مدخل: نشر هذا المقال فى كتاب ( خمسون عاما على ثورة اكتوبر ) الصادر من مركز الدراسات السودانية . ونسبة لعدم توزيع الكتاب داخل السودان ، للاسباب المعلومة ، اقترح بعض الاصدقاء ممن قراوا الكتاب ان اعيد نشر المقال فى المواقع السودانية ليصل للقراء داخل السودان. هزت ثورة أكتوبر الشعبيية ساكن الحياة فى السودان ، وخلقت وعيا ديمقراطيا طاغيا ، جعل من الصعب على كافة القوى السياسية تجاهل الرغبات الاكيدة و المعلنة لجماهير الشعب السودانى فى التغيير السياسى والاجتماعى. وادت الثورة ايضا لتحجيم نفوذ قوى اجتماعية كانت تتمتع بالسلطة المطلقة والطاعة العمياء من قبل قطاعات جماهيرية كبيرة و مؤثرة. كما ان الثورة اعطت قوى اجتماعية صاعدة مزيدا من النفوذ وابرزت تاثيرها على الحياة السياسية و تزايد القبول الجماهيرى لبرامجها البديلة وافقها الجذرى. واحدى اهم تلك القوى الاجتماعية التى تصاعد نفوذها بعد انتصار الثورة هى الحركة العمالية النقابية السودانية. وسنحاول هنا مناقشة دورها فى انتصار الثورة و تاثير انتصار ثورة اكتوبر على نفوذ الحركة العمالية و مناهجها فى العمل وتحالفاتها وبرامجها واثر تلك التحولات عليها ، فى المدى القصير والثمن الباهظ الذى دفعته فى المدى المتوسط ، و افاق تطورها فى المدى الطويل. تنقسم الورقة الى سبعة اجزاء. اولها يناقش نشوء الحركة العمالية ، وثانيها يتعرض لوضع الحركة ما قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958 ، وثالثها يعكس بعضا من المعارك والمواجهات ضد الحكومة العسكرية ، ورابعها يدرس الاثارالايجابية للثورة على الحركة العمالية وخامسها يبرز الاثار السلبية لانتصار الثورة وسادسها يناقش اثر الانتصار على الفكر السياسى السودانى ونختتم الورقة بقراءة تدرس اثر ثورة اكتوبر على الحركة العمالية فى المديين القصير والمتوسط . وتحاول الخاتمة التبؤ بمستقبل موقع الحركة العمالية فى الحياة السياسية العامة و بمصيرها فى المدى الطويل. الانعكاسات السلبية لبروز قوة الحركة العمالية بعد انتصار ثورة اكتوبر: أهم الانعكاسات السلبية ان الحركة العمالية وضعت نفسها ، علنا وبلا مواربة ، فى الخندق المعادى للقوى التقليدية واحزابها الامر الذى قاد للعديد من المواجهات والاستقطابات الحادة. قوة الحركة ودفاعها عن مطالب عضويتها فى القطاعين العام والخاص جعلتها فى مواجهة مستمرة مع الحكومة ( اكبر مخدم فى السودان) واقسام من الراسمالية السودانية التى احست بخطورتها على مصالحهم اقتصاديا بالدفاع عن مطالب العمال الاقتصادية وسياسيا بطرحها الجذرى ، مما ادى بالسلطات المتعاقبة ( مدنية وعسكرية ) والاحزاب التقليدية للتشمير عن ساعدها لتحجيم هذه الحركة. وقد اعلنت تلك الاحزاب ، بلا مواربة ، موقفها الرافض والمعادى لهذه القوى التى تطالب بوزن اكبر من حجمها الحقيقى فى المجتمع السودانى ووصفتها بانها مجرد حصان طروادة لحزب عقائدى صغير. كما توصم وتصف الاحزاب التقليدية الحركة العمالية بانها احد اسباب فشل التجارب الديمقراطية الثلاث فى السودان وذلك لانها تسببت فى خلق عدم استقرار اقتصادى وسياسى لانها رفعت مطالب فئوية ضيقة لا تقدر فيها ظروف الاقتصاد الوطنى. و تلجا للاضرابات بكثرة غير مبررة وفى كل الاوقات مما ادى لعدم الاستقرار وتعميق الازمة الاقتصادية الطاحنة. ومظهر اخر من مظاهر المواجهة بين الحركة العمالية والقوى التقليدية هو رفض تلك القوى القاطع لمطلب تمثيل العمال فى السلطة التشريعية بتخصيص دوائر للعمال والمزارعين رغم الدور الذى لعبته تلك القوى فى انتصار ثورة اكتوبر. وقد ايد المطلب الحزب الشيوعى وحزب الشعب الديمقراطى واقترحا بان يكون للعمال والمزارعين 50% من مقاعد البرلمان الجديد. كما تقدما باقتراح لوضع قوانين جديدة للانتخابات لتحدد الدوائر بطريقة تحقق ذلك الغرض. رفضت احزاب الامة والاتحادى والاخوان المسلمون الموافقة على تلك المقترحات ". هذا الموقف دفع اتحاد العمال لانزال مرشحيه فى الانتخابات البرلمانية ( كما ذكرنا من قبل ). كما دفع النفوذ المتعاظم للحركة النقابية والقوة التى ظهرت بها ، بعد انتصار ثورة اكتوبر كل الحكومات التى تسلمت مقاليد الحكم بعد ذلك، لان تتعامل مع الحركة العمالية كخطر يجب السيطرة عليه او تحجيمه لا كطرف اصيل واساسي فى العلاقات الصناعية. واثرسلبى اخر قصد توجيهه اساسا لقواعد العمال فى اطار المعركة للسيطرة على الحركة العمالية وهو اتهام الشفيع احمد الشيخ بانه جمد مطالب العمال بعد دخوله الوزارة. ويهدف ذلك لاظهار القيادات النقابية وكأنها تقول ما لاتفعل وانها تفكر فى مصالحها الذاتية قبل مصالح العاملين وان ما تثيره وهى فى المعارضة سرعان ماتتناساه وهى فى السلطة. ولانتشار هذا الاتهام ولاثره وسط بعض قواعد العاملين نحاول ان نعرض حقيقة ما حدث. الصحيح ان المكتب التنفيذى لاتحاد العمال ، فى اطار تحمسه لدعم النظام الجديد، قرر ان يتبرع العمال بمرتب يوم يخصم من مرتب ديسمبر 1964 من كل العمال ويورد للخزينه العامة وان تجمد مطالب العمال فى ذلك الوقت تقديرا لظروف البلاد الاقتصادية. وهنا ايضا تكرر اصدار القرارات الهامة من قمة الهرم النقابى المتمثل فى المكتب التنفيذى بدون عرضها على مجالس ادارات النقابات التى تمثل القواعد النقابية. ويتحمل مسئولية ذلك القرار كامل المكتب التنفيذى ، بما فيه الشفيع ، وليس الشفيع الفرد ، حسب الاتهام ، الذى نال وزارة وتنكر لمطالب العمال. ومظهر اخر لموقف القوى التقليدية المعادى لاتحاد العمال هو قيامها بادخال المادة (30) فى قانون النقابات والتى تعطى اى نقابتين الحق فى تكوين اتحاد فى قصد واضح لاضعاف وحدة الحركة النقابية و اضعاف مركزها الواحد. وقد نجح ادخال تلك المادة فى تسهيل انشاء اتحاد عمال القطاع العام فى 1968 كمنافس لاتحاد العمال ومحاولة لسحب البساط من تحت اقدامه وتقليص نفوذه. ورغم ان تلك المادة تمثل جوهر هجوم السلطة على اتحاد العمال وجهدها الحثيث لاضعافه ، الا ان مجمل القانون كان نكسة كبيرة وتراجع خطير فى ظروف ما بعد انتصار ثورة اكتوبر . ونلخص النقد الذى وجه اتحاد العمال للقانون انه اعد فى عجلة ولم يشرك ممثلى العمال فى اعداده او مناقشته وعرض على الجمعية التاسيسية اولا. والاخطر انه بنى على اعمال لجنة كونها الحكم العسكرى فى 1959 . وكذلك تعارض بعض بنود القانون مع الاتفاقيات الدولية لمنظمة العمل التابعة للامم المتحدة حول الحقوق النقابية. وقد ناشد اتحاد العمال الحكومة بانه يرى " ان افضل الطرق للتوصل الى اسس قويمة وثابتة تنظم بها الحركة النقابية فى بلادنا ان تكون لجنة مشتركة من الحكومة والمنظمات النقابية للنظر فى كل القوانين العمالية. اما القانون المعروض امام الجمعية التاسيسية فلا يعدو ان يكون نسخة من القانون الذى وضعته الحكومة العسكرية وتحملت بسببه الكثير من جانب العمال وهم يصرون على بقاء منظماتهم النقابية كاجهزة للدفاع عن حقوقهم لا مسخا مشوها او ذ ليلا لكل حكومة " ومن المظاهر السلبية الاخرى ، لفترة ما بعد انتصار ثورة اكتوبر ، هو جنوح اتحاد العمال لاتخاذ مواقف سياسية لا تمثل رغبة قواعده ولم تناقش من خلال مجالس الادارات حتى تقرر كسياسة رسمية للاتحاد وكمثال دور الاتحاد فى تاسيس المؤتمر الاشتراكى الديمقراطى الذى طرح برنامجا متكاملا للتغيير الشامل فى كل اوجه الحياة السودانية. ورغم ايماننا العميق بان للنقابات دور سياسى الا ان ذلك لا يتم بالاساليب الفوقية وتجربة الموقف من اتفاقية الحكم الذاتى ، والاثار المدمرة التى نتجت عنها ، غير بعيدة عن الاذهان. د. صديق الزيلعي [email protected]