من أخطر ما واجهته مهنة الصحافة عبر التاريخ إتجاه الحكومات فى أوروبا القرن السابع عشر إلى تطبيق قوانين خاصة بها أو إجراءات خاصة بعيداً عن التطبيق العادى للقانون العام الذى يطبق على جميع المواطنين ، وقد ايقنت كل المجتمعات الحرة أن تطبيق قوانين أو إجراءات خاصة بالصحافة يضر بها وبقضية حريتها ، فالذين يمارسون عملية النشر والطباعة هم أفراد عاديون ، ولا يجب معاملتهم بطريقة خاصة وكأنهم ملائكة نزلوا من السماء. لا أدرى كيف فات على الصحفيين وإتحاد الصحفيين السودانيين ، أن القرار الذى أصدره وزير العدل السابق عبد الباسط سبدرات كان يعنى إمتدادا أثره إلى الولايات الأخرى ، وأن من حق كل ولايات السودان أسوة بولاية الخرطوم أن تطلب بفتح نيابات خاصة بالصحافة بها ، فالحق فى نهاية المطاف هو حق المواطن وليس حق أفراد إمتهنوا مهنة معينة تمنحهم ميزات قانونية معينة فى مكان محدد ثابت داخل الدولة ، لأن العدالة تبسط فى كل أرجاء الدولة دون إستثناء لولاية أو مدينة ، حتى لو كانت العاصمة . إن المبدأ السائد هو أن المواطنين سواسية أمام القانون ، وأن من حق أى مواطن أن يرفع الدعوة القانونية فى المكان الذى يقيم فيه وليس فى الخرطوم فقط ، فشركة المياه الغازية التى توزع عبواتها فى ود مدنى ، إذا إكتشف أحد المواطنين أنها تمارس الغش أو الخداع عليه ، لا يتوجب عليه أن يحضر إلى الخرطوم مقر رئاستها لمقاضاتها ، يمكنه أن يقاضيها فى المكان الذى توزع فيه منتجها ، وولاية الجزيرة إذا مسها ضر أو أذى من إحدى الصحف مثلاً، لا يتوجب عليها أن تحضر إلى الخرطوم لرفع دعوة على الصحيفة ، هذه معلومات سنة أولى قانون التى كان يجب الإلمام بها فى ذلك الوقت قبل الموافقة على فكرة قيام النيابات الخاصة بالصحافة . لقد ظل القانون الإنجليزى الذى كان مطبقاً فى السودان لعشرات السنوات ، يعمل لفترة طويلة بفكرة أن من حق المواطن أن يرفع دعوة ضد الصحف فى كل المناطق والمدن التى توزع فيها الصحيفة داخل الدولة ، إلا أن هذا المبدأ سقط فى وإنتهى العمل به ، وأصبحت الشكوى ترفع فى مكان واحد فقط ضد الصحف ، فى المكان الذى يختاره المواطن . فى قضية النيويورك تايمز ضد مدير شرطة ولاية الباما الأمريكيةNew York Times v. Sullivan 1964 ، التى رفعها مدير الشرطة فى نيابة الولاية على الصحيفة التى تصدر فى نيويورك ، وهى القضية الأكثر شهرة وجدلاً فى تاريخ القضاء الأمريكى لإرطباتها بكيفية تعامل القانون مع الشخصيات العامة ، ولإنها كانت ذات صلة بواقعة لها علاقة بالزعيم الأمريكى الراحل مارتن لوثر كنج، لم تدفع المحكمة بعدم إختصاص نيابة أو محكمة ولاية فلوريدا بعدم الفصل فى الدعوة لأن الصحيفة تصدر فى نيويورك وليس فى ولاية ألباما ، وسارت القضية إلى نهايتها على مختلف مستويات التقاضى فى ولاية ألباما قبل أن تستأنف الصحيفة إلى المحكمة العليا الفيدرالية فى واشنطن. وأيضاً فى قضية Keeton v.Hustler Magazine U.S770(1984) ، قضت المحكمة العليا الأمريكية أن من حق الشاكية Keeton أن ترفع دعوى فى ولاية نيوهامشير ضد المجلة التى تصدر فى نيويورك ، بالرغم من أن الشاكية ليست من سكان نيوهامشير ، وقد رفضت المحكمة الدفع الذى تقدمت به المجلة بحجة أن الولاية ليست جهة إختصاص فى هذه القضية ، لان الشاكية ينبغى أن ترفع دعوتها فى محكمة نيويورك أو حيث تقيم ، وقد إستندت المحكمة فى حيثيات حكمها على أن إختصاص الولاية يستمد قوته من كونها معاوناً أساسياً فى تثبيت مبدأ القانون فى مثل هذه القضايا ، حتى وإن لم يكن الشاكى من سكان الولاية ، فما بالك إذا ما كان الشاكى من سكان ولاية الجزيرة والصحيفة توزع فى ولاية الجزيرة مثلاً. لقد أقرت قاعدة ال Single Publication Rule ، والتى أكدتها أيضاً قضية Keeton v. Hustler ، أن من حق الشاكى أن يرفع الدعوة فى قضايا القذف وإشانة السمعة فى مكان واحد ، يختاره ، وان ذلك يسقط حقه فى مقاضاة الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية فى مكان آخر. وإستناداً إلى ما سبق ، وبما أن القانون السودانى يفتقد لمثل هذه السوابق القانونية المحلية ، فإن المحاكم السودانية ليس أمامها إلا العودة إلى الأخذ بالسوابق القانونية الإنجليزية ، التى كان القانون السودانى يستند إليها وما زال فى بعض الأحيان ، الأمر الذى يعنى أن الزوبعة التى أثيرت حول قضية إنتقال النيابات إلى الولايات الأخرى لها أصولها فى القانون ، وأن قرار وزير العدل سليم من ناحية جوهر القانون ، والخطأ كما ذكرنا هو قبول الصحفيين من حيث المبدأ فى عهد الوزير سبدرات فكرة النيابة الخاصة فى الخرطوم . وكما سبق أن ذكر الأستاذ الطاهر ساتى فى صحيفة السودانى، ليس من حق اى مواطن رفض المثول أمام اية نيابة فى طول البلاد وعرضها حتى لو كانت تقع فى حفرة النحاس وأضيف حتى لو كانت فى منطقة الزريبة بولاية الجزيرة أو فى جوبا زمان. أحياناً نتحدث عن حرية الصحافة ونظن أنها ليست جزءاً من حرية المواطن أو الفرد العادى ، ونطالب بمعاملة خاصة للصحفيين فى حين أن الأفضل أن يُحاكم الصحفيون فى قضايا النشر عموماً بقانون واحد هو القانون العام الذى يخضع له كل المواطنين فى الدولة ، لان الناس سواسية أمام القانون ، ولأن إستثناء الصحفى من مشقة السفر بين الولايات للتحقيق معه أو الإدلاء بشهادته فى محكمة فى القطينة أو القضارف أو نيالا ، سيجعل منه مواطناً (سيوبر )، وهذا ضد أبسط قواعد العدالة وحقوق المواطن العادى . يبدو أن العديد من الصحفيين ما زالوا فى حاجة إلى دورة ثقافية عامة فى التشريعات الإعلامية ، وقد سبق للمجلس القومى للصحافة وأيضاً إتحاد الصحفيين أن عقد العديد من مثل هذه الدورات ولكن بعض القيادات الصحفية العليا لا تشارك ربما لإنشغالهم وضيق وقتهم ، ولو كانوا يشاركون لما حدثت هذه المواجهة بينهم ووزارة العدل ، ، ولما قبلوا قرار تشكيل نيابة خاصة فى الخرطوم من أصله ، وقد لاحظت أن القيادات الصحفية التى لها خلفية قانونية قد نأت بنفسها من هذه المواجهة ، ولا أدرى على أى مبدأ فى القانون إستند وزير العدل السابق فى تخصيص نيابة للصحفيين ؟ ولا شك أن الوزير السابق له سلطات تمنحه إصدار قرار إنشاء النيابات فى الولايات ، ولكن يبدو أن تخصيص النيابة لمهنة خاصة أثار الآن جدلاً واسعاً عن جدوى القرار وحق الولايات الأخرى ، وربما يبرز سؤال ، هل يمكن عمل نيابات خاصة للأطباء مثلاً فى حالة تكاثر الأخطاء الطبية ؟ إن القضية واضحة ، ولا يوجد كبير فوق القانون حتى لو كان صحفياً يعمل فى الواشنطن بوست التى تصدر فى العاصمة الأمريكيةواشنطن عليه أن يذهب إلى المحكمة فى صحراء ولايتى نيفادا أو أريزونا ليمثل أمام النيابة، أعتقد أن المطالب التى رفعت لوزير العدل حول إلغاء فكرة النيابات الإقليمية لم تكن موفقة شكلاً أو مضموناً أو قانوناً ، وكانت متسرعة لم تجرِ حولها إستشارة أو يسترشد فيها برأى قانونى قبل تقديمها بصورة متعجلة لمجرد أن أحد رؤساء التحرير قد تمت ملاحقته من قبل إحدى الولايات ، والأفضل أن يطلب رؤساء التحرير وإتحاد الصحفيين إلغاء فكرة نيابة الصحافة ومعاملة الصحافة بموجب الإجراءات العادية . ٭عميد كلية الإعلام جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا