طباع الإستبداد ومصارع الإستعباد نحن أمة البجا نواجه مأزقا غير معروف ، ليس له سوابق من الممكن الإستشهاد بها في تاريخ معاصر . المأزق أن الديمقراطية تفرض من فوق من غير أي إشارة إلي أنه بإمكانها الخروج من باطن المجتمع . وهي منطقة يؤدي فيها اليأس إلي خلق تربة خصبة لملل ضالة ومضللة ويرضيها التطلع إلي تفجير الإنسان نفسه وقتل أكبر عدد من الأبرياء معه ، بدلا من بناء مجتمع حضاري يزرع وينبت قيم حضارية ، يحصد ثمارها الناضجة المفيدة المجتمع بأسره … لم لا نتعظ بالتاريخ القريب جدا منا حيث فشلت تجربة الإختبارات القائمة علي المفاضلة بين مذاهب الأولويات الزائفة وقيم حقوق الإنسان التي تهتم بإزالة الظلم وكف يد الظالم وتشترط شروق ساطع للحرية والعدالة لتنير معالم خارطة طريق حاضرنا ومستقبلنا نحو الإستقرار والرقي الحضاري. إن العناية الإلهية وفرت لنا الثروات الهائلة علي ظاهر الأرض وباطنها ، ولكن مع غياب التخطيط لإدارة هذه الموارد وإستغلالها الإستغلال الأمثل كان حصاد الفشل الزريع الذي ضرب بقسوة متناهية كل عوامل الوحدة وهدم ركائزها الأساسية من سياسية وإقتصادية وإحتماعية ، والسؤال الملح متي ستوضع إستراتيجية ، تعينها البصيرة في النظر إلي قضاياها المصيرية ؟ والحقيقة التي لا مفر منها ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك ديمقراطية تقوي وتصمد إلا برباطها القومي ، وإلا سنعيش تفاقم النزاع وإطالة أمد الأزمة الإنسانية . لأن القيم الذاهبة إلي فرض التعايش مع تيارات الإستهداف والدونية للآخر بل التغني به ، لن تمنجنا الطمأنينة والسلام وستزيد في بواعث القلق المهلكة ، وبتناول الأوضاع الحالية بالتفصل – بتوجه عقلاني منضبط – مسيطر علي الاهواء الشخصية والجمعية ، دقيق في تحديد للمشكلات في تشخيصها ، خال من الإستعراض والإنتفاخ الخطابي مزور للعبارات الطنانة ، التي لاتفيد معرفة – بل تمحو الحاضر وتحميه عن السير والتدبر نموذجا بالغ التميز علي التناول الهادئ والموضوعي والمنضبط والدقيق للموضوع موضع البحث والمناقشة والتحديد ، وعلي ضرورة التحديد الدقيق – ووضع الفواصل-مما ينافي ماهو مألوف من طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد ، من تمييع للأمور ، وعدم التمييز بينها ، والأخذ بالأيسر ، واسطورة الثقافة المتميزة ، وتملق المجتمع بالكذب . واذا كان لنا أن نشهد بقضايا محددة . فلاشك أن قضية تكون الأمة البجاوية في منظار التاريخ وقضية علاقة القومية بالوطن ، مبرران كالمحورين الأساسيين اللذين ينتظمان في إهتمامات الجميع بالجميع . وبذهنية تاريخية واقعية ، أن القومية بنت العصور الحديثة ، وإنها إنسانية بمعني أنها ليست صادرة عن حصائص فطرية أو طبيعية في جماعة معينة ، وإنها إكتسابية بمعني أنها لا تحصل بقدر محتم أو بالتوارث ، بل إنها نتاج للعقل والإكتساب الذاتي ، علي ذلك ليست الروابط التاريخية أو الخطوط الجغرافية مقوما للوحدة ، ذلك أن الإرتباط بالموطن والإنتماء إلي القبيلة أو العرف والإعتزاز بها والإقتتال من أجلها ، أمور تنتمي إلي ما قبل القومية ، بمعني أنها لا تقيد نفسها بنفسها رباطا قوميا مناطه السياسة والتجانس الثقافي الداخلي ، وليست هذه الروابط التاريخية ولا تراكم الأحاسيس والتراث أكثر من مادة خام للتكون القومي . علينا الإعتراف أن الأمة السودانية لا زالت في طور التكون كقوام سياسي ثقافي ، وأن إكتمال هذه العملية أمر منوط بالفعل السياسي المتعقل وبني دولة مقتدرة تحترم التباين الثقافي – فلا يعقل أن يقتصر علي الإستقلال ، ثم التقاعس عن عملية التشكيل القومي الديمقراطي والإنصراف إلي نواح إستبدادية أدت في معظم الأحيان إلي التراجع الإجتماعي والنكوص الفكري والعقلي ، وقد آن الأوان ليقلع عن الفكرة السخيفة الذاهبة إلي التميز والعرق ، فلن يكون الأمر للجهالة ، والرأي للضلالة ، والحكم للطغيان ، بذلك ننقذ أنفسنا من إسار المادية والعصبية والأثرة – بل طريق مستقيم إلي نظام أكمل وعالم أفضل وحياة أسعد ، ومن ضل عن ذلك هم المنافقون الذين يعلنون لها اليوم هذه الحقوق وهم يسرون في أنفسهم تأكيد الإمتيازات والفوارق . فلن نتوسل لحفظ حقوقنا الإنسانية المشروعة في كتب السماء والأرض . فلا إكراه في الدين . تلك رسالة قيادة منسجمة في أعضائها ومضاء في جواسها ، قيادة معتدلة الخلق وعقولها أشد مضاءة وتفهما ، رسالة جاءت في وقتها بعد الإستقلال بعامين ، تنير الطريق وتهدي للتي هي أقوم ومن يشاقق الواقع فالزمن شديد العقاب ، بذلك لم تبتعد القيادة التاريخية لمؤتمر البجا عن قضايا واقعنا المعاصر أو تتعمد الهروب منها . إنما تذكرنا بواقعنا المؤلم الذي لم ينعم بمقومات الإستقرار والتوازن النفسي . واقع خال من الإنسانية وفارغ من الحياة ، وهي القضية التي نطرحها عندما نلاجظ أن ظاهرة العنف ستصبح أكثر تجسيدا وحضورا ، الأمر الذي يجعلنا ننتبه لظاهرة التعصب التي يمكن أن تعصف بنا جميعا في الهاوية المهلكة . لذك لجأت قيادة مؤتمر البجا إلي مخاطبة الركن الهادئ من العقل السوداني الذي يفكر ويتأمل بعيدا عن هذا الصخب السياسي . لأن الماضي السياسي الذي لم يرحل بعيدا ، علمنا أن نرفع رؤسنا إلي أعلا وأن نرصد ، وأن نتفكر أيضا ، وتلك الحقيقة ليست في حاجة إلي جدل أو محاججة ، فأبسط مقدار من الحس الإنساني يمكن أن يقطع بفساد وزرائع الواقفين وراء أحداث الجنوب العزيز في 1955 م ، ولنتأمل عشرات بل الألوف من ضحايا الإستبداد السياسي المتغطرس والمتعالي ، وللاسف تلك الاحداث تزامنت مع تباشير شروق شمس الحرية (1954م) ، وتركة مذبحة عنبر جودة في 17 / فبراير / 1956 م أي بعد شهر من إعلان إستقلال البلاد وإغلاق ملف الجريمة دون محاسبة . حولين كاملين بعد عام الحرية . تغيرت فيهما معالم الكون وموازينه وقيمه وحفلت فيه الحياة الإنسانية من حولنا بالمستجدات والمتغيرات الكبري ولم يتغير إلا القليل جدا في القيادة الممسكة بزمام الأمر والتي لازالت تتمسك بعناد غريب بأفعال السيطرة المطلقة مع المجتمع الكبير ، المتعدد الأعراق والثقافات وفق تقاليد زمن القمع والحرمان والعبودية ، وهي تقاليد تستمد ثقافتها من إرث المتمتين بأدعية نجهل نصها وأصلها ، دون رؤية بماذا يحمل الزمن القادم لوحدة الوطن وشعوبه . فقد تساقطت الأنظمة المثيلة كأوراق شجر الخريف في أكثر الأنظمة تخلفا في قارتنا (إفريقيا) وفي كثير من بقاع الأرض ، وأصبحت هذه الشعوب تتحرك الآن نحو الحرية الديمقراطية وحقوق الإنسان . أما في سوداننا فإنهم في غيهم يأهمون . فمن أين جاء هذا العمي الذي يتخفي وراء أقنعة مفزعة ، سواء من وعي شرير أو لا وعي شرير أيضا ، فالنتيجة واحدة . أمر خطير نحذر منه ، إن لم يتم الحوار ، حوار الإعتراف بالآخر بدلا من العنف من أجل هيمنة تحمل الناس علي أخذها وتقبلها بالإكراه . لابد من مراجعة شجاعة ، فلا يجوز أن نبحث عن سبب آخر نفسر به أو نبرر مانعانيه من تخلف وضعف من حال جمع الأكثرية من السوئتين الفقر والجوع وثالثهم الجهل . لأن الحروب ستمزق وحدة البلاد مع غياب الحكمة ورؤية التدبير والتخطيط ، ويكون في نظرنا جديرا بالإهتمام أو الإهمال ، وهل هذا الوضع مستعصي علي العلاج . العلاج ممكن وميسور متي صار هذا الواقع موضع الهم والإهتمام . إن إجراءات غير متعذرة تنقل هذا الشأن الحلم إلي الحقيقة ، ومن الأمل إلي التحقيق ، وبالعدم ستصبح الحياة أصعب وأكثر حرجا مما عليه اليوم ، كأننا نمضي بظهورنا معصوبي الأعين إلي الوراء . علينا أستنكار ورفض ما تصنعه أهواء النفوس المحبة للسيطرة وتديره روؤس سادية تبحث عن الأسلاب والمغانم ، والمعنوية منها والمتمثلة في فرض لإرادة الذات عبر الغير . وهذا يحتاج إلي وقفة طالما أصبح في نيتنا تلقي الدروس والعبر من المعلم العظيم وهو التاريخ لنحفظها وننقلها تحسبا للمستقبل ، لأننا لا نستطيع أن نجلس ونراقب فيما يغوص مستقبلنا عمقا في الكارثة القادمة . إن عجزنا عن وصولنا شواطئ الآخر فضلا عن التأثير في مياهها ومد جداوله ، علي درجة من الوضوح يجعل كل تدليل عليه أو حشد الشواهد لإثباته أمرا يسقط من حسابه الحد الأدني من الإدراك لدي المتأمل لهذه الحالة الدارس لها . وسبب ذلك يمكن أن يختصر في جملة واحدة هي أنه (ليس لدينا ما نقدمه إلي مجتمعنا اليوم) . الحضارة التي يعيشها العالم من حولنا وهي حضارة حاضر وسباق إلي المستقبل لحمتها وسداها العطاء العلمي وما ينتجه هذا العطاء من تقنية تجدد موقع أي أمة من حيث القوة والضعف والفقر أو الغني والقدرة علي الإنتشار والإنتصار . الحضارة من حولنا لا تحتل مواقعها لأنها تحمل بين يديها محاورات سقراط وجمهورية أفلاطون وفلسفة أرسطو ولكنها احتلت هذا الواقع بما كشفت من طبيعة المادة وسنن الكون ومما مكنها ذلك من الوصول إلي أغراضها الخيرة والشريرة لأعدائها. للتاريخ – سبق الإنقلاب الطائفي برئاسة الفريق إبراهيم عبود 17 / نوفمبر/ 1958م بشهر واحد وسبعة أيام ، إجتماع ضم القيادة المنتخبة لمؤتمر البجا . وهم الدكتور/ طه عثمان محمد بليه ومحمد جيلاني محمد أحمد ومحمد صالح ضرار وضرار صالح ضرار وعمر بعشر وعبدالقادر الكابلي وعلي المليك ومحمد كرار كجر وعثمان عمر أحمد المصري وسيدي نايلاي وابراهيم صالح شوف وعلي محمد إدريس وسعيد بازرعه وعثمان ابراهيم بليه والدكتور محمد عثمان الجرتلي والناظر محمد الأمين محمد طاهر باكاش (أليفاي) ومنيب عيسي هجينه وعمر الشناوي وعبدالله البتنوني وأحمد اسماعيل البجاوي ومحمد بدري أبوهديه … مع السيد عبدالله خليل رئيس مجلس الوزراء والوفد المرافق وحمل الرسالة الواضحة البليغة (لما لا نتعظ بالتاريخ حيث فشلت جميع التجارب والإختبارات القائمة علي المفاضلة بين القيم العادلة ومنطق الأولويات المزيفة) ؟ ماذا عن مصير أنظمة الحكم التي توهمت التفوق العرقي المزعموم علي حساب الديمقراطية الحقيقة ؟ ما الذي آلت إليه البلاد اليوم ؟ في الفترة من ( 1954م – 1958 م ) . إن أمة البجا حريصة كل الحرص علي وحدة الوطن وشعوبه المتباينة الأعراق والثقافات ، والخيار الوحيد الذي يقدمه هذا المنطق السليم المتعافي هو عدم الإذعان والخضوع والإستمرار في تلقي الدروس وعلينا التصدي لأي أفكار عن الحرية والعدالة وغير ذلك من الفضائل المزعومة . فالحرية بمعناها الحقيقي هي حرية العقول لأنه من دونها تتخبط الأمم في وهدة الظلام والانغلاق العقلي والإستبدادي . إن الذي يبصر الغاية سينكشف له الطريق ، لأن أصحاب القضايا همهم الأول قضاياهم وليس أشخاصهم .. [email protected]