هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرنامج الإقتصادي للحكومة الإنتقالية… قراءة متأنية
د. التجاني الطيب إبراهيم
نشر في الراكوبة يوم 03 - 10 - 2019

مدخل: أخيراً، عقد السيد وزير مالية الحكومة الإنتقالية مؤتمراً صحفياً مطولاً في الخرطوم يوم 23 سبتمبر 2019م، شرح فيه الخطوط العريضة لبرنامج إقتصادي "نهضوي" يمتد لمدة عشر سنوات بما في ذلك الفترة الإنتقالية ! ينقسم البرنامج إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الإسعافية الأولى (أكتوبر 2019م إلى يونيو 2020م). وتطلق فيها مبادرات إصلاحية بهدف كبح جماح التضخم (غلاء الأسعار) وتوفير السلع الأساسية، على أن الإطلاق لا يعني الإنجاز، حسب قول الوزير! المرحلة الإسعافية الثانية (يوليو القادم إلى نهاية العام 2020م)، وأهم ملامحها البدء في التعامل مع قضية الدعم وزيادة الأجور. أما المرحلة الثالثة فهي مستقبلية تهدف – بعد طرح التحولات الهيكلية "العميقة" التي ستتم في السنوات الأربعة القادمة – إلى الإستمرار في التحول إلى إقتصاد يعتمد على "المعرفة والإبتكار" ومشروعات أستراتيجية كبرى كخطوط السكة حديد العابرة للدول، وتحويل سواحل البحر الأحمر إلى ميناء إقليمي لخدمة الإقتصاد الوطني وإقتصادات الدول المجاورة عديمة المنافذ البحرية. فيما يلي، نود إبداء بعض الملاحظات العامة، ومناقشة بعض القضايا الهامة لما دار في المؤتمر.
تقديم: ملاحظات عامة
أولاً: بدلاً عن الحديث عن "برنامج نهضوي" يمتد لمدة عشر سنوات، كان الأجدر – في إعتقادي – التركيز على برنامج إصلاح إقتصادي متسوط المدى يغطي فترة الحكومة الإنتقالية بهدف تركيز الإقتصاد عند نهاية تلك الفترة، وما بعد ذلك فهو شأن الحكومة الشرعية التي سيتم أنتخابها، لأن البرامج الإقتصادية لا تورث. أما الحديث عن ضرورة "عقد إجتماعي يؤسس للشرعية الإقتصادية"، فلا علاقة له بالرؤى والبرامج الإقتصادية للشرعية الإنتخابية،لأن الثوابت الإقتصادية (مثل العدالة الإجتماعية، اللوائح والقوانين التي تنظم حركة الإقتصاد…الخ) متعارف عليها وموجودة دون الحاجة إلى "عقد إجتماعي".
ثانياُ: للأسف وعلى عكس التوقعات، ركز المؤتمر فقط على أستعراض السمات العامة للبرنامج دون ذكر أي أهداف كمية تُحقق (مثل معدلات النمو، التضخم (غلاء الأسعار)، عرض النقود، البطالة)، أو أي سياسات وإجراءات وآليات تنفذ خلال المرحلة الإسعافية وما بعدها. وقد يكون ذلك جزءً من أسرار المهنة، بحيث يعلن كل ذلك عند بداية تنفيذ البرنامج، الذي وصفه الوزير بالعملية الجراحية "العميقة"، التي "تستلزم الألم والمعاناة"، ما يعني بالعربي البسيط أن الأوضاع المعيشية ستزداد سوءً قبل أن تبدأ في التحسن.
ثالثاً: يعتمد نجاح البرنامج الأسعافي إلى حد كبير على حدوث السلام المستدام خلال ستة أشهر حسب توقعات الوزير. لكن في حال عدم حدوث ذلك، وهو أمر وارد، لم تطرح في المؤتمر بدائل لهذه الإحتمالية وأنعكاساتها على أداء الخطة الإسعافية، ما يقلل كثيراً من الثقة في بلوغ الخطة غاياتها المرسومة وفق المراحل الزمنية المحددة، وتداعيات ذلك على البرنامج برمته.
رابعاً: الإعتماد على البنك الدولي كمرتكز أساسي للدعم المالي والفني مخاطرة غير محسوبة العواقب، وإضعاف للثقة المحلية في ملكية البرنامج الإقتصادي المقترح، ما سيضر كثيراً بعملية إنزاله إلى أرض الواقع، خاصة وللبنك سمعة سيئة في الشارع السوداني حقاُ أم باطلاً، ما يستدعي الوقوف على مسافة واحدة من كل المؤسسات المالية والتنموية العالمية والإقليمية. لذلك نقترح عرض البرنامج قبل البدء في تنفيذه للنقاش المجتمعي المفتوح للتأكد من ملكية السودان له، وحشد الدعم الشعبي لضمان سلاسة تطبيقه.
خامساً: ما أثار الدهشة والأستغراب حقاً قول السيد الوزير: "طلبنا من البنك الدولي دعماً لإنتقال ثلاثة خبراء سودانيين يعملون خبراء في البنك لإنتدابهم للعمل في السودان مع القطاع الإقتصادي مع أستمرار البنك الدولي في دفع رواتبهم"!! علمنا لاحقاً أن واحداً من الثلاثة قانوني، والأخران مختصان بالهيكلة المالية وتطوير القطاع الخاص! أولا:ً من المحزن والمسيئ أن نعطي العالم الإنطباع بأن سودان الداخل (35 مليون نسمة) لا يوجد فيه مثل هذه الخبرات المكتسبة. ثانياً: المجالات المذكورة لا تحتاج إلى خبراء مقيمين، لأنها في العادة تجري لها دراسات يمكن تمويلها من البنك الدولي أو أي جهة أخرى، وتنفذ توصياتها بواسطة السلطات المحلية بمساعدة خبراء زائرين إذا دعى الحال. ثالثاً: كلمة "رواتبهم" لا تخلو من دغمسة وعدم وضوح. فالعاملون في المنظمات الدولية عندما ينتدبون للعمل في الخارج، يذهبون بقائمة من العلاوات (مثل علاوة الشدة، السكن، التعليم، السفر…الخ) بالإضافة إلى رواتبهم. والسودان مصنف بلد شدة، تتراوح علاوتها بين 30 – 40% من المرتب. هذا يعني أن الخبراء الموعودون سيأتون إلى وطنهم (!) بمرتباتهم زائداً علاوات تصل 60 – 65% من المرتبات، ما يثير التساؤل لمن سيكون ولاء هؤلاء الخبراء، وكيف سيتعاملون مع أبناء جلدتهم الذين يعيشون على الكفاف، وربما يقومون بنفس أعمالهم؟ والأهم من ذلك، لماذا لم تطلب الحكومة من معهدي البنك وصندوق النقد الدوليين عمل كورسات تدريبية في السودان في المجالات المذكورة وغيرها لتدريب وتأهيل أكبر قدر ممكن من رأس المال البشري بتكلفة تساوي، وربما تقل، عن تكلفة الخبراء الثلاثة؟. الغريب أنه عندما إستدعتني حكومة الديمقراطية الثالثة بواسطة البنك الدولي في يونيو 1986م، للعودة للسودان للمساهمة في العمل العام، لم يفكر أي من ثلاثتنا في كل هذه التعقيدات، فقد قدمت إستقالتي من البنك فور وصول خطاب الإستدعاء وولينا أنا وأسرتي وجوهنا شطر الخرطوم!
قضايا مختارة
سعر الصرف: الحديث عن "توحيد سعر صرف الجنية السوداني بعد نهاية البرنامج الإسعافي بعد يوينو 2020م، وبعد رفع السودان من قائمة الإرهاب"، هو غاية الإفراط في التفاؤل وعدم الواقعية. أولا: ليست هناك علاقة بين توحيد سعر الصرف وقائمة الإرهاب، لأن الأول يعتمد على ضبط المالية العامة (تحويل العجز غير التنموي/الجاري إلى فائض يوظف في تمويل التنمية)، وتضييق الفجوة بين العرض (الإنتاج) والطلب (الإستهلاك) ما يعني معالجة عدم التوازن في الإقتصاد الكلي. هذا يتم في المتوسط، خلال 3 – 5 أعوام في الدول النامية والأقل نمواً كالسودان حسب التجارب المتعارف عليها وحسب تجربتي الشخصية (30 عاماً) في البنك وصندوق النقد الدوليين. أضف إلى ذلك، توحيد سعر الصرف وتداعياته، خاصة على غلاء الأسعار وتكاليف المعيشة، الأمر الذي لم يتطرق له السيد الوزير.
إصلاح الدعم وزيادة الأجور: في هذا المجال، قال الوزير أن "دعم الوقود حالياً يمثل ثمانية في المائة من الناتج القومي الإجمالي"، وأكد أنه لا إتجاه لرفع الدعم والأستمرار فيه إلى منتصف 2020م، أو أكثر! في الواقع، تعبير "رفع الدعم" غير دقيق، لأن المقصود هو إصلاح الدعم بنقله من الإستهلاك إلى الإنتاج، (للإستزادة في هذا الموضوع، أنظر للكاتب: "إصلاح الدعم: خطأ التوقيت وعكس الخيارات". أما إذا أخذنا كلام الوزير في الإعتبار، فإننا نجد أن 8% تساوي 97.3 مليار من إجمالي الناتج المحلي المقدر في موازنة 2019م، ما يعادل 60% من الإيرادات المستهدفة و 50% من الإنفاق التشغيلي/الجاري. إذا أضفنا إلى ذلك دعم القمح (6 مليار جنيه)، والكهرباء (8 مليار جنيه)، والأدوية (5 مليار جنيه)، والدعم الجاري للولايات (6 مليار جنيه)، ودعم الأسر الفقيرة (3 مليار جنيه) حسب إحصائيات موازنة 2019م، فيصل الدعم إلى 125.3 مليار جنيه، ما يعادل 77% من الإيرادات الكلية و 64% من الصرف الجاري. على ضوء هذه الأرقام المذهلة، لا أدري كيف يمكن إصلاح أوضاع المالية العامة حتى بعد زيادة الإيرادات العامة بنسبة 20%، دون مواجهة قضية إصلاح الدعم من البداية؟ أيضاً، ما يدعو للأستغراب القول بأن يستمر الدعم السلعي حتى منتصف 2020م، حيث تطبق زيادة في الأجور، ما يعني عملياً إدخال البلاد والإقتصاد في صدمة تضخمية غير مسبوقة، ما يجعل من زيادة الأجور كروة مزين، خاصة بالنسبة لأصحاب المداخيل المحدودة والطبقات الإجتماعية الضعيفة. بالتالي، من الأفيد الإحتراز من زيادة الأجور قبل السيطرة على التضخم الجامح وهبوطه إلى الرقم الأحادي، علماً بأنه كلما قلت معدلات التضخم، كلما زادت الطاقة الشرائية للعملة المحلية، ما يقلل من المطالب بزيادة الأجور في المدى القصير، على الأقل.
أولوية الصرف على قطاع الدفاع والأمن والشرطة: شدد الوزير على أن الإنفاق على هذا القطاع سيكون أولوية قصوى في موازنة العام المالي 2020م(!)، علماً بأن هذا القطاع يبتلع حوالى 23% من إجمالي أعتمادات القطاعات حسب تقديرات موازنة 2019م. ورغم كبر حجم حصة القطاع في إجمالي الإنفاق ا لقطاعي، فصرف القطاع الحقيقي يفوق ذلك بكثير، لأن أعتمادات القطاع في الموازنة العامة تشمل فقط المواهي والأجور وشراء السلع والخدمات، بينما تمول إحتياجات القطاع الدفاعية والحربية من تجنيب جزء من صادرات النفط سابقاً ومن صادرات الذهب حالياً، بالإضافة إلى التجنيب الداخلي عبر شركات ومؤسسات القطاع الخفية. هذا يؤشر إلى أن الإنفاق على القطاع يفوق كثيراً الأرقام المضمنة في الموازنة العامة، ما يتطلب معرفة إجمالي صرف وإيرادات القطاع وإدراج ذلك في الموازنة العامة قبل تحميلها أعباء إضافية على حساب التنمية الإقتصادية والإجتماعية. في هذا الخصوص، أعلن الوزير نيته مضاعفة الصرف على التعليم والصحة والتنمية، ما يتطلب موارد إضافية في حدود 31 مليار جنيه حسب تقديرات موازنة 2019م للقطاعات الثلاثة (أنظر للكاتب: موازنة العام 2019م… العلاج بالأعشاب، جدولي 2 و3). لكن لا أحد يدري من أين ستأتي هذه الموارد، خاصة على ضوء كل ما ذكرناه أعلاه.
الديون الخارجية: بلغت متأخرات ديون السودان الخارجية حوالى 57 مليار دولار بنهاية يونيو 2019م، منها حوالى 2,7 مليار دولار متأخرات لصندوق النقد والبنك الدوليين وبنك التنمية الأفريقي. وهذه ديون سيادية، بمعنى أنها لا تخفض ولا تلغى. في مؤتمره الصحفي، أعلن الوزير المالية عدم إعتقاده "أنه ستكون هناك مشكلة لمعالجة هذه المتأخرات حال رفع أسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لجهة أن هناك ما يسمى برنامج القرض الليلي، وهو أن تعطي دولة صديقة السودان مبلغاً لدفع متأخراته.."! في الواقع، ليست هناك علاقة بين سداد الديون وقائمة الإرهاب (1993م)، التي تفرض على السلطات الأمريكية معارضة، وليس منع، منح السودان قروض من صندوق النقد الدولي تحديداً. بمعنى آخر، فالقائمة لا تعارض سداد الديون، وإنما منح القروض والدعم الأمريكي المباشر وغير المباشر للسودان. بالتالي، فالقرض المعبري أو "الليلي" كما سماه الوزير، يمكن أن يتم في أي وقت بمعزل عن رفع قائمة الإرهاب، لكن يبقى السؤال: ما هي الدولة "الصديقة" التي تتوقع الحكومة منها مد يد العون؟ وحتى إذا توفقت الحكومة في معالجة مشكلة المتأخرات السيادية، فما هي الخطوات التالية لحلحلة بقية المتأخرات؟ وهذا طريق طويل ومعقد حسب تجربتي مع العراق (للمزيد عن كيفية معالجة ديون السودان وتجربة العراق في هذا المجال أنظر للكاتب: كتاب" الإقتصاد السوداني في مقالات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2011م، صفحات 43 – 53″.
قائمة الدول الراعية للإرهاب: رفع إسم السودان من هذه القائمة، ستكون أهم تداعياته نهاية حرمان السودان من: (1) المساعدات الخارجية الأميركية، مثل برنامج المعونات الزراعية، و (2) والدعم الأميريكي في المؤسسات والصناديق المالية الدولية، ما سيفتح الباب أمام مساهمة أمريكا في التكلفة الإضافية المطلوبة (ثلاثة مليار دولار) في موارد مبادرة الدولة الفقيرة المثقلة بالديون (الهيبك) لإدراج السودان في المبادرة، بسبب أنه لم يكن جزءً من المبادرة عند إطلاقها. للأسف، الأوضاع المالية والسياسية في أمريكا، وربما في العالم الغربي بأسره، خلال العقدين الماضيين أدت إلى تراجع كبير في حجم الدعم الأمريكي الخارجي، ما يعني ضآلة فرصه ومساهمة أمريكا في التكلفة الإضافية لمبادرة الهيبك بعد رفع السودان من القائمة، علماُ بأن المبادرة ليست نزهة لأن لها شروط إصلاحية متشددة يديرها صندوق النقد والبنك الدوليين. لذلك ، الإعتماد على مبادرة الهيبك لمعالجة مشكلة الديون الخارجية سيكون أشبه بالمستجير من النار بالرمضاء، ما يفرض على صناع القرار السوداني ضرورة البحث عن بدائل أخرى.
"صندوق ثقة" يديره البنك الدولي: ما ذكر عن دعم الهيبك ينطبق أيضاً على المطالبة بالدعم من البنك الدولي لتمويل "صندوق ثقة" بملياري دولار تحت إدارة البنك للصرف على أولويات حكومة السودان. فوزيرالمالية من المفترض أن يكون سيد العارفين بأن البنك لن يدعم مثل هذا الصندوق بسبب متأخرات ديون السودان. بالتالي، فمن غير المتوقع أن تساهم أمريكا بعد رفع أسم السودان من قائمة الأرهاب، أو أي دول أخرى، في صندوق بالحجم المذكور يديره البنك ولا يساهم فيه بموارده. أيضاً، زيارة وزيري خارجة ألمانيا وفرنسا (أكبر إقتصادات الإتحاد الأوروبي وحصادها البائس (31 مليون يورو!!) من المساعدات تعطي مؤشراً أن أوروبا الغربية هي الأخرى لن تكون داعماُ حقيقياُ للصندوق المقترح. لذلك، ومن وجهة نظري الشخصية، ليس هناك من بديل للسودان غير التوجه شرقاُ نحو دول الخليج للحصول على الدعم المالي اللازم لمعالجة ديونه الخارجية وتمويل أسبقياته التنموية. لكن هذا يتطلب عدم الخلط بين المصلحة القومية والقناعات الشخصية، وللسودان كروت في المنطقة يمكن أن يستفيد منها دون خنوع أو مذلة.
رقابة شعبية للأسواق: على هذا الصعيد، أكد الوزير أن هناك إجراءات لرقابة شعبية للأسواق بالنسبة للخبز والوقود بالتعاون مع السلطات ذات الإختصاص بإدخال تطبيقات إلكترونية (!) لعملية نقل المحروقات من المصافي للطلمبات ومراقبة عملية الصرف، وتطبيق نفس السياسة على المخابز بالرقابة عليها بواسطة الشباب بعد أعطائهم الصفة الرسمية!! هذا يعني العودة إلى إدارة الأسواق بالإجراءات الإدارية، بؤرة الفساد، بدلاً من السياسات والإجراءات والقوانين التي تنظم وتضبط حركة الأسواق. ثم لماذا الشباب لرقابة المخابز، وما هي الصفة الرسمية التي ستعطى لهم؟ ومن قال أنهم أنبياء ولن يقعوا في براثن الفساد الإداري والمالي كما وقع الذين من قبلهم؟ وفوق كل ذلك، أين هذا من التحول إلى إقتصاد "المعرفة والإبتكار"، الذي بشر به الوزير، إذا تحول الشباب إلى مراقبي مخابز؟


خاتمة: القراءة المتأنية لما دار في المؤتمر الصحفي لوزير المالية تؤشر إلى جهد مقدر في عرض السمات العامة للبرنامج الإقتصادي للحكومة الإنتقالية، رغم أن المؤتمر طرح الكثير من القضايا، التي تحتاج إلى المزيد من النقاش وإعادة التفكير. كما أن عدم تقديم منظومة من أهداف كمية وسياسات وإجراءات محددة يعتمد عليها في تنفيذ البرنامج، لم تدع مجالاً لتقييم البرنامج أو إبداء رأي أولي حوله. وهذا ما سنفعله قريباُ إن شاء الله عندما يعلن البرنامج الكامل، الذي نأمل أن يطرح للرأي العام للإطلاع والمناقشة قبل التنفيذ.

د. التجاني الطيب إبراهيم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.