من بين المساجلات النقدية الحارة بين شاعرنا الناقد محمد محمد علي «1922 1970م»، والدكتور محمد النُّويهي تفنيد الاول لزعم الثاني أن العباسي «1879 1963م»، قد اعتمد على قصيدة شوقي «أنس الوجود» وقلدها حين وقف على خزان سنار وحياه بجزء من قصيدته.. اهدى شوقي «1869 1932م» ضاديته من بحر الخفيف «أَنس الوجود» إلى المستر روزفلت الرئيس الاسبق للولايات المتحدة: «أتأذن لرجل تعود أن يخرج عن دائرة «الموظف» كلما عرضت حال يخدم الوطن فيها الرجال أن يرفع لشعره ذكره، ويشرف قدره، مهديا اليك منه هذه القصيدة في لغة «الضاد»... وهي مما قلت في «أنس الوجود» ذلك الأثر المحتضر، الذي جمع العبر، ومحاه الدهر أو كاد، وكان إحدى آياته الكبرى هياكل «لفرعون» وبطليموس، توارثها عن الكهنة القُسُوس، وصارت للمسيح وكانت ل «هوروس» ثم ظهر الأذان فيها على الناقوس، ثم لا تكون عشية او ضحاها حتى يهوي في الماء كل حجر كان يُقبّل «كالأسود» وكل ركن كان يستلم كالحطيم. شهدت على أنس الوجود ما يعلم الانسان، ولو انه روزفلت علما وحكمة وادبا، كيف يحتقر الدنيا ويحترم الدين جميعا». الشطر الاول: أيها المنتحب «بأسوان» دارا كالثريا تريد أن تنقضا اخلع النعل واخفض الطرف واخشع لا تحاول من آية الدهر غضا قف بتلك «القصور» في اليم غرقى ممسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضاً سابحات به وأبدين بضا مشرفات على الزوال وكانت مشرفاتٍ على الكواكب نهضا شابَ من حولها الزمان وشابت وشباب الفنون مازال غضا رُبَّ «نقشٍ» كأنما نفض الصا نعُ منه اليدين بالأمس نفضا و «دهان» كلامع الزيت مرت أعصر بالسراج والزيت وُضا وقد ناجى شاعر السودان الجزل محمد سعيد العباسي في داليته من بحر الخفيف «سنار بين القديم والحديث»، جبسن مهندس الخزان البريطاني، مثلما ناجي أمير الشعراء أحمد شوقي بك المستر روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدةالامريكية، ولا غرو إن كان العباسي باعثا لنهضة الشعر العربي في جنوبالوادي: قف تأمل هذي العجائب وانظر شامخا يُحْسِرُ العيون استجدا واجل ناظريك فيما اصطفى العل م لأخباره، وما قد أمدَّا غاص بناؤهم فأخرج بالف ن وآياته من النيل طودا بفؤاد لم يدرع هيبة الرو ع كأن سُل او من الصخر قُدا وانسياب المياه بيضاً عراباً صيرتها عجاجة الحرب رُبدا وفي صحيفة «الصراحة» بتاريخ 22 مايو 1955م، انبرى الناقد الراحل محمد محمد علي ينافح عن شاعرية العباسي التي ظلمها الدكتور النويهي في أحكامه المتعسفة: «إن منظومة «أَنس الوجود» ليست شعراً حتى يتأثر بها العباسي أو يقلدها، ولكنها نظم متكلف وهراء مستسخف، ليست بها عاطفة تبعث فيها الحرارة والقوة، وليس فيها خيال يجعل صورها مشرقة شعرية الأجواء.. بل إن حسن النظم، وقوة السبك، واختيار الكلمات، وسلاسة القافية وهو ميزة شوقي الوحيدة.. قد خلت منه هذه المنظومة المنكرة. وأنا لا أشك ادنى شك في ان قوافيها قد صفت قبل ان يشرع الناظم في عمله الشاق وجهده المضني، فهي مُكرهة على الاقامة في اماكنها اكراها، فأبته وبرهنت على إبائها إياه بشناعتها وقلقها وإزورارها. والقصيدة كلها بعد الجهد الذي انفق في نظمها، لا تحوي من الشعر بعد استثناء البيت الاول والبيت الثاني، وهما بيتان متوسطان غير بيت واحد هو: قف بتلك القصور في اليم غرقى ٭٭ ممسكاً بعضها من الذعر بعضا وإن كان ذوق الناظم، وخلو نفسه من الشعور أبى عليه الا ان يفسده بقوله: كعذارى اخفين في الماء بضا ٭٭ سابحات به وأبدين بضا فقد لاحظ من قبل الأستاذ سيد قطب اختلاف الشعور في البيتين، واستدل به على زيف التجربة وكذب الاحساس، ولاحظ ذلك الدكتور عبد الله الطيب في كتابه المرشد فقال: «وقد ركب شوقي رحمه الله الضاد في قصيدته: ايها المنتحي بأسوان دارا، فصعد وأسف، وإن قوله «ثم روى البيتين» يذكرني بنقد الاوائل لبيت جميل: ألا أيها النُّوام ويحكم هبوا ٭٭ أسائلكم هل يقتُل الرجل الحب؟! فقد قالوا إن صدره يمثل اعرابيا في شملة، والعجز يمثل مخنثا من مخنثي العقيق. فبيت شوقي الاول جد كله وجلال، اما الثاني فإسفاف أيما إسفاف».. وأنا اوافق الناقدين، وازيد ان شعر شوقي امير الشعراء في نظر الدكتور النويهي لا يروقني، واستطيع ان اجد مثل هذه المغامر في كل قصيدة من قصائده. واذا اردت ان تُجارى الدكتور النويهي في طريقته طريقة السرقات، فقل إن البيت المخنث من شعر شوقي مأخوذ من بيت البحتري: كالعذارى غدون في الحُلل الب ٭٭ يض إذا رُحن في الخطوط السود فالتشبيه بالعذارى والطباق ماثل في كلا البيتين..» في تنظيره للوحدة العضوية في القصيدة: وحدة الشعور ووحدة الجو النفسي، بنى المفكر عباس محمود العقاد «1889 1964م»، في «جماعة الديوان» أصول نظرية الصدق النفسي والفني على التزام وحدة الموضوع ووحدة جوه النفسي، مفيدا من منجزات الادب الاوروبي في مجالي الشعر والنقد الادبي، وفي «النقد الأدبي أصوله ومناهجه» تأثر الناقد سيد قطب «1906 1966م» مع ما في مذهبه النقدي من استقلالية واضحة بأستاذه العقاد بالدعوة الى ضرورة التزام الشاعر بالصدق، وهو هنا لا يعني الصدق الواقعي فذلك مبحث يهم الاخلاق، انما يعني صدق الشعور بالحياة وصدق التأثر بالمشاعر اي الصدق الفني. والملحوظة النقدية اللماحة التي ساقها بروفيسور عبد الله الطيب «1921 2003م» في معرض حديثه عن قافية الضاد في الجزء الأول من «المرشد إلى فهم شعار العرب وصناعتها»، تسعفنا بأن الإسفاف ملازم العمل الفني الذي يمليه تكلف الصنعة، وصناعة الزخرفة اللفظية، واختلاف الشعور، وزيف التجربة، وكذب الإحساس. وفي حديثه عن القيم الشعورية في مباحث كتابه «النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه» مثل الناقد سيد قطب لانعدام الصدق الفني بضادية شوقي من الخفيف في قصر أنس الوجود: «... ولن يكون للشاعر طابع خاص، ولن يستطيع أن يصلنا بالكون الكبير، الا اذا كان صادقا... ولكن اي صدق: لسنا نعني الصدق الواقعي فذلك مبحث يهم الاخلاق إنما نعني صدق الشعور بالحياة وصدق التأثر بالمشاعر اي الصدق الفني. ونحن لا نملك حق الاطلاع على ضمير الاديب، ولكننا لا نعدم وسيلة لإدراك الصدق الفني في عمله من خلال تعبيره.. ونضرب على ذلك مثالاً قول شوقي في قصر أنس الوجود: قف بتلك القصور في اليم غرقى ٭٭ مسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضاً ٭٭ سابحات به وأبدين بَضّا كل بيت بمفرده يعرض صورة جميلة الرسم والايقاع، ولكنهما مُجتمعين يكشفان عن اضطراب في الشُعور او تزوير في هذا الشعور، ذلك اننا حين نستعرض البيت الاول: قف بتلك القصور في اليم غرقى ٭٭ ممسكاً بعضها من الذعر بعضا نجد انفسنا امام مشهد غرق، والغرقى مذعورون، يمسك بعضهم من الذعر بعضا، فالشاعر إذن يرسم لنا مشهدا مثيرا لإنفعال الحزن والاسى، مشهدا يُظلله الفناء المتوقع بين لحظة واخرى. ونشعر أن هذا هو الانفعال الذي خالج نفسه وهو يعاني هذه التجربة الشعورية. ولكنه ينتقل بنا فجأة ونحن أمام المشهد نفسه لم نزايله فيقول: كعذارى أخفين في الماء بضاًً سابحات به وأبدين بضا فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح يوحيه مشهد العذارى، ينزلن الماء سابحات، يخفين في الماء بضا ويبدين بضا؟! هنا ظِلٌ لا يتسق مع الظل الأول، يصور انفعالا شعوريا يغاير الانفعال الأول، فأي الانفعالين إذن هو الذي خالج نفس الشاعر؟؟ أقرب تفسير إنه لا هذا الانفعال ولا ذاك... إنما هي صورة لفظية لا رصيد لها من الشعور، فالتجربة الشعورية هنا مزورة، كما تبدو من خلال هذا التعبير. أراني هنا اختلف مع ثلاثة النقاد الكبار: العقاد وسيد قطب ومحمد محمد علي في تمثيلهم لزيف التجربة بقصيدة شوقي في قصر أنس الوجود، واعتبارهم القصيدة مثالاً عصرياً لاختلاف الشعور، وزيف التجربة، وكذب الإحساس، إذ أن القصيدة العربية لها خصائصها وظلالها وروحها الخاصة، وينبغي على النقد العربي أن يراعي تلك السمات الفنية الخاصة بالنص العربي، لا أن يطبق معايير النقد الأوروبي على تلك القصيدة العربية، مع ايماني التام بالانفتاح الإنساني على كل الآداب العالمية، ايمانا بثمرة التلاقح الحضاري على مسيرة البشرية الراشدة في طريقها القاصد. ولقد استطيع أن أتفهم بيتي شوقي اللذين استوقفا النقاد الثلاثة: قف بتلك القصور في اليم غرقى ٭٭ ممسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضا ٭٭ سابحات به وأبدين بضا إذ أن مشاهد الحزن والفرح لطالما احتشدت فجأة في ظلال قوافي الشعر العربي قديمه وحديثه، من لدن عنترة: ولقد ذكرْتُكِ والرماحُ نواهلٌ ٭٭ مِني وبِيضُ الهِنْدِ تَقْطرُ من دَمِي فوددت تَقْبيلَ السُّيُوفِ لَوَ أنّها ٭٭ بَرقَتْ كبارقِ ثَغْرِكِ المُتَبسِّمِ ويستهويك حرف أبي تمام «190 231ه» في فتح عمُّوريّة، وقد مثل بين يدي الخليفة المعتصم في بهو قصر الخلافة في سامراء: يا رب حوباء لمّا اجتث دابرهم ٭٭ طابت، ولو ضُمّخت بالمسك لم تَطبِ وعلى أبهاء إيوان كسرى تتكئ سينية البحتري «206 284ه»: والصور المتناقضة في مشاهد الحزن والفرح: وكأن الوفود ضاحين حسرى ٭٭ من وقوف خلف الزحام وخنس وكأن القيان وسط المقاصير يرجعن ٭٭ بين حوّ ولعس عُمِرتْ للسرور دهرا فصارت ٭٭ للتعزي رباعُهُم والتأسي ويمدح أبو الطيب المتنبي «303 354ه» سيف الدولة وقد ظهر على العلج الرومي القائد برداس فوكلس في حصن الحدث بالأناضول، فإذا بالشعر الهادر المصور ترتج له جنبات الأناضول والصورة المتناقضة في مشهد الحزن والفرح: تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ٭٭ ووجهك وضاح وثغرك باسم على أنني مع ذلك كله معجب غاية الإعجاب.. بتنظير النقاد الثلاثة: العقاد وسيد قطب ومحمد محمد علي، لمبدأ الصدق النفسي والفني والقيم الشعورية في القصيدة العربية الحديثة، وهو موقف نقدي في أسئلة النقد الكبرى يحاوره، ويتقاطع، ويوازي الموقف من الماضي، والحاضر، والمستقبل: أين مَلْكٌ حِيالَها وفَريدٌ من نِظام النعيم أصبحَ فَضا أين «فرعون» في المواكب تترى يركض المالكين كالخيل ركضا ساق للفتح في الممالك عَرْضاً وَجَلا للفِخار في السِّلْم عرضا أين «إيزيسُ» تحتها النيلُ يَجْري حَكمتْ فيه شاطِئَيْنِ وَعَرْضا أسدل الطرف كامِنٌ ومَليكٌ في ثراها وأرسل الرأس خفضا يُعرَضُ المالكون اسرى عليها في قيود الهَوان عانِينَ جَرْضَى ما لَهَا أصبحت بغير مُجِيرٍ تشتكي من نوائب الدهر عضا هي في الأسر بين صخرٍ وبحرٍ ملكةٍ في السجون فوق حَضَوْضَى