سيف الدين حسن بابكر وقفنا معه في الثلاثاء الماضي شاعراً مجيد ومعماراً يحذق الفضاء بتشكيلاته ومساحاته، ورساما تشكيليا يحمل رؤية تلون الاشياء بأبعاد جمالية.. وهو روائي كبير يرسم الرواية بنسق كاتب عظيم وروايته الزمن الفضائي المعوج نجد فيها الزخم المعرفي الذي تشربه الكاتب في حياته، وان اطلاعه على العلوم الانسانية بكل جمالها جعل الرواية تنضح بالأفكار وان الشخوص تمور بالحياة ان كان بالفلاش باك لأسعد وهو بطل الرواية ونجده يجيب في المحكمة على سؤال المحقق عن قتل صديقيه في السكن في باريس، ونجد ان المنلوج الداخلي للأسعد هو قمة الدراما وذروة الصراع النفسي وبالرجوع للمدينة تتضح معالم شخوص آخرين ترسبوا في ذاكرة الأسعد بهزاتهم وانكساراتهم وبجبورتهم أحياناً بأزيائهم وبلون الطين والتراب، وان الصراع النفسي الذي عاشه الأسعد في غربته في باريس هو صراع البحث عن الذات وسط متناقضات كثيرة ويقول الراوي العالم يحتضر في بلاد الفرنجة. طيور السمان ارتحلت تبحث عن شمسها وأنا هنالك أبحث عن شمسي.. انها استهلالية من كاتب خبر كتابة الرواية بطريقة تجعلك تبدأ قراءة الرواية فأنت لا تتركها اطلاقاً حتى تحاول الانتهاء من القراءة، واعتقد جازماً ان الكاتب الذي يجعلك تتابع حتى النهاية هو كاتب ماهر ومجيد وحاذق لأدوات الرواية.. وان الايقاع الذي تتراءى فيه الأمكنة والشخوص ايقاع يتصاعد وان المشاعر والاختلاجات التي تحدث للشخوص ومواقفهم الفكرية والنفسية حسب منطلقاتهم المعرفية بالحياة لا تجئ إلا من روائي مثل سيف الدين حسن بابكر، وفي كثير من الأحيان أجده محللا نفسانيا تمكن من معالجة الكثير من الحالات النفسية بصورة روائية تدل دلالات واضحة على التحليل النفسي للشخصية، كما ان خطوط الرواية تتداخل في علاقاتها الاجتماعية بأبعاد جمالية وطريقة السرد تنداح دراماتيكس يحمل في طياته ان كاتب هذه الرواية كاتب كبير، وان ترجمت هذه الرواية فإنه سيصير كاتبا عالميا قريباً.. واعتقد جازماً ان ارتكازه على محلية المكان هو طريق للانطلاق نحو العالمية برؤية فنان تشكيلي روائي يحمل ثقافة موسوعية مكنته من المنلوج والحوار والسرد في قالب قصصي يحمل ملامح الصور السينمائية، وفي محتواه ودلالاته يحمل ملامح الشخصية السودانية، وان بعض الاذكياء تلاحقهم لعنة بنات الشيخ وتتبعهم حتى الممات.. واللغة والمفردات والجمل من الواقع السوداني لكن بصورة فنية تستدل بها على تفاصيل مهمة في الرواية، وهي محاور تأسيسية لماعون كبير يحمل تفاصيل الحياة السودانية:- أنا ما قطاعة نصيب.. لكن مالك بتعرس العزبا الفضلة.. وأنا البت سامعه لي فيها كلام.. لو عرستها تقطع ظهر أهلك إلى يوم الدين وامرأة مثل ذاكرة القول السابق موجودة في مجتمعاتنا وكأن سيف الدين حسن بابكر يملك ذاكرة متقدة استبطنت كل الشخوص وأقوالها وأخرجها كمنتج ابداعي روائي تنتقل فيه الخطوط الروائية بين السودان وفرنسا.. وان رفضت العمة زواج العزبا الفضلة فإننا نجد في فرنسا من خلعت نظارتها السوداء بيدها اليمنى ومازالت سيجارتها مشتعلة بيدها اليسرى وتتحدث بعربية ركيكة. أتحدث العربية أعرف شيئاً منها تحدثي إذا قتل يقتل قتلنا وهي القادمة من اسبانيا وهنا أسجل جملة في ان البعض يحاول أن يجمل العالم، وآخرون يحاولون أن يدمروا العالم والروائي سيف ا، وانه كفنان متعلق دائماً يقيم الحق والجمال والجمال لا يأتي فجأة وتحديداً في الكتابة انما يتمثل في ملكات ومقدرات ومواهب يصقلها الكاتب بالمعرفة ان كان المنتج رواية فإن الخيال هو الذي يبدع والخيال يطوره صاحبه، وان الاشكال في الرواية عند سيف الدين تتعدد بتعدد مواهبه وعنده الأسعد يواجه أسئلة شاهد في محكمة في بلاد الفرنجة ويقول:- قلت ذلك وأجبت على أسئلة قصيرة مثل اسمي وعمري وبلدي وعنواني وعملي.. ونجد في الرواية ان الكاتب يهتم بايكلوجيا الثقافة السودانية ويتضح ذلك عند ولادة خلف الله عندما تحكي أمه:- القابلة كانت تمشط شعراً لجارتنا نادت عليها أمي من فوق الحائط جاءت على عجل وتجمعت بعض النساء حولي.. لم أشعر بألم ولم ينتابني أي عسر عندما حانت ساعة الافطار ذلك اليوم كان خلف الله يرضع من ثدي مثل العجل.. علقنا أية الكرسي على رقبته.. وهذا اهتمام كبير من كاتب الرواية في ان تكون جمل الرواية متقاربة في الطول والقصر حتى يحافظ على هيكل الرواية والايقاع، وان الاهتمام بالتفاصيل هو لغة السينما وهو ما أكسب الرواية عمقا ونلحظ:- الحقول كانت ساكنة ساعتها ولا تسمع صوت ساقية عدا أصوات أم قيردون وهي في أعالي الشجر، وهي تشتجر حول بلحة نضج رأسها أو كاد وان أم قيردون التي كتبها سيف الدين هي عصفورة وأظن ان بعض سكان البندرلا يعرفونها، وكنا نغني لها ونحن صغار: أم قيردون يا الحاجه واستخدام المفردة متميز عند الروائي ككلمة أم قيردون، ووصف البلحة بأن جزءا نضج وجزءا بالكاد أي جمال في الوصف هذا انه الابداع في كتابة الرواية. وبما أن منطقة الشمالية منطقة تصوف فقد وظف الكاتب كل موروثات الصوفية عندما صارع خلف الله الجاسر وجئ بالمبخر وبخر خلف الله وقرأ عليه احدى المعوذتين، والجاسر صارعه خلف الله والجاسر ثور وهو خط من خطوط الرواية وقد اشتراه ود حاج أحمد وهو عجل من مراكب المحس، وقال عنه المراكبية بأن والده كان جاموساً من المحس وكان ود حاج أحمد يعلفه بيده تمراً وقمحاً وبرسيماً، وان الجاسر كان يفهم الحديث وعندما أحكم خلف الله وثاق الجاسر استل ود حاج أحمد سكينه من ذراعه ووجه حديثه للجاسر وصوته مختلط ببحة حزينة.الجاسر أعفي مننا وأنزل ود حاج أحمد سكينه على عنق الجاسر وتطاير الدم مندفعاً في الهواء مثل النافورة. الجاسر لم يكن ثوراً مثل الثيران الأخرى كان ولداً مثل أولاد حاج أحمد.. ويقال ان كل الأبقار في القرى من سلالته.. وقد كان الجاسر في الرواية رمزا للفحولة والقوة وكان يخدم في الساقية ليل نهار واستشف ان هنالك اشارات رمزية يدل عليها الجاسر في الرواية، كما ان تسميته بالجاسر لها دلالات ومعان، كما ان البئر والسقا ناصر وهو الغريب عن المكان لكن هنالك اشارات من الكاتب بقبول الآخر وقد هاجر ناصر من اليمن إلى الحبشة إلى السودان وأسعد كان طفلاً عندما كان يراقبه وأسعد في باريس تحضر في مخيلته المقارنة بين غربته وغربة ناصر، وبين حضوره في المحكمة وحضور ناصر متهماً بقتل حجازي وهذا هو قدرهم كما يصور المؤلف سيف الدين حسن بابكر في ثلاثية الانسان والمكان والزمان، وسيف يجيد الحكي «انظروا إلى هذه الشلوخ التي على وجهي وكل خالاتكم بل كل نساء هذه المدينة لقد قامت بذلك امرأة اسمهارنة، ورنة الزمن الفضائي المعوج هي رنة فنان تعامل مع الزمن العديل ومع الخط المستقيم ومع تداخل الألوان وانه ينتج فناً في صمت حزنت لأنني لم أعرفه منذ أزمان بعيدة وهو يشكل بالنسبة لي بعد أن أطلعت على روايتيه الزمن الفضائي المعوج ورواية ملكة الشمس والجان انه هرم من اهرامات الرواية في بلادي ،وان الرواية تحمل كل تفاصيل ثقافتنا وغنانا ومديحنا وشكل عمارتنا ومزارعنا وانساننا. انه الزمن الخرافي الذي يشكله يراع كاتب روائي يجعلنا نتعمق في ظلال الحروف. متعه الله بالصحة والعافية حتى يمتعنا بمزيد والرؤى والحكي، ولا أريد أن أكون كما قلت من قبل مع أمير صالح جبريل أنا لست برجاء النقاش ولا جابر عصفور، لكني قارئ أفتش بين الحروف عن مبدعينا وبصماتهم.