هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته لن أزعم إني أستطيع الإجابة على هذا السؤال بشكل حاسم. لكني –ربما- أستطيع، معك عزيزي القارئ، التفكير بصوت عال وهزّ بعض المسلمات التي أدت بنا لهذا التخلف. لعل من أسوأ الكلمات التي نخفف بها عن أنفسنا هي عبارة "القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ". إذا خرجت من مطار الخرطوم ستعرف أن هذه العبارة ذاتها موجودة ( كانت موجودة ) في العراق، " .. وبغداد تقرأ"، وفي سوريا ".. دمشق تقرأ". وسينظر لك المواطن السوري بدهشة حين يسمعك تردد نسختها السودانية، وسيعتبرك – بلا تردد – تحاول بناء مجد ما على حساب تاريخه الباذخ في القراءة والثقافة. لذلك دعنا نتفق أولاً أن هذه العبارة ليست قانوناً رياضياً أو مرجعية تتكئ عليها. مهما تكلمنا عن ثقافة السودانيين حين يلتقون بغيرهم من الشعوب، أو كثرة الرواد السودانيين في معارض الكتاب العالمية. دعنا ننظر للعبارة فقط بشكل "منطقي"، كيف نكون أكثر قراءة من دول تكتب وتطبع؟ كيف نكون أكثر قراءة وليس لدينا مكتبات، ولا معارض كتاب ذات قيمة؟ كيف نكون أكثر قراءة ونحن لا ننتج أصلاً؟ هل ماكينات الطباعة التي تهدر في القاهرة وبيروت وأبو ظبي وتونس والجزائر تنتج كتباً تعتمد تسويقياً على القارئ السوداني أم على قارئ بلدها؟ كم من الكتب المطبوعة بالعربية فقط تصل إلى السودان متجاوزة الرقيب الأمني، والأخلاقي، والبيروقراطي؟ كم دار سينما لدينا؟ كيف لأكثر الشعوب قراءة وثقافة أن يكون ضعيف المنتوج الثقافي، الأدبي والفني؟ هذا يقودنا – مباشرة – إلى السؤال الثاني. ما هو حجم انتاجنا الأدبي؟ ما هي المساهمة التي نقدمها للقارئ العربي – او العالمي – في مجال الأدب؟ يقول ماريو يوسا في كلمته أمام لجنة جائزة نوبل عام 2010 "يمد الأدب الجيد الجسور بين الناس المختلفين، وإذ يجعلنا نتلذذ أو نتألم أو نستغرب فإنه يجمعنا ما وراء اللغات والمعتقدات والعادات والتقاليد والأفكار المسبقة التي تفصل بيننا". فهل لدينا الاستعداد أصلاً لمد هذه الجسور وتجاوز هذه الإختلافات؟ بمعنى آخر أكثر سهولة "هل نحن مجتمع مستعد لقبول الآخر؟" الإجابة على هذا السؤال ستساعدك على الإجابة على سؤال الرواية والأدب. يعاني مجتمعنا من حالة "محافظة" مزمنة، وتقدير لذاته ربما يفوق الواقع، مما ينعكس استصغاراً ونفياً للآخر. هذا يؤثر – سواء أردنا أو لم نرد – على تفاعلنا مع العالم ثقافياً. حالة المحافظة هذه ليست – فقط – وليدة النظام الحاكم، لكن بها عوامل كثيرة. فكرة "الرواية المحترمة"، و"الرواية الأخلاقية" و"الرواية المعبرة عن تقاليد مجتمعنا وعاداته الكريمة"، هذه ليست أفكارا نائية نادرة، بل هي قيود أصيلة في المجتمع تحد من ابداعه وتؤثر في تلقيه. يفرض المجتمع – دون التطرق لقيود الدولة – على المبدع أن يقدم أدباً وفناً بمقياس أخلاقي محافظ محدد سلفاً. هذه كانت أحد أسباب الهجوم على المخرج السوداني الصديق أمجد أبوالعلا في مشاهد أحد أفلامه، حين عرض مشهداً لصبي وصبية يتحدثان عن الحب. قامت قيامة مواقع التواصل رفضاً لهذا المشهد "الذي لا يتناسب مع أخلاقنا كسودانيين". تحت رجعية مجتمعية كهذه ستجد الإحتفاء المكره باسم الطيب صالح دون أعماله. فهو كاسم يجب احترامه لمكانته العالمية. أما أعماله – خاصة موسم الهجرة إلى الشمال – فينظر إليها كأعمال لا أخلاقية. هل هذا المزاج المحافظ هو فقط وليد 25 عاماً من حكم النظام الحالي؟ لا يمكن تحميل ذلك كله للنظام. فهناك عوامل أخرى بلا شك. لكن المؤكد أن تكريسه هو مسئولية النظام ومبرر من مبررات وجوده. لكن بعيداً عن النظام فإن المجتمع منذ أواخر السبعينيات أخذ في الاتجاه يميناً بشكل كبير. لعل من أسباب ذلك الاغتراب إلى بلاد النفط، وخاصة السعودية. حيث عاد الذاهبون بقيم أشد محافظة، وأكثر اهتماماً بالنقد الأخلاقي لكل ما حولهم، مع جفاف روحي عام فيما يخص الأدب والفنون. كما أن الهجرة الريفية التي غزت العاصمة وضعت بصمة واضحة على الأفكار. على الرغم من أن القرى السودانية بشكل ما أكثر تحرراً من المدينة التي قامت في نشأتها تائهة الهوية. لكن – في ظني – أن الريف صبغ المدينة بقيم محافظة، مستكبرة على العالم. الإشارة إلى المزاج المحافظ المستكبر على العالم أمر مهم هنا. فجزء أصيل من الثقافة كما ورد في كلمة يوسا هو مد الجسور مع العالم. ويقول نجيب محفوظ "إن وظيفة الفن أن يلتقي بوجدان الفرد مع وجدان الجماعة الإنسانية في شعور واحد". فالثقافة ليست مدح الذات للعالم ليعجب بك. ليست الثقافة أن ننتج أدباً يحكي للعالم عن روعتنا وقيمنا وأخلاقنا ( أخلاق القرية السمحة لدى شعب هو معلم الشعوب). ولا أن ننتج أفلاماً تظهر جمال الطبيعة عندنا، وعاداتنا الفلكلورية (هل شاهدت فيلم عرس الزين؟). لكن هاجسنا هو أننا لا نحتاج أن نسمع من هذا العالم شيئاً إلا التقدير لأخلاقنا وقيمنا وعاداتنا. ومادام لن يفعل ذلك فنحن في غنى عنه. ولن نسمع منه أيضاً شيئاً. ماذا لدى العالم ليقدمه لنا سوى أدب فاجر رخيص، وأفلام عارية لا يمكن مشاهدتها أسرياً. هناك أساطير كثيرة مسيطرة على وجداننا الجمعي، وقيود سلطوية حكومية، تعوق دون تدفقنا الثقافي لنتفاعل مع العالم. لكنها تنكسر، وستنكسر. لا مجال لها إلا أن تنكسر، أو سنندثر ثقافياً بعد أن تخلفنا. تنكسر الآن بجهد كتاب شباب كثر ربما يقودهم المجتمع المحافظ للتطرف في التعبير الأدبي لصدم المجتمع. وهو أمر غير جيد أدبياً، لكنه مفهوم. هناك حركة كتابة واسعة في السودان ستجتاز القيود المجتمعية لتنتصر عما قريب للقيمة الفنية. قد لا أكون متابعاً لأغلبها، وقد لا أرضى – شخصياً- عن بعضها، لكن وجودها مهم ولافت، وسيحدث أثراً. تنكسر الآن بجهد سينمائيين شباب مازال الشارع يستغرب وجودهم. وقد لا يفهم المواطن أو الشرطي لماذا تحمل تلك الفتاة التي لا تلبس الطرحة كاميرا وتقف في عرض الطريق لتصور. سيظن بعضهم أن فيلما به مشهد غرامي، أو فتيات بلا حجاب، أو مغني راب وأندرجراوند باندز هو اساءة للقيم السودانية الأصيلة. ستنكسر تلك القيود المجتمعية والحكومية التي تعتبر الأدب مؤامرة، والفن تمويلأ من دول أجنبية للاساءة للسودان، كما انكسرت تلك القيود في العالم أجمع قبل أعوام وعقود. لما كان ماركيز ينشر تحقيقه الصحفي عن البحار الذي نجا من الغرق في كولومبيا عام 1955، وهو التحقيق الذي تحول لرواية "قصة بحار تحطمت سفينته"، أتهم بأنه يروج لمزاعم شيوعية ممولة من الاتحاد السوفيتي للقدح في النظام العسكري الحاكم. وتعرضت الصحيفة والصحفيون لهجوم من المواطنين المحافظين المحبين لبلادهم. واليوم، بعد نصف قرن، نعرف أن ماركيز انتصر.