رحل د. محمد يوسف أبو حريرة عن هذه الفانية في مارس 2013.. انتقل الى رحاب العلا مخلفا وراءه سيرة عطرة وتاريخا من الفراسة.. أبو حريرة – أشهر وزراء الانتفاضة – كان متميزا في انحيازه للبسطاء وشغله الشاغل منذ تسنمه وزارة التجارة تخفيف أعباء المعيشة على الفقراء.. كان نجم الديمقراطية الثالثة بلا منازع.. تميز بصلابة لا تلين في مواجهة الفساد وسوء الادارة إبان توليه وزارة التجارة لنحو عام ونصف في حكومة الصادق الاولى. محاربته لاستغلال النفوذ و تصريحاته التي لا تعرف المواربة كانت حديث المجالس بعد الانتفاضة، فقد وقف وزير الاتحاديين (ألف أحمر) ضد تجار حزبه مكافحا جشعع الرأسماليين الطفيليين، دخل في مواجهة مكشوفة مع عمالقة السوق في قضية تفريغ ميناء بورتسودان من البضائع.. أحد تجار حزبه – الاتحادي – سارع باستيراد شحنة لحوم من استراليا ودخل الوزارة حاملا معه كيسا فيه عينة من تلك اللحوم كهدية.. رفضها أبو حريرة في إباء وكبرياء، وأقسم أنه امتنع هو وأسرته عن تناول اللحوم المحلية والمستوردة حتى انجلت تلك الأزمة. لم يكن غريبا ان يكون اسم أبو حريرة وسيرته على كل لسان، لدرجة أن الكثير من الباعة واصحاب الحافلات والبصات نقشوا اسمه على مركباتهم وعلى واجهات الكناتين والطبالي.. قراره الجرئ باستيراد اللحوم من استراليا وإدانته للفساد رفعت أسهمه بين الناس، ما أثار حفيظة تجار الحزب فحشدوا ضده الحشود.. كانت أحاديثهم باهتة غالبها يدور حول اتهامه بأنه يساري الهوى، لكنهم تكالبوا وطالبوا بإقالته، ونجحوا في ذلك . نفس الزول.. نفس الناس الذين يبغونها عوجا ..! عندما انقلبت الجبهة الاسلامية على السلطة في صبيحة 30 يونيو 1989، رمى الإخوان زعماء الاحزاب بكل الموبقات ومارسوا اغتيال الشخصية على كل القيادات السياسية التى أودعوها السجون وبيوت الاشباح. ومن عجب أن عسكر الإنقاذ أرسلوا في طلب الدكتور أبو حريرة وعرضوا عليه تولي الوزارة – وزارة التجارة – نفس الوزارة التي من أجلها أقال السيد الصادق المهدي الحكومة، كي يقصي منها وزيرا واحدا هو أبو حريرة.. وبعد أن تحقق له ذاك الهدف قال (إن ابو حريرة شم شطة وعطس)..! نفس الزول.. نفس الناس الذين يتربعون الآن فوق التل كرموز للسيادة..! هذا للذكرى وللتاريخ،، أو .. أو كما يقول أحدهم في هذه الأيام الفارقة من عمر الوطن إن (الحساب يجمع).. دع الحساب يجمع أو يطرح، طالما أن الحاضر غدا مسخرة بين يدي تشاشة السوق..! جاء رد أبو حريرة حازما في وجه الإخوان الذين عرضوا عليه الوزارة.. قال لهم إنه لن يشارك في نظام جاء بالانقلاب. أضاف: أن خلافاته مع رفاقه خلال العهد الديمقراطي كانت خلافات في وجهات النظر، ليست بأي حال من الأحوال خلافات تجعله يزهد في الديمقراطية.. كان هذا الموقف القوي هو الدرس الاول الذي لقنه الدكتور لكيزان تلك المرحلة.. فمن يلقن كيزان اليوم شيئا من عبق التاريخ أو من نسج الخيال؟ رحمة الله على أبو حريرة، ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر.