أٌقاحي الروض أبو داؤود "سلطنة الطرب" الأقحوانة الرابعة من روض أبي داؤود تنقل أبو داؤود بين عدد من المحطات والسندات عاملاً بالدريسة، إبان الحرب العالمية الثانية، كان يعمل بمحطة خلوية بشرق السودان فلما أشتد الصراع بين الطليّان و بريطانيا توقفت عجلة القطار وأستعصي التنقل واسودت الدنيا ظلاماً في وجه أبي داؤود وزملائه بالسكة حديد فأراد أن يقصد العاصمة هو وزملاؤه؛ فلم يجدوا وسيلة تنقلهم فمنهم من أيقن وأستكان وأختار المكوث مكانه ولكن أبي داؤود أراد أن يبلغ العاصمة. وأعياه البحث والانتظار في ذلك القفر المعزول؛ حتى ظفر بعربية دريسة بالسندة فأخذها بعد أن أبلغ أقرب محطة له بالتلفون وأخذ في السير يغني بملء روحه وبصوت لا يعرف حداً لمداه حتي أضحي صوته أنيسه ورفيق رحلته وبعد مسيرة ساعات أقبل الليل وغطي الملامح وباتت الرؤية عصيّة فآثر المبيّت بمحطة خلوية خاليّة تماماً من أنيس سوي بقايا رائحة أناس غادروا من ساعات أوقف العربة بالسندة ليبيت وبدأ ينشدٌ مدحاً نبويّاً أراح الروح وأزال رهق الترحال حتي أسلمت روحه للنوم فأستيقظ قبيل الفجر وجرد أوراده وصلي فجره و تلي ما تيسر له من قرآن؛ ثم استأنف مسيرته مرة أخري. كان حلم بلوغ العاصمة يحتل مكامنه ويستعمر أفكاره وأشتدت عليه وحدته فعالجها بصوته سابحاً به في ملوك الروح قانعاً من أي طارق حتي جعل صوته ينشأ عاذلاً فيزيائياً بينه وبين العالم حوله هكذا كان ديدنه حتي مرت الأيام و بلغ هدفه الشاذلي الفنوب / القاهرة أقاحي الروض أبو داؤود "سلطنة الطرب" الأقحوانة الخامسة من روض أبي داؤود السكة حديد عالم من الإبداع وجمال يتجلى بالتجديد كل حين، كيف لا وهي التي ربطت أواصر الوطن بكل قبلاته وجعلت من التواصل عبقا يسري بين الأرواح ليسقيها خلاصة السودانويّة الخصبة بشاشةً وسماحةً وإنتماءاً حد الاكتفاء، وللتسفار خمسة فوائد كما قال الإمام الشافعي، يحمل الإنسان بين جوانحه أشواقاً ولواعجاً وتمنيات يحلم ببلوغها، تمشي أبو داؤود بين قضبانها بكل أريحية وراحة يعدو بأحلامه من سندة لمحطة و من ورشة لفرملة وروحه تتطوف ما بين الأوجه و الأرواح و بمغنطيسية عبقرية خلاقة يستعمر المكان بمن فيه، فيكون النجم الأوحد بلا منازع بخفة روحه و دماثة خلقه يروي أنه سمع أن هنالك امرأة عليلة بمحطه عطبرة تقصد العاصمة للاستشفاء وعرف من الذين يتحدثون عنها أنها كانت من حكامات عطبرة و لها دور راسخ في باب الأدب النسوي الاجتماعي، فقصد عربتها وصعد ليكفر لها و يتعرف بها، وبعد أن صعد العربة كان هنالك مرافق له أخبرها بأن هذا الرجل هو ريحانة محطة السكة حديد عطبرة فهمت المرأة بتحسن حال زيها ووضعت يدها تحت التوب لتسلم عليه فضحك وقال لها وهو ماداً يده ليصافحها "وحاتك يمه ماني مجزم" وهو يرسم ابتسامته الآسرة علي وجهه فاختشت وقالت "تبري يا حشاي" بهذا الأسلوب والطرفة الحذقة استطاع أن يميط الحاجز بينها وجلس قبالتها و بدأ يؤانسها يمه قالوا لي قوقاية وصوتك بجوهو الرجال من السافلية ما تسمعيني شيء تكسبي فيني ثواب ضحكت بحياء وقالت: كان زمان يا وليّدي و فات .. لا لا كدي سمعيني شيء بريني أنا بريد الغنا وغناكن برقد الروح و يزيل الكدر يا وليدي قتلك أدمسني وأستمر بينها الحوار حتي بدأت تغني يا روحي أهمدي كفاك جرسة انتي عارفة بلا مدسَّة لو حبيبك بيك حسه بكرة بيجيك باللواري حارة هي الريدة وحار عذابا و قاسي برضو علي عتابا لو قدر أياما جابا صوت حنينو بسولو بوري و ضحكت بعد أن وضعت طرف التوب علي فمها فتسلطن أبو داؤود و قال يمه زيديني سافر حبيبنا بلا يودِّع وروحي في الآلام تبدِّع يا رب أرحم قبل أجدِّع جيبلي مريودي وكفاية الحبيب الشوفتو تفرح و البعادو كتير بجرِّح إمتي يا مولاي تصرِّح يعودي و يتم لي منايا فيضحكا ملأ روحيهما ويعلو صوت صافرة القطار تعلن الرحيل جنوباً و يبدأ الوقت كالضيف العجول و هنا ينحي أبو داؤود ليقبل راس السيدة الكنز متحسرا علي ضيق الوقت فيترجل من القطار وأوجه الناس ما بين ابتسامة و أدمع تملأ المآقي وآمال في التلاقي فمنهم من أيقن أنه الفراق و بدأت أرجله في الحراك و منهم من تسمر مكانه فاختلطت أصوات جمّة تسمع. أبقي عشرة علي رويحتك يابا وسلم علي اخيك و شوف مشهادك.... ما تنسي يا عمر تدي إبراهيم الجواب و قولو نحنا طيبين...... ربي يغتيكم ويحفظكم....... أصوات نحيب وأكف ترتفع بالوداع ويبدأ القطار في المسير و كل ساير لمصير فيخرج القطار من المحطة كالحلم من يقظة النائم أبو داؤود يدندن بالقرب من السنفور الحبيب الشوفتو تفرح و البعادو كتير بجرح بطريقته الخاصة يقلبها بين حنجرته و شفافه حتي استقرت ما بين حباله الصوتية و قلبه مستسلمة راضية الشاذلي الفنوب / القاهرة [email protected]