قصة لقاء نادر مع نميري بعد خروجه من المعتقل ولماذا مكث خمس دقائق وهو يرتجف.. ولماذا طلب منه قبطي أن يقرأ بعض الآيات القرءانية قبل الدخول على نميري تميز وردي بقوة شخصية لافتة للانتباه وتمتع بقامة مديدة ولطالما ارتبط طول القامة في مخيلة الشعراء والعامة بالرفعة والمجد والسمو أهم مميزات محمد وردي أنه فنان كل الناس، يصعب تحديد مسار جمهور وردي، وذلك لأنه غنى لكل الطبقات بمختلف ثقافاتها وألوانها وأعمارها وتوجهه الجغرافي والتأريخي الخرطوم : خالد فتحي (أي موت يستطيع أن يقتل أخي كله) هكذا امتلأ الزير سالم بالدهشة عندما نقل إليه موت أخيه كليب بن ربيعة. ولازلنا بذات إحساس الزير رغم السنون التي تصرمت منذ وسدنا عبقري الموسيقى السودانية محمد وردي الثرى في جبانة فاروق بالخرطوم منذ ثلاثة أعوام. وردي "صانع ربيع الأغنية السودانية" لم يكن مغنياً عادياً، بل كان فناناً واعياً بقضايا شعبه وأمته ويعد من المبدعين القلائل الذين ألقى بهم في غياهب السجن لمواقفهم السياسية المناوئة لسلطة الحكم. في بضع سنين تفتح وعي وردي منذ بدء مشوار الإبداعي الرائع عندما تفجرت ثورة أكتوبر أصبحت رمزاً لعودة الأحلام الشاردة، حيث ساد إحساس قوي في أوساط الجماهير بأن النخبة السياسية فشلت في الوصول بالدولة السودانية إلى بر الأمان بعد الاستقلال وعمقت سلطة نوفمبر الديكتاتورية بقيادة الفريق إبراهيم عبود تلك المشاعر حتى أن الأفارقة باتوا يطلقون على السودان لقب رجل أفريقيا المريض. لكن أكتوبر مثلت عودة الروح إلى القمة والقاعدة معاً وجددت الأمل بامكانية استعادة الأحلام الشاردة. هنا كان وردي حيث أراد له شعبه أن يكون صادماً منتظراً حتى إذا أصبح أطل فأشعل التأريخ ناراً واشتعل. القامة والشعر المنسدل تميز وردي بقوة شخصية لافتة للانتباه وتمتع بقامة مديدة ولطالما ارتبط طول القامة في مخيلة الشعراء والعامة بالرفعة والمجد والسمو، فالخنساء عندما رثت أخاه صخراً قالت: طَويلَ النِجادِ رَفيعَ العِمادِ /قد سادَ عَشيرَتَهُ أَمرَدا). وأضاف عليها وردي الشعر المنسدل الذي كان أشبه بالموضة في سبعينات القرن الماضي وفي الأساطير الإغريقية كان ترك الشعر مسترسلاً على الكتفين يمنح الفرسان المقاتلين هيبة وسطوة أثناء المعركة. ولعل تلك قوة الشخصية تلك وعصاميته الفذة جرته إلى المجد جراً فقد كانت موهبته ناراً تتوقد تحت الرماد عندما كان مدرساً في المدارس الابتدائية في شندي، لكن نفسه التواقة إلى السموق نازعته حتى هجر التدريس واتجه إلى الغناء. وفي الغناء لم تهدأ روحه القلقة، بل نازعته إلى التميز بعد الظهور فحاول التلحين وكان له ما أراد حيث موسق بنانه لحن أغنية (أول غرام) للمرة الأولى في مسيرته السحرية وتسببت الأغنية في مشكلة بينه وبين مدير الإذاعة محمد صالح فهمي من جهة لأن وردي كتب أنها من كلماته فرفض فهمي إجازتها فرضخ وردي إلى قراره المتعسف ونقلها في ورقة أخرى وكتب عليها من كلمات (علي ميرغني). ثم فجرت مشكلة بينه وبين الملحن خليل أحمد الذي عهدت به الإذاعة السودانية إليه كما كان الحال في ذلك الوقت، حيث سمت إسماعيل حسن شاعراً وخليل أحمد ملحناً لمحمد وردي، فلما لحن وردي الأغنية وأبلغ خليل بمافعل وقعت قطيعة قوية بين الاثنين امتدت لسنوات. ثم مضى في طريق المجد واثق الخطى يمشي ملكاً فلحن أغنية (الود) التي ذاع صيتها بأن أشرف على التوزيع الموسيقي لها الموسيقار الشهير اندريه رايدر الذي كان أحد النجوم المتوهجة بالقاهرة في ستينات القرن الماضي. وكان شديد الوعي أيضاً بضرورة مسايرة العصر وعلى سبيل المثال في الستينات كان "الموضة" الأغنيات ذات المقدمات الموسيقية الطويلة فكانت (الطير المهاجر) و(الود) ثم جاءت السبعينات بإيقاعاتها السريعة الراقصة فكانت (صورة) و(وسط الدائرة) و(الحنينة السكرة)، وخلال مسيرته الإبداعية واجه وردي كثير من الصعوبات والانتصارات وبالطبع الانكسارات وسوء تقدير المواقف لاسيما السياسية منها مثل غنائه لسلطة نوفمبر الديكتاتورية ثم انحيازه لانقلاب مايو .. لكنه كان على الدوام يروي كل شئ حتى لحظات النكسة والعثرات وهذا قيمة صدق عالية النبرة يتميز بها. وعاونت وردي على اعتلاء العرش والتربع عليه لأكثر من نصف قرن من الزمان بجانب موهبته الاستثنائية بالدرجة التي قيل فيها أن وردي بإمكانه تلحين (خبر في الجريدة)، ومثابرته واصطباره على التجربة، ميوله اليسارية التي جعلته قريباً من نبض الجماهير وضبط إيقاعه الإبداعي على مر السنين على وقع خطواتها، مجسداً أحلامها وآلامها وتطلعاتها. ولطالما سار اليسار واليمين والوسط نحو إبداعه باسمين ولاغرو .. ويذكر "زياد عبد الفتاح" أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واقعة تؤكد على أن وجود محمود درويش في اللجنة التنفيذية كان عاملاً مهماً في توحيد صفوف المقاومة فيقول: "قرأ محمود درويش على المجلس الوطني الفلسطيني بكامل أعضائه ومراقبيه ومرافقيه وضيوفه وحرسه قصيدة (مديح الظل العالي) فأثملهم وشغلهم عن الخلاف السياسي الذي شب بينهم في تلك الجلسة". مع نميري وجهاً لوجه ويقول وردي: ظلت علاقتي بالسلطة أيام نميري متوترة على الدوام وأذكر أنه في عام 1975م في عهد وزير الإعلام أحمد عبدالحليم تقرر عمل تكريم لكل فناني السودان وإعطائهم ميداليات لكن اللجنة المكلفة بالأمر وقعت في ورطة فهل تضمني إلى القائمة؟ وفي هذه الحالة ماذا سيكون ردة فعل الرئيس نميري الذي سيقدم الميداليات للفنانين أم يتجنبوني؟ وهل يعقل أن يكرم كل فناني السودان باستثناء محمد وردي؟ ويبدو أن اللجنة رأت أن تترك الأمر للوزير كي يجد مخرجاً. ويروي وردي تفاصيل مقابلة نادرة مع الرئيس الراحل جعفر نميري للصحفي الرقم السر سيد أحمد في واحدة من الحلقات الوثائقية التي نشرت بمجلة (المجلة) ذائعة الصيت في 1995م قائلاً: في أحد الأيام وبينما أنا استعد لمغادرة منزلي لإحياء حفل في أمدرمان رن جرس التلفون ورفعت السماعة لأسمع :" ازيك يا محمد". عرفت صوت الوزير وقلت :"أهلاً يا أحمد". قال :"عاوزنك ضروري تجينا هنا". :"هنا وين"؟ : "في مكتبي" "لكن عندي حفلة" "لكن عندي حفلة" " يازول أنت مجنون حفلة شنو؟". "أنا مرتبط بحفلة وماشي أغني" " طيب أدينا ساعة" "مابقدر" "بتقدر الرئيس معاي وهو سامعني دلوقت تعال بسرعة " وضعت السماعة وترددت كثيراً وسألت نفسي عايزين مني شنو؟ وصلت الوزارة ودخلت على مدير مكتب الوزير عزيز التوم بشارة وهو مسيحي قبطي فطلب مني أن اقرأ بعض الآيات القرءانية قبل الدخول على الوزير. ودخلت المكتب وكنت مقرراً بيني وبين نفسي أن أتصرف وأرد على أي استفزاز من جانبهم قلت : السلام عليكم.. رد نميري وكان جالساً على الكرسي : وعليكم السلام ثم وقف ومد يده. مددت يدي إليه فقال : يا أخي الجفوة دي شنو؟.. دا سلام سودانيين؟. ثم أخذني بالأحضان الأمر الذي لطف الأجواء مع أنني مكثت خمس دقائق وأنا ارتجف. سألني الوزير أحمد عبدالحليم عما أشرب فطلبت ماء هنا تدخل نميري وقال وقهوة كمان وجاريته وطلبت قهوة ثم التفت نميري إليَّ متسائلاً: لكن بتكرهني ليه؟ رديت : كون مواطن يكره رئيسه دي ما غريبة. لكن أنت بالذات بتكرهني ليه؟ فقال نميري: أنا مابكرهك ومابسمع فنان غيرك وأنت فناني المفضل وفنان زوجتي كمان، وأنا حضرت عرسك في مدني ومصطفى أخوي ساكن جارك وعلاقتنا كبيرة وأنت بتعرف خالنا شاويش خليل المشهور في حلفا ومن بدري أنا معجب بيك". ومضى الحديث بين الاثنين وردي ونميري وانتهت بطلب نميري طي صفحة الخلاف بينهما.. لكن الملاحظة الجديرة هنا هي صدقه النادر في اعترافه أنه كان يرتجف لخمس دقائق وهو في حضرة نميري.. على العكس تماماً من أصحاب "الحلاقيم الكبيرة" الذين ملأوا الأرض ضجيجاً وهم يرون بطولات زائفة طرفها نميري. وردي فنان كل الناس ويتضوع الصحفي ذو الموهبة الاستثنائية محمد عبدالماجد عطراً وهو يتحدث عن وردي قائلاً : في اعتقادي أن أهم مميزات محمد وردي تتمثل في أنه فنان العامة أو هو فنان كل الناس، يصعب تحديد مسار جمهور وردي، وذلك لأنه غنى لكل الطبقات بمختلف ثقافاتها وألوانها وأعمارها وتوجهه الجغرافي والتأريخي كذلك.هو تقريباً غنى لحنياً لكل الإيقاعات ما بين اللحن الصعب والمعقد مثل لحن أغنية (الحزن القديم) والذي كان الموسيقار محمدية يعتبره من أصعب الألحان وأكثرها اعجازاً إلى اللحن البسيط والسهل ذو الإيقاع الخفيف والطروب مثل لحن أغنية (حرمت الحب والريدة) للطاهر إبراهيم صاحب الألحان الخفيفة التي عرف بها خلال ثنائيته مع إبراهيم عوض.في جانب كلمات الأغنيات أيضاً تنقل وردي ما بين الكلمات الصعبة والفلسفية العميقة مثل كلمات الدوش في (الود) أو كلمات محجوب شريف في (جميلة ومستحيلة) أو (الحبيب العائد) لصديق مدثر لينزل مع جمهوره في كلمات بسيطة وخفيفة مثل كلمات أغنية (الناس القيافة) لمحمد علي أبوقطاطي. وردي مثلما غنى للاستقلال غنى للمرسال، وكما غنى لعرس السودان غنى (يا ناسينا)..هو وثق للسودان منذ (القمر بوبا) تراثياً إلى (الاستقلال) 1956 ليأتي ويغني لثورة أكتوبر 1964 ثم يغني لثورة أبريل 1985م...بل لم تفلت من وردي حتى فترة حكومة عبود و 25 مايو و30 يونيو. كفى أننا لا نستطيع أن نتحدث عن (الاستقلال) أو نجعل علم السودان يرفرف عالياً دون أن نغني مع وردي (اليوم نرفع راية استقلالنا). تنقَّل بنا وردي بإيقاعات السودان كلها فقدم إيقاع من غرب السودان في (بنحب من بلدنا ما بره البلد) كما أن لحن أغنية (الوصية) لبرعي محمد دفع الله لا يخرج من طرب أغنية الغرب وغنى إيقاع السيرة في (اقدلي وسكتي الخشامة) وغنى إيقاع الطنبور شرقاً في (الريلة) وشمالاً في (الليلة يا سمرا) الإيقاع النوبي وغنى من إيقاعات الوسط (لو بهمسة) الأغنية العالية في الرومانسية لحناً وكلمات بما يتوافق مع إنسان العاصمة. سوف يبقى وردي مثل نجم السعد يحيا في الدواخل ريثما تصفو السماء وهي أيضاً كذلك .