لم أتردد يوماً مثلما ما يحدث معي الآن.. لا يساورني قلق ولا خوف عندما أهم بكتابة أي مقال، عاتبني أحد الأصدقاء المقربين قائلاً لمِمَ لَم تكتب عن الفنان محمد عبدالرحمن؟! كان سؤالاً مخجلاً وقاسياً ومُراً خاصة والأستاذ كان من بين الحضور.. قلت له جهراً حاضر ولا يهمك.. وقلت في نفسي سراً المعرف لا يعرف ومحمد عبدالرحمن علم فوق رأسه نار.. الذهب لا يحتاج إلى دعاية تسويقية، كذلك محمد عبدالرحمن وسيارات المرسيدس. فكرة الكتابة عن الفنان المتفرد كانت تراودني منذ زمن بعيد وبين فينة وأخرى آخرها قبل السؤال المحرج بيومين.. لكن التأجيل كان بالمرصاد لكل فكرة، لا أعرف له سبباً مباشراً ولا مقنعاً، غير أن مجرد التفكير بسرد سيرة الفنان النوبي العملاق محمد عبدالرحمن مخاطرة ويعد في حد ذاته مقلقاً.. لأن هذا المبدع هو فنان المواصفات النادرة والصعبة.. هو كامل الأوصاف.. متعدد الألقاب.. بسلاسة سلك الفن عبر الطريق الوعر، هضاب ووديان وسهول ورمال وجبال ومطبات طبيعية وصناعية وعراقيل وضعت أمام هذا العملاق تجاوزها بالكلمة الحقيقية غير المزيفة والنابعة من الطبيعة الخلابة.. كان مقلاً.. لكنه كان مجيداً.. أهتم بالكيف وتغافل عن الكم.. لأن خير الكلام ما قلّ ودلّ.. لا ينافسه أحد في (الدنيا كلها) بالعزف المنفرد والمتميز على آلة الربابة (الطنبور) التي تعاطفت معه وأحبته لأن العلاقة بينهما غير كل العلائق الأخرى.. لا أحد ينافسه في اللعب مع هذه الآلة ذات ألحان السواقي الندية والشجية.. علاقته محمد عبدالرحمن ب (الطنبور) كعلاقة محمد الأمين ب (العود).. كل القبائل التي تمجد وتعشق هذه الآلة وتتغنى بها أعذب الألحان نوبية كانت أم عربية تقف على مسافة بعيدة المدى من الأسطورة.. لم يختلق أو يتصنع بالكلمات والألحان والأداء، تناسق وتموسق وتباريح.. تغنى بالفن من أجل الفن فقط مستبعداً من قاموسه الماديات.. لذا ظلت كل أغانيه بلا استثناء راسخة راسية كالجبال الشامخة تتناقلها الأجيال كأنما ولدت بالأمس وربما تشك أنك تسمعها لأول مرة لأنها ولدت من رحم تجارب واقعية معاشة.. هذه الكلمات جاءت بها الظروف والمناخ والعواصف والكتاحة والبرق والرذاذ والمطر والنخيل والجروف والنيل والعشق لكل ما هو جميل.. أشهر وأفضل وأحن من غنى للأم مع أبو الفن النوبي حسين ألالا وكمال ترباس ومحمد جبارة قبل أن يعرف الناس معنى ما يسمى ب (الأم).. غنى للبلد.. للغربة.. للحب.. للمعشوقة.. للجمال.. لا زال التردد يطاردني وأنا شارفت العمق الحقيقي للمقال.. خوفي ألا أتمكن من أن أعطي أبي عبدالرحمن حقه المكتسب والطبيعي والمكان المثالي لفنان وُلد ذهباً وشب ألماساً وظل ياقوتاً وها قد عاد مجدداً ذهباً نقياً يبهرك بلونه الفاقع ولمعانه مع أشعة شمس كل نهار وضوء قمر كل ليل.. هو فنان لا يشيخ ولا يصدأ.. التردد ما زال مستمراً ويهددني بالابتعاد وعدم المجازفة في غور أحشائه العميقة، لكني أقابله بتحد وجلد لأني منذ أمد بعيد أفكر جاداً لأنصف ما أستطعت وأرفع الظلم عن قمة الفن النوبي لأسباب جمة أولاها أنه يكره الظهور في دائرة الأضواء.. الفنان الوحيد الذي يغني بالمجان ليكسب من أغانيه الخالدة الكثير من المقلدين والمزيفين الملايين. حتى نحفظ للفنان الكبير حقه المكتسب والذي في طريقه للسلب والنهب المعنوي أطالب كل الغيورين النوبيين بتفعيل رابطة أصدقاء الأسطورة محمد عبدالرحمن وعلى رأسهم الأستاذ شرف حبراب والأستاذ رشيد الصلباوي لتوثيق حياة الفنان كاملة من الألف إلى الياء وبصورة تعليق مع مكانته السامقة تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل. ولا أعلم حقيقة علاقة جور الزمان مع الفنان النوبي الأشهر محمد عبدالرحمن.. لأنه الوحيد الذي أعطى للفن كل شيء دون أن يأخذ أي شيء غير حب الناس له وهذا يكفي. [email protected]