1 كان ميرزا، رجلا آسيويا غزير الأعوام. كان يتردد على العيادة يوميا، يرتدي ثوبا أزرق داكنا، وغترة من قماش أحمر، اخترعها بنفسه، وصندلا من جلد قديم ممزق، ويحمل في يديه مسجلا معطوبا، وحقيبة بنية، يحرص عليها بشدة ولا يفلتها من يديه أبدا. كانت شكواه واحدة، لا تتغير: «قدمي مكسورة ولا أستطيع المشي». ?في البداية كنا نأخذ الأمر بجدية، نصور ساقه بأشعة إكس، ونردمه بالتحاليل، ولا نعثر على شيء، ثم اعتدنا على تلك الشكوى، واكتشفت لدهشتي الشديدة بعد ذلك، أن الرجل يمشي عشرات الكيلومترات في اليوم، بساقه تلك، يمشي في الأسواق والطرق الجانبية وال(هاي ويز)، ولم يركب عربة في حياته، وإن توقف له أحد لا يعرفه في الطريق، بنية مساعدته، كان يغضب بشدة، وربما اشتبك مع الرجل في معركة. كان فضولي الآن قد تركز على تلك الحقيبة الغالية، الحقيبة التي يعض عليها الآسيوي ولا يفلتها من يديه، ظللت عشرة أعوام أتتبع تلك الحقيبة، أتمنى أن أرى ما بداخلها، وحاولت في أحد الأيام أن أشدها من يده وأفتحها، لكنه تشنج بشدة، وأخفقت. منذ عدة أيام جاء ميرزا. كان قد يبس، ولابد فقد تجاوز التسعين، وقد سقط قفل الحقيبة المسن أيضا، واستطعت أن أرى محتوياتها أخيرا: «كانت الحقيبة فارغة». -2- كان موسى يعمل معلما، وكان وسيما، وشاعرا رقيقا تخصص في أغنيات الحب والجمال، واشتركنا معا عدة مرات في كتابة القصائد. في أحد الأيام، ولم أكن قد التقيته منذ فترة، جاء إلى المستشفى يبحث عني. كان منظره مؤلما، يرتدي قميصا أبيض متسخا، وسروالا ممزقا من القطيفة السوداء، يلف حول ياقة قميصه حبلا سميكا، بوصفه ربطة عنق، وعلى قدميه صندلا بيتيا منهكا، ويحمل قطعة مربعة من الكرتون مكتوبا عليها بحبر أحمر: تشهد كلية التفاهة، في جامعة الحياة التعسة، أن الأستاذ موسى، قد تخرج فيها بمرتبة الشرف، وأصبح أكبر تافه في العالم. وضع قطعة الكرتون أمامي، وصرخ في وجهي، وهو يرتجف: وقع يا سيادة العميد حتى أضعها في برواز وأعلقها على الحائط. وقعت له وأنا مصدوم، وظللت مصدوما، حتى بعد أن مات بعد ثلاثة أشهر. -3- منذ أكثر من سبع سنوات، سلمني آدم مخطوطا لرواية كتبها، وكانت روايته الأولى كما قال. كان في نحو الأربعين، نحيلا وقلقا، لا تستقر عيناه على شيء. طلب مني قراءتها وإبداء رأيي، وظل يطاردني شهرين بالهاتف، ولا أجد وقتا لقراءة الرواية. في أحد الأيام جاء إلى مكتبي، كان متهيجا، وقد نبتت له لحية بيضاء، وقال لي بالحرف الواحد، وهو يلوح بيديه، إنه سيضطر لإيذائي، إن لم أقرأ الرواية. فكرت ساعتها بالإبلاغ عنه، ثم غيرت رأيي، تفرغت يومين وأمسكت بالرواية، لأفاجأ برواية بديعة، كتبت بإخلاص مجنون، رواية كتبها عن بلاده الصومال، عن عريها وتفككها، وجوعها وفقرها، وتلك الحرب المزرية، التي لم تترك حتى حشرات الليل الطنانة، كتبت له صفحتين وأنا منتش، وجاء ليأخذهما، ويسترد مخطوطه. منذ ذلك الحين، لم أر آدم مرة أخرى، ولم أسمع أبداً بتلك الرواية الفريدة.