لا يسطو على قصص الآخرين، فالرواية عنده هي كتابة عن المجتمع، لأنّ الكاتب لا يملك حقلا يربّي فيه الشخصيات ثم يقوم بصياغة سردية تناسبها، الرواية من المجتمع وفيه، هكذا يرى ضيفنا الذي لا يكتب عن الأشياء أو الشخصيات كما عرفها، بل يستلّ من المحيط ما يستطيع تطويره بمزيد من الخيال وربّما الجرعة الواقعية، وبالتالي ينتج عملا إبداعيا لا علاقة له بالواقع مباشرة، وعلى غير طريقة المبدعين فقد كشف ضيفنا الطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر مفاتيح كتابته كلّها وطريقة قدومها وآلية نضجها في كتابيه "ضغط الحياة وسكّرها" و"ذاكرة الحكّائين" الصادرين حديثا، لينير للقارئ الطريق الذي تمشي فيه العمليّة الإبداعية عنده وكأنّه يعيش في ثوب الطبيب الذي يشخّص حالة أمام الآخرين. "العرب" كان لها هذا اللقاء مع الكاتب. يؤكد الطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر ألّا علاقة مباشرة تجمع الطبّ الذي يمارسه بالأدب الذي ينتجه، وإنّما هناك علاقة استفادة، تتوضّح من خلال استماعه للقصص الكثيرة العديدة التي يعيد إنتاجها أدبيّا، فضلا عن الأوبئة التي بدأت تجتاح العالم، والتي تصلح لأن تكون مادة دسمة لعمل أدبي كما فعل في روايته "إيبولا 76"، عن فيروس إيبولا المميت في أفريقيا، فضلا عن توظيفه للكثير من الأمراض في رواياته "مهر الصياح" و"زحف النمل" و"توترات القبطي". أمير تاج السر طبيب وروائي سوداني يقيم في دولة قطر منذ سنوات، ولد في شمال السودان عام 1960، وتخرّج من كلية الطب في طنطا بمصر عام 1987، وصدر له العديد من الروايات الأدبية كان أبرزها "مهر الصياح" و"العطر الفرنسي"، و"صائد اليرقات"، و"إيبولا 76"، و"أرض السودان - الحلو والمر". طريق الفكرة ارتبط أمير تاج السر بالبيئة السودانية من خلال إنتاجه الأدبي، فكتب عن مدن وادي النيل بكل ما فيها، لذلك يعتبر نفسه كاتبا محليا، يعتني بشكل أساسي بالبيئة التي خبرها، وعاش فيها ورضعها منذ الطفولة، فاقترب من الأساطير التي ظلّت راسخة رغم السنين في المدن والأرياف التي عبرها، ورغم كلّ ذلك إلا أنّه يسمح لأبطال آخرين أن يشاركوه أعماله الأدبيّة قادمين من بيئات بعيدة عن بيئته التي أحبها، وهذا ما هو قائم في روايته "أرض السودان" التي تأتي سياقاتها السردية على لسان بطل أنكليزي، فضلا عن روايته الشهيرة "إيبولا 76"، التي تتخذ من جمهورية الكونغو مسرحا للكثير من أحداثها. ضيفنا في كتابته عن الأماكن التي ارتبط بها والأشخاص الذين يعرفهم عن قرب، يشي وكأنّه يملك إحساسا عاليا بالفقد أو الحنين وهذا ما لا ينكره أبدا ليؤكّد أنّ الغربة -مهما كان الإنسان مستقرّا- لا تستطيع أن تقتل ذلك الإحساس بالحنين لأماكنه الأولى، ويصفه بأنّه حنين قاتل خدّاع صاحب حيل مزعجة. العمل الروائي عند تاج السر متكامل بالفكرة والأسلوب بينما يعلن ثقته بالكاتب الذي يستطيع أن يأتي بفكرة جديدة، ولا يكرّر ما قدّم في وقت سابق، ولا يعتقد أن يكتب أحدهم ببصمته لأنه يكرر نفسه، فالتكرار حين كيتب الروائي نفس الفكرة مرتين، وهنا يعبّر عن حبّه للأدب الإسباني وعموم كتّاب أميركا اللاتينية لاعتقاده جازما أنّهم قدّموا أدبا رفيعا. حديثه عن الفكرة والأسلوب في العمل الروائي دفعنا إلى سؤاله عن السرد والقصة وعلاقة السلطة والسيطرة بينهما، ليؤكّد أنّ هذا الأمر يختلف من كاتب إلى آخر مع قناعته بأنّ القصة أو تطبيق الفكرة هي التي تحدّد طريقة السرد، أما الشخصيات فمن المفترض إن كانت مهمة أن تصمد وتنمو مع تقدم السرد، يعلن ضيفنا أنّه لا ينظر كثيرا لنظريات الكتابة، ولا يخطّط للعمل الأدبي، ولا يكتب عن أي شيء مسبق أو عن أحداث يجب أن تحدث، فحال عثوره على الفكرة يبدأ الكتابة مباشرة ويترك لها حريّة القيادة حتى النهاية. القصة أو تطبيق الفكرة هي التي تحدد طريقة السرد أما الشخصيات فمن المفترض أن تصمد وتنمو مع تقدم السرد التنوع الأدبي يحاول تاج السر العودة إلى الماضي دوما في أحداث سرديّاته فالتاريخ يتضمّن ملاحم عديدة يمكن إنتاجها أدبيا كما يعتقد، ولكنّه هنا بين طريقتين في تناول التاريخ، الأولى تقوم على كتابة التاريخ بوثائقه أو كما حدّث، أو اختراع تاريخ مواز للحقيقي عبر أشخاص آخرين عاشوا في خيال المبدع، ليؤكّد أنّه من أنصار ومرتادي الطريقة الثانية التي تقوم على تخيّل التاريخ وهذا واضح في أعماله الروائية "مهر الصياح" و"توتّرات قبطي" و"أرض السودان - الحلو والمر". هذه الطريقة تفرض على الروائي آلية جديدة في إنتاج النص الإبداعي من خلال القراءات المكثّفة المركّزة، وضرورة الإلمام التام بالفترة التي تتشابك فيها أحداث النص- الرواية.عودته إلى التاريخ تجعل فكرة الوطن الأصلي قابعة في التشكيل الروائيّ للشخصيات، ذلك الوطن الذي كان قديما ببساطته وعمقه التاريخي الحضاري قبل أن يتلوّث حديثا، يسمّيه هنا تاج السر بالوطن الأصلي الذي تبحث عنه الشخصيات، ورحلة البحث هذه قد تتعثّر ليصبح الوطن لاوطنا وبالتالي تظهر مساحة جديدة شبيهة بالوطن مع إصرار الشخصيات على البقاء في الوطن الأم، فقليلا ما نرى أبطاله الروائيين يتملّصون من انتماءاتهم. حديثه عن التاريخ دفعنا إلى سؤاله عن فهمه لدور الأدب في ظل كل ما يحدث حولنا من مآس في الواقع العربي الحاضر، ليؤكّد أنّ الكاتب ليس بالضرورة أن يكون أحد المتظاهرين، أو الشهداء، وليس بالضرورة ناصحا أو حكيما، يعتقد تاج السر أن التنوير يأتي من توظيف الكتابة على نحو جيّد، بحيث تكون موضع اهتمام الناس في ظلّ ما نعاني منه من أزمة قرّاء حقيقية في الوطن العربي، فلا بدّ من إنتاج كتابة إبداعية مهمة تجد من يتفاعل معها، ليتأسّف على الشهرة الواسعة العريضة التي تحظى بها الكتابات التجارية التي لا تقدّم شيئا في الشارع العربي، بينما يظل الأدب الحقيقي المرتبط بحياة الناس مغمورا وأحيانا مضطهدا كما يرى. هذا الحديث يقودنا لطرح الفصل التام والاصطفاف الحقيقي بين الكتّاب والمبدعين في ظل ما يحدث على الساحة العربية ليؤكّد أمير تاج السر أن لكلّ فترة أدبها وأدبها المغاير وهذا أمر طبيعي. يجزم ضيفنا أنّ الساحة الأدبية لم تنجب أعمالا كبيرة تترجم ما حدث من ثورات بصورة مدهشة فالتغيير العنيف الذي حدث يحتاج زمنا طويلا حتى نعتاد على الكتابة عنه. نسأل أمير تاج السر عن انتقاله من كتابة القصص البوليسية إلى الشعر، الذي كانت له فيه قصائد مغنّاة ثمّ إلى عالم الرواية، عن هذا التنوّع الذي طرح نفسه فيه عبر عالم الأدب وأين يجد اليوم ذاته بين كل هذا؛ يتفاجأ بداية عن معرفتنا بكتابته للقصص البوليسية في مطلع مراهقته، ويصرّ أنّه كان ومازال شاعرا كعازف كمان وسط أوركسترا، مع اهتمامه بالرواية منذ ثمانينات القرن الماضي حين كان طالبا في مصر، ومن خلال الرواية الإبداعيّة حقّق طموحه بالكتابة المغايرة من خلال أسلوب واحد وبأفكار واقعية وتناول مختلف بين نص وآخر. إصداراته الأدبية العديدة والمتنوّعة تدفعنا إلى سؤاله عن علاقة المبدع مع دور النشر، ليؤكّد أنّ معظمها يتعامل مع الكاتب كموظف مسخّر للخدمة لديها، مبرّرا انتقاله بين عدّة دور نشر عربية برغبته في إحداث حالة من التوازن، فلكل دار قرّاؤها المداومون على إصداراتها.