مرارة مضمون أقواله. وبالتأكيد لن أقلل من أهمية سرده التاريخي والتوثيقي عن مآثر وحقبة وحكم السلطان علي دينار التي آمل أن تحفز الباحثين إلى المزيد من الدراسات والتوثيق، وأن يتمدد ذلك إلى توثيق كل النضالات التي قدّمها السودانيون ولا سيما النضالات التي لم يوثّقها المؤرخون حتى الآن وأغفلوا عنها عيلاً أوعمداً أو سهواً. عبد الجبار محمود دوسه 31 مايو 2014م [email protected]