تعتمد باريس مجددا موقفا بالغ التشدد من سوريا، غير أنها هذه المرة تنطلق، بالإضافة إلى إدانة «القمع الأعمى والهمجي» الذي تقوم به القوات الأمنية ضد المتظاهرين، من الشهادات التي تصفها بأنها «ذات مصداقية» حول اللجوء إلى التعذيب في السجون السورية ضد «المتظاهرين المسالمين»، واصفة الفتى حمزة الخطيب الذي قضى، وفق مصادر المعارضة، تحت التعذيب في درعا، بأنه أصبح «رمزا» للطرق المستخدمة والضحايا البريئة. وحذرت الخارجية الفرنسية في بيانها من أن باريس «مستمرة في العمل من غير كلل من أجل أن تتحمل السلطات السورية مسؤولياتها» المترتبة على استخدام العنف واللجوء إلى التعذيب. وبحسب الناطق باسم وزارة الخارجية برنار فاليرو، فإن ذلك يعني العمل في إطار مجلس الأمن الدولي وفي مجلس حقوق الإنسان، فضلا عن العقوبات التي فرضت على كبار المسؤولين السوريين على المستوى الأوروبي والتي كانت باريس أبرز الداعين لها، خصوصا من أجل أن تطال رأس الهرم السياسي في سوريا. ونبهت فرنسا إلى أن «استقرار سوريا والمنطقة» مرهون بالقيام بإصلاحات سياسية «سريعة» تستجيب لتطلعات الشعب السوري «المشروعة» لتحقيق الانفتاح السياسي. وكشفت باريس أن العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد المسؤولين السوريين أصبحت فعلية، لجهة منع التأشيرات عن الأسماء الواردة على اللائحتين الأولى والثانية بحيث لم يعد باستطاعة هؤلاء، وبينهم رئيس الجمهورية ونائبه ووزير الداخلية وقادة الأجهزة الأمنية، زيارة أي من البلدان الأوروبية ال27. أما العقوبات المالية والخاصة بتجميد أموال الأشخاص المعنيين، فإن العمل بها يحتاج لبعض الوقت. غير أن باريس ومعها العواصم الأخرى عمدت إلى اتخاذ إجراءات «احترازية» بحيث تمنع أي عمليات مالية على هذه الأصول بانتظار تجميدها رسميا، وذلك لغرض منعها من الهروب من المصارف العاملة في بلدان الاتحاد الأوروبي. ولم تصدر حتى الآن أي تقديرات عن قيمة الودائع المعنية أوروبيا. وعلى الرغم من أن فرنسا ما زالت تمتنع، رسميا، عن تخطي «الخط الأحمر» بالنسبة لمستقبل النظام السوري الذي تحثه على إجراء الإصلاحات السياسية الحقيقية دون إبطاء وتمتنع عن المطالبة برحيله فإن الأوساط الرسمية الفرنسية «تشكك» في إمكانية تحقق هذه الفرضية وتعتبر أن دمشق اختارت بشكل «لا رجوع عنه» طريق العنف والقمع وليست في وارد إجراء أي إصلاحات حقيقية. وقالت مصادر فرنسية واسعة الاطلاع أمس، إن النظام «يسير في درب لا رجعة فيه»، ولذا فإن الخيار المتاح أمام الأسرة الدولية هو «تشديد الضغوط عليه» بحيث «لا تبقى لديه أوهام حول موقف العالم من التطورات الحاصلة عنده». وردا على الحجة القائلة إن التحرك في مجلس الأمن الدولي يبدو معطلا بسبب موقف روسيا «والصين» اللتين تعارضان أي إدانة لدمشق أو اتخاذ تدابير عقابية بحقها أو صدور بيان إدانة، فإن باريس لا تعتبر أن الأمور «متحجرة»، ودليلها على ذلك أن موسكو «غيرت» موقفها من نظام القذافي وقبلت المطالبة برحيله على أعلى مستوى، وذلك خلال قمة دوفيل للدول الثماني الأكثر تصنيعا. وتربط باريس بين تغير موقف الأسرة الدولية والتطورات الحاصلة ميدانيا في سوريا، وهي ترى أن النظام السوري «أصبح في موقع لم يعد بالإمكان الدفاع عنه» أو «الاقتراب منه»، مما يعني أنه أصبح يخضع لعزلة سياسية ودبلوماسية مشددة بعد عقوبات الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي أي حال، لا تعتبر باريس أن انهيار النظام في سوريا يعني «حكما» الدخول في أتون الحرب الأهلية، علما أن مصادرها تربط بين المواقف المترددة للدول العربية والخوف من أن يؤدي انهيار النظام في سوريا إلى «انهيار المنظومة القائمة حاليا في المنطقة باعتبار أن سوريا ينظر إليها كقطب استقرار»، في الوقت الذي امتنعت فيه الجامعة العربية عن اتخاذ أي موقف مما هو حاصل فيها. وكان الرئيس نيكولا ساركوزي تبنى يوم الجمعة الماضي دعوة الرئيس الأميركي أوباما للرئيس السوري لتحقيق الإصلاحات الديمقراطية أو الرحيل. وتدافع باريس عن نفسها بوجه من يتهمها ب«الكيل بمكيالين»، في مقارنة بين ما فعلته إزاء طرابلس الغرب وما تقوم به إزاء دمشق. وأساس موقفها أن «المبأدئ هي نفسها، بينما الأوضاع متغيرة من بلد إلى آخر»، في إشارة إلى «ميزان القوى» القائم بين النظام ومعارضيه من جهة وقدرته على التأثير والإزعاج على حدوده وخارجها من جهة أخرى، فضلا عن تردد روسيا والصين والعرب. وفي أي حال، تعتبر الدبلوماسية الفرنسية أنها نجحت في إبعاد سوريا عن مجلس حقوق الإنسان وفي فرض عقوبات على المسؤولين السوريين بمن فيهم رئيس الجمهورية، وفرض العزلة الدبلوماسية على دمشق، ونقل الملف إلى مجلس الأمن الدولي، على الرغم من فشلها حتى الآن في استصدار قرار أو بيان منه. أما إذا استمر الوضع على استفحاله، فإن باريس ترى أن هناك «طرقا» متاحة بعيدا عن مجلس الأمن يمكن التلويح بها أو حتى اللجوء إليها لحمل المسؤولين السوريين على الاستجابة لما تطلبه الأسرة الدولية قبل الولوج إلى المرحلة اللاحقة وهي اعتبار النظام فاقد الشرعية وبالتالي المطالبة المفتوحة ب«رحيله». مسؤول أميركي : ندرس مجموعة خيارات لزيادة الضغوط على النظام السوري استبق النظام السوري الضغوط الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدة لدفع وكالة الطاقة الدولية في فيينا إلى إصدار قرار بإرسال ملف سوريا إلى مجلس الأمن، بإرسال خطاب إلى الوكالة يعرض استعداد النظام السوري للتعاون الكامل مع مفتشي الوكالة للتحقيق في ما نسب إلى سوريا من بناء مفاعل نووي في منطقة دير الزور. وكانت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة قد قادت حملة للضغط على القيادة السورية لإنهاء القمع الوحشي ضد المتظاهرين، والتصويت على طرح مشروع داخل مجلس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في اجتماعه 6 يونيو (حزيران) الحالي، لاتهام سوريا بانتهاك معاهدة منع الانتشار النووي، تمهيدا لتقديم الملف السوري إلى مجلس الأمن لاستصدار عقوبات ضد سوريا. وأرسلت دمشق إلى مدير وكالة الطاقة الذرية يوكيا أمانو خطابا يؤكد التعاون الكامل لسوريا مع التفتيش الدولي. واعتبر المراقبون الخطاب السوري والاستعداد للتعاون الكامل مع مفتشي الوكالة نوعا من تقديم التنازلات لتخفيف الضغط الدولي على سوريا، بعد أن رفض النظام السوري لعدة سنوات السماح لمفتشي الوكالة بزيارة موقع دير الزور الذي تشتبه وكالة الطاقة أن سوريا تقوم فيه بتنشيط اليورانيوم والبلوتنيوم لتصنيع الأسلحة بمساعدة كوريا الشمالية. ونقلت وكالة «أسوشييتد بريس» نص القرار المقترح من الولاياتالمتحدة الذي أبدت خلاله «قلقها الشديد» من رفض سوريا السماح للمفتشين التابعين للوكالة من دخول الموقع بما يمثل عدم امتثال من النظام السوري لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وصرح نائب ممثل الولاياتالمتحدة الدائم في وكالة الطاقة الذرية روبرت وود أمام اجتماع للدول ال35 الأعضاء بمجلس إدارة الوكالة، قائلا: «نحن ندرك أن الحكومة السورية بعثت برسالة للتعاون مع وكالة الطاقة، وهذا التعاون موضع ترحيب لكنه لن يكون له تأثير على النتيجة في عدم امتثال سوريا، ولن يكون له تأثير على قيم المجلس بمسؤولياته في ما يتعلق بهذه الحقائق». وبينما ماطل مجلس الأمن في التصويت على مشروع القرار الأوروبي، المقدم من بريطانيا وألمانيا وفرنسا والبرتغال، في ما يسمى «الانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي يتضمن القتل والاعتقال التعسفي والاختفاء والتعذيب للمتظاهرين السلميين. وأعربت كل من الصين وروسيا وأربعة أعضاء آخرين غير دائمين عن اعتراضهم لمشروع القرار، وأكدت الصين أن اعتماد المشروع لن يؤدي إلى تخفيف التوتر وعدم الاستقرار في سوريا، وطالبت العالم الخارجي بعدم التدخل في الشأن السوري الداخلي. وحول الخطوات القادمة التي ستتخذها الولاياتالمتحدة حيال الوضع في سوريا واستمرار قمع المظاهرات في المدن السورية، قال مسؤول أميركي رفيع بوزارة الخارجية الأميركية في تصريحات خاصة ل«الشرق الأوسط»: «إننا نواصل مراقبة الوضع عن كثب في سوريا، لكننا لا نستطيع التعليق على القرارات السياسية التي يمكن اتخاذها في المستقبل». وأشار المسؤول الأميركي إلى العقوبات التي أصدرها الرئيس الأميركي باراك أوباما على الرئيس بشار الأسد وستة من كبار المسؤولين في حكومته كمحاولة لزيادة الضغط على الحكومة السورية لإنهاء العنف والبدء في الانتقال إلى النظام الديمقراطي الذي يحمي الحقوق العالمية للشعب السوري.