الواقع على الارض يمثل العامل الرئيسي في المكاسب التي يحققها المفاوض عند ابرام الاتفاقيات، فكل ما كان المفاوض هذا الواقع متينا مرتكزا على انتصارات عسكرية حاسمة، تمثلت في الاستيلاء على مواقع حصينة او مدن استراتيجية يمكن المفاوض من فرض شروطه ويعطيه الفرصة في الامساك بخيوط اللعبة وادارة الحوار بمهارة واقتدار، فالجانب المنتصر دائما ما يفرض شروطه.. وتأتي الاتفاقية في شكل املاءات اكثر منها بنود متكافئة تحمل وجهة نظر الطرفين، وهنالك المفاوض الذي يكون موقفه العسكري او السياسي واللوجستي جيدا ولكنه يفشل في تحقيق مكاسب تمثل انعكاسا حقيقيا لهذا الواقع، ويخرج باتفاقية ضعيفة لا تتناسب والمعطيات المحيطة به، وهذا ما يعاب على الرئيس المصري الراحل انور السادات عند ايقافه لاطلاق النار عقب حرب اكتوبر 1973م، فلم يستثمر النصر الكبير الذي تحقق ووافق على وقف اطلاق النار بشروط ضعيفة لا تتفق ووضعه كجانب منتصر في الحرب، وقد كانت قراءته للأحداث تفتقر للحنكة السياسية والدبلوماسية.. واستسلم للواقع الذي افرزته ثغرة الدفرسوار بالرغم من انه وصفها بانها لا تعدو ان تكون محاولة يائسة لتحقيق دفع معنوي للمقاتل الاسرائيلي، وليس لها اي قيمة عسكرية وانه يستطيع القضاء على الثغرة الاسرائيلية في هذه المنطقة بمعركة تلفزيونية لا تتجاوز السويعات، والرئيس المصري يوصف بانه فرط في نصر اكتوبر عند توقيعه لاتفاقية كامب ديفيد واعطى الدفع المعنوي لعدوه عندما صرح بأن 99% من خيوط اللعبة في يد امريكا وانه لا يستطيع ان يحارب امريكا ، وهذا ما انعكس بالضرورة على الشروط والمكاسب التي خرجت بها الاتفاقية، والسؤال الذي يطرح نفسه ما علاقة ذلك باتفاقية نيفاشا؟! فالعلاقة وثيقة وتكاد تكون متطابقة فالظروف والملابسات التي صاحبت اتفاقية نيفاشا تكاد تتشابه في كثير من جوانبها، فالمفاوض الشمالي دخل مفاوضات الاتفاقية وموقفه على الارض وعلى الصعيد السياسي يكاد ان يكون مثاليا، فالانتصارات التي حققها الجيش السوداني مع الحركة الشعبية كانت واضحة للعيان واستطاع الجيش السوداني ان يدحر التمرد في عملية الامطار الغزيرة التي انطلقت مصحوبة بالدعم اليوغندي، فقد تمكن الجيش السوداني من هزيمة الحركة الشعبية وحليفتها يوغندا في معارك شرسة تجلت فيها بطولة الجندي السوداني وخبرته وتمرسه، واظهرت هذه المعارك استحالة هزيمة الجيش السوداني وادخلته في دائرة اقوى الجيوش بالمنطقة، خاصة وأن الاسلحة والذخائر والعتاد الحربي من دبابات وناقلات جنود ومعدات كان مصدرها الرئيسي ما انتجته المصانع السودانية، وقبلها كانت عمليات صيف العبور التي كان وقودها طلاب الجامعات الذين اظهروا بطولات سار يذكرها الركبان واضحت ملهما وباعثا للوطنية والعزة والكرامة، ونتيجة لذلك فشل التمرد في دخول اي من المدن الرئيسية وظل يقاتل في المناطق البعيدة والتخوم، وقد جاءت الاتفاقية والجيش الشعبي يعاني من الهزائم المتلاحقة، العسكرية والسياسية وقد تجسدت الاخيرة في الاختراقات المتعددة التي استهدفت الحركة الشعبية، والتي تمثلت في الاتفاقيات التي ابرمتها الحكومة السودانية مع المنشقين من الحركة الشعبية والذين كان على رأسهم نائب رئيس الحركة الشعبية د. رياك مشار ونائب رئيس الحركة الشعبية السابق كاربينو كوانين وأروك طون اروك مرورا باتفاقية فشودة (لام اكول) واتفاقية الخرطوم. وهذه الاتفاقية ان لم تؤد لايقاف الحرب فلا شك انها ادت لاضعاف الحركة الشعبية عند دخولها للمفاوضات مع الحكومة السودانية. لقد كان الوفد الحكومي في التفاوض الاول برئاسة د. غازي صلاح الدين يعي موقفه التفاوضي تماما ويدرك القاعدة الجيدة التي ينطلق منها، وادار حوارا تفاوضيا موضوعيا ورفض المساومة والتنازل عن النقاط الجوهرية وابدى تماسكا يتفق وقراءته للواقع، ووصلت المفاوضات لمفترق الطرق، وقد كان ذلك امرا طبيعيا بالنظر للمواضيع الشائكة المطروحة وطبيعة النزاع وطول امده وخلفيته التاريخية والسياسية، ولم يكن ذلك عيبا او امرا غير طبيعي فهنالك مفاوضات تمتد لسنوات وعقود ولكنها تفرز واقعا مقبولا يرضي جميع الاطراف دون ان يتأذى منه طرف دون الآخر، وقد تمسك هذا الوفد بالثوابت ورفض تقديم التنازلات التي يعتقد انها تمثل انتهاكا لسيادة البلاد وتؤدي لتقسيمها وتشطيرها، وبثبات هذا الوفد على موقفه وبظهور شبح فشل المفاوضات تم استبداله بالوفد الذي توصل لتوقيع اتفاقية نيفاشا، هذا الوفد الاخير هذا ابدى كثيرا من المرونة وبذل التنازلات التي اخرجت الاتفاقية بما هي عليه والتي حملت بين طياتها كثيرا من الثقوب، وارهقت كاهل البلاد بالتزامات واستحقاقات صعبة التنفيذ، وفي تنفيذها الخراب والدمار، فالاتفاقية تمثل بداية النهاية للسودان الحديث الذي برز للوجود في العام 1820م، فطول هذه الحقبة الطويلة لم تتهدد وحدة السودان بمثل ما تتهددها نيفاشا، فالسودان المعروف المتوارث على مر الحقب والازمنة الى زوال. ولعل اخطر ما اشتملت عليه الاتفاقية هو ملف قسمة الثروة، فالاتفاقية تنص على ايلولة عائدات النفط لدولة الجنوب بمجرد اجراء الاستفتاء وتحقق الانفصال فهذا النص يجافي العدالة والمجرى الطبيعي للأمور. فالاقتصاد السوداني يعتمد كليا على موارد البترول ولا يمكن فطامه منها بمجرد الانفصال ، هذا النص يحتاج للمراجعة والتعديل، فإيقاف ايرادات البترول عن الشمال بمجرد الانفصال فيه ظلم وعنت، وسيكون له بالغ الأثر، وسينعكس على الاحوال الاقتصادية بصور سالبة، فحقوق الشمال على بترول الجنوب لن تنتهي بقيام دولة جديدة، فهذه الحقوق مكتسبة، ولا يمكن التخلي عنها بهذه البساطة، نعم البترول يستخرج من اراضي الجنوب ولكن العقلية الشمالية هي التي استخرجت هذا البترول في وقت عصيب، وفي ظل ظروف اقتصادية ضاغطة وتضحيات كبيرة، ويجب الاخذ بعين الاعتبار كل هذه الملابسات، بالنظر لأن مساهمة الجنوب في الناتج القومي منذ الاستقلال تتسم بالضعف وعدم الفاعلية، وظل الجنوب طوال هذه الفترة يعتمد اعتمادا كليا على الناتج القومي للشمال دون منٍ أو أذى. والمنطق يقول بأن يتم تعديل هذه الاتفاقية بأن تظل الموارد البترولية على ما هي عليه لفترة لاتقل عن الخمسة عشر عاما، حتى يمكن للاقتصاد الشمالي البحث عن موارد اخرى، واستنباط مصادر دخل متنوعة وتنشيط القطاعين الزراعي والرعوي، فالاقتصاد السوداني اصبح يعتمد اعتمادا كليا على البترول، ولا يحتمل الهزة العنيفة المتوقعة بتحويل الموارد البترولية للجنوب، فيجب على الجانب الشمالي السعي لتعديل الاتفاقية فيما تبقى من وقت، وهذا الطرح يجد سنده في القانون الدولي فحتى الاتفاقيات الدولية يجوز تعديلها والتحفظ عليها (Reservation) متى ما استدعى التطبيق الفعلي ذلك، وتعديل الاتفاقية لا يعني التنصل عنها والاعراف والمبادىء الدولية ( International Norms) تسمح بمثل هذا التعديل الذي يجب ان ينظر اليه في اطار المصالح المتبادلة، وذلك باشتراط تمتع الجنوب باستخدام انبوب النفط الناقل للتصدير لمدة توازي المدة المتفق عليها بدون مقابل بعد انفصال الجنوب، ودون هذا التعديل ستكون العلاقة بين الدولتين علاقة عدائية ستؤدي لاضعاف كليهما، خاصة الجانب الجنوبي الذي هو في امس الحاجة للتنمية والإعمار وبناء الدولة، فالدولة الوليدة ليس من مصلحتها الدخول في مواجهات وحروب ستؤدي لإنهاك قواها وعرقلة مشاريعها التنموية. والاقتراح المعني يمكن ان يتم بأن يكون للشمال نصيب في بترول الجنوب مقابل سعر رمزي متفق عليه لا يرهق الخزينة الشمالية ويحقق بعض العائد للجنوب، ويمثل عربون صداقة بين الدولتين.. *محامي وكاتب صحفي