استوقفنى فى نهاية العام السابق 2011 ، مقال السفير البريطانى بالخرطوم الصديق نيوكلاس كاى تحت عنوان « الشعب هو الأهم « والذى جاء فى مدونته بالموقع الالكترونى للسفارة البريطانية بالسودان والذى ظلت صحيفة الصحافة الغراء تداوم على نشره بانتظام مترجما الى العربية. اعددت على الفور تحليلا للمقال لاهمية الرؤية التى طرحها السفير والتى تلامس ابعادا استراتيجية تعنى بآفاق التعاون السودانى البريطانى واخرى اقليمية فى غاية الاهمية للسودان وجواره الافريقى خاصة القرن الافريقى ، وقتها لم يسعفنى الوقت لنشرها رغم اعدادها كمسودة ولفائدة الحوار فى هذه المرحلة رأيت المشاركة بهذا التحليل المقتطب . فى مطلع المقال وكعادته اورد السيد/السفير تنوعا جاذبا وعميقا للحياة فى السودان الاقتصادية والاجتماعية والقلق الذى ظل ينتاب العديد من السودانيين و التغيير الكبير الذى يحدث من حولنا والذى طال حتى اوربا اذ تغيرت حكومتان فى منظومة التكتل الاوربى بسبب الأزمة الاقتصادية وتسنم التكنقراط سدة السلطة بدلا من السياسيين المحترفين «ايطاليا واليونان» وهذا فيه اشارات واضحة ان المرحلة هى للمؤسسات التى تعمل بتناغم وديمقراطية ومهنية مشبعة بالخبرة والدراية وان كل أزماتنا مردها غياب المؤسسات المحترفة التى تعمل على صون السيادة الوطنية والعمل على الاستقرار الذى يدفع بقوة نحو رفاهية وأمن المواطن.... اكثر من ذلك اشارته لموقف السودان حول قرار الجامعة العربية من الاوضاع فى سوريا بل جهوده فى اقناع دولتين افريقيتين للوقوف مع هذا الاجماع ، والعبرة هنا ليس الموقف فقط بل تأكيده على اعلان المملكة المتحدة لقيام مؤتمر دولى حول الصومال بلندن فى هذا الشهر «فبراير» لان الصومال اصبح محط اهتمام دولى كبير وربط بهذا الموقف والاعلان زيارة الرئيس الصومالي للسودان فى نوفمبر 2011 اكثر من ذلك التأكيد على ان السودان وبريطانيا من اكثر الداعمين وبقوة للحكومة الفيدرالية الانتقالية بالصومال، و تناغم المواقف مع ليبيا والموقف الحالى من سوريا هذا فى حد ذاته يشكل توافقا اقليميا فى غاية الاهمية والاستراتيجية ، ولكن هل ترى وقفت عليه سياستنا الخارجية وقبلها القيادة السياسية وادراك ابعاده وكيفية التعامل معه؟ لان هذا التوجه والذى عادة ماترمى به الدبلوماسية البريطانية والاوربية عموما بشكل غير رسمى الا انه يعبر عن سياستها الخارجية والامنية والدفاعية خاصة بعد التعديلات التى ادخلت على اتفاقية لشبونة المؤسسة للتكتل الاوربى واعادة ادواره، فقط ينتظر من يلتقط زمام المبادرة ويشرع فى الحوار . هذه المواقف وقبلها امر الديون الخارجية والعديد من المبادرات الايجابية كان يمكن ان تشكل مدخلا هاما على صعيد حوار السودان مع اوربا بصورة عامة وبريطانيا بوجه اخص فى تناول كثير من القضايا اولها علاقات التعاون والاتفاقيات التى تؤسس للعلاقات الثنائية وابرزها اتفاقية شراكة كوتونو التى تعتبر المفتاح لافاق العلاقات الاوربية السودانية. الامر الثانى هو الحوار حول الشأن الافريقى والذى يبدأ بحل المشاكل مع دولة الجنوب والتوترات فى جنوب كردفان والنيل الأزرق وملف أبيي انطلاقا نحو اقليم القرن الافريقى ذي الابعاد الجيواستراتيجية والاقتصادية واعطاء المزيد من الاهتمام والعمل لاستقرار الاقليم وبالتحديد الوضع فى الصومال. ان مؤسسات الدولة السودانية يجب ان تعمل فى هذه المرحلة بتنسيق وتناغم فى الشأن الداخلى والخارجى وبتوزيع المهام بتركيز وتنظيم مهنى وبقائد اوركسترا محترف يدرك كيف ينسق ويعمل بروح الفريق ليدفع باستخلاصات تجد من يعبر عنها ويوليها الاهتمام الاكبر ووقتها سوف تشهد سياستنا الخارجية وهمومنا الداخلية ضوءاً فى نهاية النفق المظلم يمكن ان يمهد الطريق لمعالجة الأزمات وبالتالى رفاهية الانسان واستقراره. للاسف انكفينا على الاشكاليات المحلية ولم ننجز شيئا فيها ولم تقلل تدخلاتنا على المستويات الخارجية وحوارنا الداخلى حدة الأزمات الخارجية والداخلية بفعل الادارة المركزية المفرطة التى اعاقت عملية تحرك «التروس» بانتظام لتشغيل ماكينة الدولة على اسس مؤسسية ومهنية. رجوعا للقرن الافريقى فان المتتبع للاستراتيجيات والسياسات الاقليمية للاتحاد الاوربى التى ظل يدعمها بقوة خاصة من قبل الثالوث الاوربى الاقوى والاكثر تأثيرا ونفوذا «بريطانيا ، فرنسا والمانيا» يلاحظ ان القارة الافريقية قد حظيت باهتمام كبير من قبل اوربا خلال الحقب الماضية وبقوة خلال العشرة اعوام الماضية فى دعم عمليات حفظ السلام واستراتيجية افريقيا والاتحاد الاوربى التى تعمل على تشكيل الاتحاد الافريقى، و حتى الاستراتيجية الاوربية للقرن الافريقى التى تركز على الابعاد التنموية فى برامج الربط الكهربائى الاقليمى ،والطرق والمياه ، الا انه للاسف انخفضت درجة حرارة الحوار لانشغال القادة الافارقة بالهموم الداخلية والتوترات والصراعات وغياب الارادة والديمقراطية وتفشى الفساد. كان منتظرا ان يلعب السودان دورا كبيرا فى استراتيجية الاتحاد الاوربى للقرن الافريقى لكن للاسف لم يعر السودان اية نظرة استراتيجية عميقة نتيجة للاسباب التى اشرنا اليها سابقا غياب الآلية التى ترصد وتقيم مواطن القوة واستثمارها وفوق ذلك تداعيات انفصال الجنوب. القضية الاخرى والاكبر والتى جاءت فى ثنايا ذلك المقال هى مايتعلق بالشأن الديمغرافى «السكان» وزيادة النمو فيه عالميا وكيف ان السودان ظل لا يؤثر سلبا بالنسبة لقضية النمو السكانى المتوقع فى بلدان افريقيا جنوب الصحراء ، والامر الاكثر خطورة هو ان 50% من سكان السودان حاليا دون سن التاسعة عشر ، هذه النسبة فيها 3.5 مليون بين سن 6 الى 16 خارج اسوار المدارس اى ان هنالك 20% من تلك الفئة العمرية«6-16» خارج المدارس «اليونسيف» اذ ا كان جملة سكان السودان بعد انفصال الجنوب هو 35 مليون نسمة . بلا شك ان هذه نسبة مزعجة اذ فيها 62% من البنات بدون تعليم ونسبة 84% فى المناطق الريفية. هذا العدد بلا شك غالبيته فى مناطق الصراع والمناطق الريفية البعيدة وحتما اذا لم توجد معالجات سياسية آنية فان هذه الاعداد سوف تتحول الى تغذية الشعور بالتهميش وحدة الصراعات والحروب فى تلك الجيوب ذات الضعف التنموى. بالتأكيد فان الواقع الذى سوف يتشكل فى 2015 سوف يكون غالبيته من الشباب وقبل ان تخرج علينا سياسات وبرامج الدول الخارجية بمرئياتها فى كيفية مخاطبة الواقع الانى لهذا الامر يجب ان تتنبه الدولة لهذا الخطر وتولى قضية البطالة اهتماما اكبر والتنمية الريفية حظا اوفر وزيادة الصرف على التعليم والتركيز على احداث توازن تنموى بخطى متسارعة حتى يمكن احداث توازن ديمغرافى تنموى يتعايش فيه الجميع بسلام وامن ويؤسس فيه نظام حكم فى المستقبل معافى من كل الامراض التى نعيشها الان . *خبير استراتيجيات التنمية