الخالة هنا كلُّ من هي في منزلة الأم ولو كانت عمّة "لَزَم"، وخالاتي على هذا الوصف في منزلة عزيزة من قلبي أجدها تسمو فوق ما لديّ من أوصاف أحياناً، وأقول "أحياناً" ليس لأن منزلتهن عندي متقلِّبة لا سمح الله، وإنما لكوني شديد الثقة في مقدرتي على التعبير حتى يفجؤني من المشاعر ما يحشر بلاغتي المزعومة في زاوية. التصاقي بالخالات عادة أنِسْتُ إليها منذ الصغر، فرافق ذلك أنسي ب "التلصص على الأشياء الحميمة لدى المرأة"، والتعبير لكاتبة أجنبية يفيد على ما أذكر ما لدى المرأة من اهتمامات - على مستوى السلوك والمشاعر - يراها الرجال ثانوية وسطحية في أغلب الحالات، فإن خذلتني الذاكرة ولم يكن ذاك ما أرادته الكاتبة الأجنبية من التعبير فهو على أية حال مقصدي منه الآن. ارتباطي بأعمامي، الذين هم كلُّ من في منزلة الأب ولو كان خالاً "لَزَم"، لا يحتاج إلى تعقيب كونه من طبائع الأشياء بالنسبة لرجل، فلهذا وحسب سقطت إضافة الأعمام إلى العنوان على ما لهم من منزلة أثيرة في الوجدان. وإذا كان معروفاً عن الموصوفين ب "تربية الحبوبات" رجالاً ونساءً "المَحَنَّة" الزائدة (ولا أجد لها مرادفاً دقيقاً في الفصحى)، فإن ارتباطي العاطفي بخالاتي ليس مردّه أنني "تربية حبوبات"، على الرغم من أن من ظل يهدهدني حتى بلغت الثلاثين (سنة لا يوماً) هي جدتي الأثيرة رحمها الله، قدرَ ما هو (ارتباطي) فيما أخال مردود إلى تعلّقي المميز على صعيد العاطفة بالوالدة، وهو ما يقابله في مقام التعلُّق ارتباط شديد التميز فكرياً بالوالد، متعهما الله بالصحة والسعادة، وإن اشتبك التأثير العاطفي والفكري عليّ من قِبَل الوالدة والوالد بحيث طفقا يتبادلان الأدوار في كثير من الأحيان، حتى أظنني أحياناً – على عكس المفترَض - تأثرت في هذا الموقف فكرياً بالوالدة وفي ذاك عاطفياً بالوالد. أجمل ما في العلاقة مع الخالات أنها تتيح طفولة مستمرة حتى لمن ينكر الحاجة إلى ذلك الإحساس من عُتاة الرجال، ف "داخل كلٍّ منا طفل صغير" كلمة صادقة وإن أفقدتها كثرة التكرار بعض وقعها الجميل على النفوس. وعُتاة الأعمام يتيحون للواحد أيضاً أن ينعم بإحساس طفل صغير، ولكن على الطريقة غير المباشرة للرجال في هذا الصعيد، سواءٌ أكان مردّ "عدم المباشرة" عند الرجال هو الإنكار أو الخجل (أو الإنكار بداعي الخجل). وقد حدّثني صديق كيف أنه زار قريتهم لأول مرة فقط بعد أن تزوّج، ليُفاجأ بأن كل من في القرية من الرجال يشبه أباه أو عمّه أو خاله أو ابن عمه أو..، ولعله تلقّى من فرط الشوق من رجال القرية الذين هم في منزلة الجدود والأعمام ما أعانه على أن ينعم بإحساس طفل ينهض عنه من حوله بمهمة الحفاوة والمحبة ولا يكلُّفونه شيئاً من واجب إظهارهما ثقةً منهم فيما يُضمر من المشاعر "البريئة". وكنت قبلها قد سمعت في حديث تلفزيوني من رجل كيف أن لقاء الجدّات والخالات والناس الكبار عموماً في القرية لا يُقارَن بغيره في مقام الحفاوة المجرّدة من أية مصلحة، فهم هناك يخفُّون إلى استقباله وهو على مسافة بعيدة في طريقه إلى بيوتهم بالهتاف والصياح وربما الإجهاش بالبُكاء، ثم يضمونه إلى صدورهم ضمّاً عنيفاً في ظاهره بالغ الحنان بما يستبطنه من الدلالات، يتحسسون وجهه بأناملهم ويشمّون عنقه ونحره رغبةً في الإيغال في الارتواء وعليه من وعثاء السفر وكآبة المنظر ما لا تخطئه سوى بصائرهم ومشاعرهم التي ترى في الجسد ما تعكسه الروح ليس إلّا. أن تكبرك الخالة "اللزَم" بقليل من السنوات مما يضيِّع عليك فُرصة الأنس بإحساس طفولي معها، لكنه يمنحك في المقابل إحساساً فريداً بعلاقة الخالة "الفردة" التي تسقط معها حواجز المسافة الكبيرة بين عمرين، على ما في تلك الحواجز من لذة موازية. تتضاعف الحاجة إلى حنان الخالات كلما أوغل العمر إلى منطقة يعود بعدها التصابي مهمة حرجة مهما تكلّف الواحد التفسير والتبرير، ومن سُنن الخلق أن نزداد إدراكاً لقيمة ما نملك عندما لا يعود بإمكاننا أن "نستخدمه" في سلاسة. أظل أحلِّق عالياً بالبعاد وأنا أمنِّي نفسي أن أعود حيثما لقيت خالاتي فأهوي لأغطس في جردل من حنان. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته