قررت حكومة جنوب إفريقيا فيما يبدو إنهاء المواجهة الحالية بينها وبين محكمة الجنايات الدولية بالانسحاب من عضوية المحكمة ومحاولة تحريض دول إفريقية بالانسحاب أيضا، المواجهة بين حكومة جنوب إفريقيا والمحكمة جاءت عقب وصول الرئيس عمر البشير جوهانسبيرج للمشاركة في قمة الاتحاد الإفريقي المنعقدة بها؛ حيث طلبت المحكمة وبعض منظمات المجتمع المدني في جنوب إفريقيا تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير، فيما احتجت الحكومة بأن لديها التزاما مع الاتحاد الإفريقي بحماية الرؤساء خلال اجتماع القمة وإضفاء حصانة عليهم طوال توليهم مناصبهم، وأن التزامها مع الاتحاد الإفريقي يعلو على التزامها تجاه المحكمة. والمحكمة من جانبها عمدت إلى استجواب حكومة جنوب إفريقيا عبر رسالة طلبت منها فيها تقديم تبريراتها لعدم التزامها باعتبارها عضوا في جماعة مؤسسي المحكمة وملزمة قانونا بتنفيذ قراراتها، وآثرت حكومة جنوب إفريقيا أن تطلب مهلة من المحكمة لإعداد ردها، ولكنه كان واضحا أنها لا تريد أن ترد على المحكمة بل تريد أولا أن تصعد القضية لبحثها خلال اجتماع الجمعية العمومية لكل الدول الموقعة على ميثاق روما والتي من المقرر أن تنعقد في شهر نوفمبر القادم بمقر المحكمة في لاهاي؛ لترد في ذلك الاجتماع أن شكوى الدول الإفريقية من أن المحكمة منحازة ضد الأفارقة وأن كل القضايا المطروحة حاليا أمام المحكمة تطال قادة أفارقة، ومن ثم تساند اقتراحا إفريقيا بتعديل قانون المحكمة بحيث يضيف حصانة على الرؤساء الأفارقة إبان وجودهم في السلطة وهي تدرك تماما أن الاقتراح لن يجاز، وقد سعى الأفارقة لإجازته من قبل وفشلوا في ذلك لأنه يتعارض تماما مع مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وبالتالي يصبح الخيار الثاني لجنوب إفريقيا وهو خيار الانسحاب من عضوية المحكمة واردا وهذا هو ما تعد جنوب إفريقيا نفسها لممارسته. وقد بدأ الإعداد للانسحاب بطرح المقترح على المؤتمر القومي العام للحزب الحاكم الذي اجتمع مطلع الأسبوع وأجاز الاقتراح وكلف الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذه، وقد برر الناطق باسم الاجتماع القرار بأن الدول الكبرى لم تصدق على قانون هذه المحكمة وليست عضوا فيها وأن ثلاثة من الأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن ليسوا أعضاء في المحكمة ولم يصدقوا على ميثاقها (الولاياتالمتحدة – الصين- روسيا) وأن المحكمة منحازة ضد الأفارقة وأن جنوب إفريقيا مطالبة بحماية المصالح الإفريقية ومن ثم يتعين عليها أن تنسحب من عضوية هذه المحكمة. الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا يملك الأغلبية المريحة التي تمكنه من إجازة أي قانون تقدمه الحكومة للانسحاب من المحكمة رغم الهجوم الشديد الذي شنته أحزاب المعارضة والجماعات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني على القرار محتجين بأن جنوب إفريقيا ينبغي أن تقف في صف الشعوب الإفريقية لا في صف الحكام الأفارقة الذين ينتهكون حقوق شعوبهم، ويتكهن البعض أن قرار الانسحاب قد يجد معارضة حتى داخل الحزب الحاكم نفسه ولكن في نهاية المطاف فإن نواب الحزب سيلتزمون بقراراته وسيجيزون اقتراح الانسحاب. على أن مسألة الانسحاب من عضوية المحكمة سهلة وصعبة في آن واحد، سهلة من الناحية الإجرائية أولا فلا تتطلب سوى إجازة القانون من البرلمان.. وآخرا، مجرد إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بالانسحاب، لكنها من الناحية القانونية مكبلة بقيود واردة في قانون المحكمة الذي صادقت عليه الدول الأعضاء واعتمدته وبات ملزما لها إلزاما كاملا حسب القانون الدولي، وذلك القانون يعالج قضية انسحاب عضو من عضوية المحكمة في المادة (127) من قانون روما التي تشرح كيف يتم الانسحاب ومتى ينفذ وما هو الموقف تجاه الالتزامات الناشئة إبان فترة العضوية. المادة 127(1) و(2) تقرأ كما يلي: المادة 127(1): «لأي دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يوجه للأمين العام للأمم المتحدة ويصبح هذا الانسحاب نافذا بعد سنة واحدة من تاريخ تسليم الإخطار ما لم يحدد الإخطار تاريخا لاحقا، وهذا يعني أنه لو تقدمت جنوب إفريقيا بإنذارها عام 2016 فلن يكون نافذا إلا في العام 2017. المادة 127(2) تقول : «لا تعفى الدولة بسبب انسحابها من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفا فيه، بما في ذلك أي التزامات مالية تكون مستحقة عليها ولا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كانت على الدولة المنسحبة واجبة التعاون بشأنها والتي كانت قد بدأت قبل هذا التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذا ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد النظر لدى المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذا». وهذا يعني أن جنوب إفريقيا لو أخطرت الأمين العام انسحابها مطلع الأسبوع القادم، فإن ذلك الانسحاب لن يكون نافذا إلا في العام 2017 وأنها حتى بعد انسحابها ستكون ملزمة بالتعاون مع المحكمة وتنفيذ كل القرارات المتعلقة بالقضايا المنظورة حاليا أمام المحكمة وأي قضايا تبدأ المحكمة حتى العام 2017 في نظرها ويشمل ذلك قضايا دارفور وقضايا كينيا، وأي قضايا إفريقية أخرى أو أي قضايا تستجد حتى بعد انسحابها بعام!. هذا يعني أن الانسحاب لن يؤثر على المشكلة الحالية المتعلقة بالسودان ولن تفيد القضية الكينية في شيء ولن تساعد في إنجاح الاقتراح الإفريقي بمنح حصانة للرؤساء الأفارقة ولن تفيد أيضا، مشروع المحكمة الإفريقية ما دام لا ينص على عدم الإفلات من العقاب؛ ولذلك يثير موقف جنوب إفريقيا السؤال المنطقي: ما هي الفائدة المرجوة من الإقدام على هذه الخطوة؟ أغلب الظن أن جنوب إفريقيا تراهن على الأثر السياسي لانسحاب إفريقي شبه جماعي بعد إقدامها على هذه الخطوة ولكنه أمر بعيد الاحتمال!! [email protected] العرب