*الجُمعة الأولى 30 يونيو 1989* (1) في الجُمعة الأولى؛ 30 يونيو 1989- ضُبّاطٌ وشيخٌ وحزبٌ يستولون على الحُكم في تدبير بليل وانقلاب عند الفجر، ويبحثون عن رئيس الوزراء الذي يشاركونه البرلمان ويستطعمون حكمه وخبزه في الزمان السّمح ويغدرون به عند الفجر؛ وهو في حوالي الرابعة والخمسين من عمره تقريباً. والطّعنة التي أصابت رئيس الوزراء من الخلف ستصيبهم لاحقاً من ألف خلف، لم يتوقعها من (الجماعة) وعلى رأسها من هو من ذوي القربى، ومع ذلك في المدة التي أتيحت له قبل إلقاء القبض عليه؛ كتب رسالة سطّرها بعبارة سديدة (معكم القوة ومعنا الحق) وسيستمر صراع القوة والحق على مدى ثلاثين عاماً، والحق مسنودٌ بالجماهير التي قاومت النظام في الريف والمدن وبضحايا من كل حدب وصوب وجغرافيا وقبيلة وحزب وحركة من نمولي إلى حلفا، ومن بورتسودان الى الجنينة، لم ينحنِ أحد؛ في نضال متّصل توّجه آخر الشهداء صائحاً نيابة عن كل الشهداء على امتداد طيفهم (حرية – سلام وعدالة والثورة خيار الشعب). وبينما كنت راجلاً على شارع النيل استوقفتني عبارة كتبها أحدهم على الحائط (كشة فكرة والفكرة لا تموت). وسيصرع الحق القوة ولو بعد حين وثلاثة عقود وبامكانك أن تتهم الإمام بكل شئ وأن تسيئ اليه حتى بعبارات بذيئة؛ ولكن شيئاً واحداً لم يتنازل عنه الإمام في مواسم القوة وجولات الحق، ففي وجه القوة الغاشمة احتفظ بالحق حتى انحنى ظهره من ثقل السنوات، وقد ناور الإمام الصادق المهدي بطرق رضيناها وبأخرى لم نرضَ عنها، ولكنه والله لم يتنازل عن الحق طوال رحلته مع شعبنا المضنية والشائكة؛ أحتوته السجون والغربة والهجرة في (تهتدون) ونازل من نحلة الجرح القديم الى تفاصيل البلاد في (تفلحون). غضبنا منه حيناً وعانقناه أحياناً كثيرة؛ كان نبيلاً من تراب هذه البلد وكبريائها وشموخ نسائها ومضى رسماً ومعنىً واسماً، وفي رحلته الطويلة لم يستند على إرث أسرته وحده، ولكنه صنع نفسه من نفسه والحق يقال؛ لم تكن رحلته دون انتصارات ونجاح وأمل ودون وهنّات وخيبات وفشل، مثل كل رحلة عظيمة للإنسان ومن بعده من أين لنا مرة أخرى بإمام من أكسفورد. (2) كم كان جميلاً أن أسدى الشعب للإمام ثورة قبل رحيله وحسم منطق القوة لمصلحة الحق، والحياة جميلة تبتسم للشعب لا للمتآمرين. من اللافت للنظر أن الإمام أستطاع أن يكون دائم الحضور على مدى ستة عقود أمضاها في السياسة فملأ الدنيا وشغل الناس، وكان واحداً من الذين يستطيعون جذب دائرة الضوء في المسرح السياسي طوال الستة عقود وهو أمرٌ ليس باليسير ولا بالمتيسر للكثيرين؛ وقد غضب كثير من الشباب من استمراره على سدة مسرح الأحداث، ولكن الجدير بالتأمل أيضاً؛ أنه استطاع أن يتفاعل مع كل الأحداث، وأن ينتج الخطاب الذي يناسبه وبلغة متميزة ذات فُرادة في مسرح الخطابات السياسية؛ تمتازُ بأبعادٍ متعددة، تفاعل معها إيجاباً العديدون واغضبت آخرين ولكنه؛ أينما ذهب كان يجذب بؤرة الضوء. في جمعة الثلاثين من يونيو 1989؛ أودع ضباطٌ باسم القوات المسلحة تابعين (للجماعة)، الإمام السجن، وستأتي جمعة أخرى وستكون حافلة بمنظر آخر من تفاعل الإمام والضباط من القوات المسلحة ولو بعد رحيله. *الجمعة الأخيرة 27 نوفمبر 2020* (3) جمعة الرحيل في 27 من نوفمبر 2020، كانت مُغايرة للجمعة الأولى في 30 يونيو 1989؛ وفي ثنايا الحُزن وفجيعة الغياب؛ تأمّلت جثمان الإمام الصادق المهدي وهو يهبط من الطائرة الإماراتية في مطار الخرطوم فوق أكتاف كبار ضباط القوات المسلحة، وخلف نعشه قادة القوات المسلحة في منظر مهيب؛ وحدها ثورة ديسمبر هي القادرة على رسمه وإنتاجه ومن دونها كان سيكون حُلماً وطيفاً وخيالاً عبقرياً غير مشمول بالمنال، فقد بدأت هذه الثورة في تحرير المجتمع والجيش والقوات النظامية من كيد (الجماعة) ولم تكمل مهمتها بعد، والمفارقة في أحداث الجمعتين؛ تقتضي التفكير والتأمل. ففي الأولى استخدم الضباط الرتب على أكتافهم لإزاحة الصادق المهدي من الحكم بادعاءات كذوبة سرعان ما انكشف أمرها وبثمارهم تعرفونهم، وما بين الجمعتين الأولى والثانية طريقان، أحدهما يصادم المجتمع باستخدام الرتب والنياشين، والآخر تجسيد للمصالحة بين الجيش والحياة السياسية والمدنية. إن الجمعة الأخيرة في حياة الإمام تجترح طريقاً جديداً بين الشعب والجيش؛ وهي من أمهات القضايا في مأزق السودان الحالي ومستقبله معاً، فهل لنا من مصالحة بين المدنيين والعسكر وبين العسكر والسياسة..؟ إن حياة الإمام الصادق المهدي هي تجسيد لهذه العلاقة الملتبسة في سباق المسافات الطويلة عند ناصية العمل السياسي وأي أنجم ستتلألأ وتطعم الفقراء أم تطعم (السونكي). إن الجمعة الأخيرة هي كوة أطلت على مستقبل العلاقة بين المدنيين والعسكريين، بين الشعب والجيش، ولا بد من نسجها بحبال الوطنية والحوار العميق حول مستقبل العلاقة بين الجيش والسياسة، وبين جدل الثورة وجدل الانقلاب، وبين مساهمات الجيش في الوطنية وحب البلاد وتورطه في الحروب الأهلية والانقلابات؛ إن الوطنية هي كعب الجيش العالي، والحروب الأهلية والانقلابات هي التي تأكل كعبه وقامته المديدة المكتوبة بمداد وأحبار شارفت على المائة عام. (4) مفرزةٌ من أورطة؛ ضمت عقداً من الشجعان كأنما الرحمن اختارهم وادخرهم لذلك اليوم، كلهم كانوا عظاماً باسلين من صلب قوة دفاع السودان، يتقدمهم عبد الفضيل الماظ وهو ابن 28 عاماً والثابت عبد الرحيم وسليمان محمد وسيد فرح وحسن فضل المولى وعلي البنا وحوكم معهم محمد المهدي الخليفة؛ كانوا حوالي المائة من خيرة شباب هذه البلاد وجندها، عبروا شارع الجامعة 27 نوفمبر يوم الخميس وانتهت مسيرتهم يوم الجمعة 28 نوفمبر كانوا وطنيين وشجعاناً، رضعوا حليب الوطنية من ثدي أمهاتهم وأبادوا أورطة كاملة من فرقة الأسكتلنديين البريطانية في معركة النهر الثانية بذخيرة حية أعطاها لهم سراً القائم مقام فرج ابو زيد الدينكاوي في رواية شفاهية؛ وحينما أغمض عبد الفضيل عينيه فوق مدفعه، أخذ الضباط من بعده الى إعدامات بري والرصاص فوق صدورهم جدائل عرس لم ينحنِ أحد، وكان ثابت ثابتاً وصحبه، وأحضر علي عبد اللطيف وأحمد عقيل وعبد الله خليل وبلال رزق وحامد صالح المك في رواية لحضور الإعدامات. وفي نوفمبر في الأبيض قاد اليوزباشي سر الختم صالح جبريل قائد الهجانة؛ مظاهرة في المدينة أنضم إليها الشعب وخرجت معه الجماهير في الأبيض وهو من قادة ثورة 1924، ومن إعدامات بري يرتبط الشعب والجيش بحبل سري يمتد الى سنوات عبد الفضيل الماظ في (تلودي) وتمرد حاميتها بعد مقتل السير ستاك؛ وتمرد قوة دفاع السودان في بحر الغزال بل ربما يمتد هذا الحبل الى أبعد من ذلك منذ أزمنة الجهادية السود وتاريخ الجندية السودانية الطويل وأحياء الرديف؛ التي بنت مدناً بكاملها. إن الذين قادوا ثورة 1924 وتمرد طلبة الكلية الحربية في أعقاب ثورة 1924 والتفاعل الجماهيري معهم ومع تلك الثورة ومع ضباطها وجنودها لا زال حبله ممدوداً وصوته مسموعاً مثل صوت العم الشاعر والمناضل العبادي، ولذلك حينما قرر الشباب الذهاب الى القيادة العامة، فإن في ذلك استبطاناً عميقاً لما مضى من كتاب الأمس؛ نقرأ منه لنقف على أعتاب أبواب المستقبل وتمتد هذه الصلات الى أكتوبر 1964 وأبريل 1985، ويجب أن نجدد هذا العقد لمصلحة البلاد والجيش وبناء دولة المواطنة بلا تمييز والديمقراطية وبناء جيش وطني بعقيدة عسكرية جديدة وغير مسيس يكون قبلة للنساء والرجال في التجنيد ويحتفي بالتنوع لحماية المصالح العليا للبلاد. إن الجيش والقوات النظامية لا تزال مؤسساتهما؛ تضم مختلف قبائل السودان رغم الاختلالات البنيوية التي تحتاج الى نسق جديد ومنوال ينسج حبال الود مع الشعب. ومشاركة الجيش في تشييع الإمام الصادق المهدي يحسب له، وهي لحظة التقاء مهمة لا بد أن تتطور وترتقي الى ما ينفع بلادنا. (5) كانت المرة الأولى التي شاهدت فيها الإمام في العام 1984 في سجن كوبر؛ كان في قسم المعاملة الخاصة، وكنت من أصغر المعتقلين في قسم الكرنتينة (ب)، كان في معيته صديقنا حسن أحمد الحسن والراحلون العم عبد الوهاب غاندي وصلاح عبد السلام الخليفة وعمر نور الدائم وخالد محمد ابراهيم وميرغني ضيف الله وادريس البنا متعهم الله بالصحة. حينما خرج الإمام من السجن زار قسم الكرنتينة (ب) وكان على رأس المعتقلين في ذاك القسم الاستاذ التجاني الطيب بابكر ويوسف حسين، وألقى حينها الإمام خطبة قصيرة أطلق عليها المعتقلون …….. نواصل 10 ديسمبر 2020 الخرطوم