التحديات الأساسية التي تواجه البنك المركزي تتمثل في حل مشكلة النقد الأجنبي وإدارة السيولة وإحداث التوافق والتنسيق بين السياستين المالية والنقدية والمساهمة الفاعلة في إدارة الاقتصاد الكلي وإدارة القطاع المصرفي وتحسين العلاقات مع المؤسسات التمويلية والنقدية الخارجية. حازم المولود في العام 1966 بمدينة الحصاحيصا، وصل إلى مقعده في بنك السودان بعد أن أجرى سلفه عدة محاولات لضبط سعر الصرف آخرها عبر سياسة الحافز برفع سعر الدولار بنسبة 131% ليقفز سعره إلى 15.8 جنيه، بدلاً عن 6.5 جنيه سعر البيع الرسمي سابقاً، لكن رغم ذلك واصل الجنيه تراجعه أما الدولار الذي قفز إلى أكثر من 19 جنيهاً في السوق الموازي. ولم يختلف الأمر كثيراً في عهد حازم.. فبوتيرة متسارعة واصل الجنيه خسارته أمام العملات الأجنبية ليشارف على حدود ال40 مقابل الدولار، رغم أنه استقر أمس (الاثنين) على 38.5 جنيهاً. في المقابل سعى المركزي لاتخاذ جملة من الترتيبات لإيقاف نزف الجنيه عبر محاولة تقليص الفارق بين السعر الرسمي والموازي - 18 جنيهاً مقابل الدولار بدلا من 6.7 جنيه- بعد وصفة صندوق النقد الدولي بتحرير سعر الصرف لدعم الاستثمار الأجنبي، كما قامت الحكومة باتخاذ إجراءات أمنية في مواجهة المضاربين بالعملة (تجار العملة)، وأصدرت مذكرات اعتقال لبعض الأشخاص خارج السودان، قبل أن يعود مجدداً لرفع السعر الرسمي من 18 إلى 31 جنيهاً. كارثة أخرى يقول الصحفي المهتم بالشؤون الاقتصادية د.خالد التيجاني، إن السياسات النقدية والمالية تتكامل في إطار سياسي حاكم يحدد أولويات الصرف، فيما تكون مهمة البنك المركزي المحافظة على سعر الصرف ومحاصرة التضخم الذي يأتي من ضعف القوى الشرائية للعملة المحلية. ويشير التيجاني إلى أن التداعيات الحالية هي نتاج لكارثة اقتصادية يتحملها البنك المركزي في العام الماضي الذي تجاوز قانون الموازنة ودفع بأكبر عملية ضخ سيولة في تاريخ السودان عبر ضخ ثلاثة أرباع ما هو مقرر في الموازنة - نحو 54% - بهدف الدخول للسوق وشراء الذهب. ويرى التيجاني أن ذلك يتنافى مع دور البنك المركزي الذي يُفترض أن يكون منظماً للقواعد ورقيباً على الآخرين بدلاً عن الدخول بنفسه لمطاردة سعر الذهب وهو ما تسبب في انهيار العملة الوطنية. معالجات ومُسكِّنات وفي الوقت الذي يواصل فيه الجنيه السقوط تبدو الإجراءات الحكومية بمثابة مُسكِّنات، وقد وجدت الإجراءات الأخيرة انتقادات حتى من داخل قبة البرلمان، باعتبار أن محاربة السوق الموازي تستلزم وجود احتياطيات مقدرة من النقد الأجنبي تدعم تدخل الحكومة في السوق. وقد أثبتت التجربة العملية نهاية ديسمبر من العام 2015 أن مثل هذه الإجراءات تقود لنتائج عكسية بما في ذلك ارتفاع نسبة التضخم -كان معدل التضخم 12.6% ثم وصل إلى 24%-، والآن الحكومة أمام ذات الأزمة، ولديها مساران: الأول أن تحارب التضخم عبر تقليص الإنفاق العام أو رفع الأسعار وتحميل المواطن الزيادة السعرية، ويبدو أن المالية أرادت أن تجرب المجرب هذه المرة أيضا متوقعة أن تصل لنتيجة مختلفة. قرارات جديدة وأصدر البنك المركزي خلال 48 ساعة الماضية حزمة من الإجراءات الجديدة تمثلت في احتكار بك السودان لشراء الذهب على أمل زيادة حجم النقد الأجنبي لدى الدولة مما ينعكس أثره على سعر الصرف. وأنشئت آلية جديدة يتم بموجبها شراء كل حصائل الصادر وكل موارد البائعين للنقد الأجنبي عبر غرفة التعامل بالنقد الأجنبي داخل المصارف بهدف توظيف النقد الأجنبي وفقاً لأولويات الاستيراد بجانب تجفيف كل استخدامات الدولار من السوق الموازي، مما يحقق استقراراً في سعر الصرف. في اليوم الأول لتنفيذ السياسة وقف المضاربون عاجزين عن شراء العملات الأجنبية بسبب نقص السيولة ليتراجع الدولار ليوم أمس لنحو 36 جنيهاً بعد أن تجاوز في الأيام الماضية حاجز الأربعين. من جهته يحذر أستاذ الاقتصاد د.محمد الناير خطوة احتكار الذهب التي يرى أنها تنطوي على آثار تضخمية، داعياً لإنشاء بورصة للذهب بجانب ترشيد الإنفاق العام. انتقادات حازم الذي عمل منذ تخرجه في العام 1985 في كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم بمرتبة الشرف في أروقة البنك المَركزي وتنقل بين إدارته التي كان آخرها مديراً للإدارة العامة للنقد الأجنبي والناطق الرسمي باسم بنك السودان، يدرك جيداً حجم الانتقادات الإعلامية والسياسية لإدارته لمحاولات محاصرة ارتفاع سعر الصرف، فلا يمل من بث الرسائل التطمينية في محاولة لمحاصرة الشائعات التي تؤدي دوراً كبيراً في معركته لاستعادة الجنيه لتعافيه. أستاذ الاقتصاد د.محمد الناير يقول إن البنك المركزي لم يقم بما يلزم من سياسات ضرورية لاستقرار سعر الصرف ومحاصرة التضخم، مضيفاً أن الأمر يتطلب في المقام الأول زيادة الإنتاج والإنتاجية لزيادة الصادرات وإحلال الواردات. ويواصل الناير حديثه ويقول: "ثمة طرق أُخرى تتعلق بجذب الاستثمارات، إلا أنها تتطلب استقرار سعر الصرف وانخفاض التضخم، فيما يمكن أن توفر القروض والمنح والودائع بعض الاستقرار، إلا أنها تكون رهينة بموافقة الدول الصديقة". ويختم الناير هذه النقطة بالإشارة إلى أن اتخاذ إجراءات فعالة لبناء الثقة لجذب تحويلات المغتربين من شانها تقليص العجز، مضيفاً: "سهولة التحويل المباشر بالعملة الحرة والتمويل العقاري لن تكفي، فلا بد من وجود حوافز أكبر عبر إعفاءات جمركية وقطع زراعية وسكنية وتجارية". وليس بعيداً عما سبق، يقول الاقتصادي د.خالد التيجاني، إن كل ما يجري حالياً هو بمثابة مسكنات عبر معالجات جزئية، لافتاً إلى ضرورة القيام بمعالجات في سياق الإطار العام. ويعتبر التيجاني أن الأزمة في الأساس سياسية ذات تجليات اقتصادية تتعلق بتحديد أولويات الصرف في الموازنة العامة، ويقول: "ركزت الموازنة على تمويل القطاعات غير منتجة سيادية وسياسية وأمنية، فيما أهملت القطاعات الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والخدمات". ويضيف التيجاني أنه ودون إجراء إصلاحات حقيقية وجذرية، فإن البنك المركزي سيطارد خيطاً من الدخان، فالإجراءات الإدارية والأمنية لن تحل سعر الصرف الذي لا يعرف سوى لغة العرض والطلب، وهو ما يجعل محافظ بنك السودان في موقف لا يحسد عليه. في العادة يُعيَّن محافظ بنك السودان من قِبَلِ رئيس الجمهورية بموجب عقد لمدة (5) أعوام، وهو أمر لم يحدث في الواقع إلا لمحافظ بنك السودان صابر محمد الحسن في فترته الثانية التي امتدت لنحو 13 عاماً متواصلة، بينما صدرت إعفاءات لبقية المحافظين قبل انتهاء آجالهم، ليبقى السؤال: هل سيُكمل حازم مدته، أم أنه سيصبح محافظ بنك السودان الذي أسقطه ارتفاع سعر الصرف؟!