هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته مناقشة القضايا العامة والبلاد تتأهب لرد عدوان أجنبي على أراضيها يدخل في سياق وضع الندى في موضع السيف الذي حذر منه شاعر العرب أبوالطيب المتنبي. ويملك مواطنو الدول الكبرى في الديمقراطيات العريقة حق رفض الحروب التي يشكون في جدواها أو في منطلقات سياسييهم في إشعالها . ويكون الرفض لاعتبارات إنسانية نبيلة أو خوفاً على أرواح المقاتلين من بني جلدتهم. وتتعدد أساليب الرفض فتشمل التظاهر والاحتجاج وعقد الندوات والتحدث لوسائط الإعلام المختلفة. ذلك كله قبل بدء الحرب فإذا دوت أصوات المدافع ولعلع الرصاص وحمى الوطيس خفتت جميع الأصوات واصطفت خلف المقاتلين لا يجرؤ أحد على انتقاد الحرب ليس خوفاً من مخالفة القوانين ولكن خوفاً من أن تصبح أصواتهم المعارضة عوناً للعدو على أبنائهم ومواطنيهم في ساحات القتال. ولقد دفع الصحافي الأمريكي اللامع مايكل مور الثمن غالياً عندما قال في يوم زينته عندما اجتمع المبدعون لتكريمه على فوزه بأعلى جوائز هوليوود للأفلام الوثائقية فقد أقحم موضوع الحرب على العراق إقحاماً في خطبته عند تسلم الجائزة السنية إذ قال: " نحن ضدهذه الحرب. سيد بوش عار عليك(يعنى الرئيس جورج دبليو بوش) عار عليك... سيد بوش. " وتحول عرسه الفني إلى تظاهرة عارمة ضده وإلى سباب قبيح لا يسطر على قرطاس. لكنكم ستجدونه في كتاب ضخم طريف ضمنه قصة حياته منذ أن وطأت أقدام أسلافه الولاياتالمتحدة سماه Here Comes Trouble لقد ظل الرجل مختفياً وفي حراسة شركة أمنية متخصصة لثلاث سنوات رغم أنه صوب هجومه على القيادة السياسية ممثلة فى رئيس البلاد لا على الجيش المقاتل في العراق. ولأن قيادة الجيش عندنا قد أبلغت الناس علناً أنها دخلت مظفرة إلى هجليج التي لم تبق فيها سوى جيوب معزولة يسيطر عليها جيش الجنوب , رأينا أنه بالإمكان مناقشة بعض القضايا التي نرى أنها متعلقة ببقاء السودان كبلد بغية رفع الانتباه إليها إلى مستوى الحوار الوطني المعمق . ولب الأمر كما أراه هو أننا بحاجة إلى تشخيص حالتنا للتعرف على مواطن القوة والضعف في أنفسنا ومن ثم نخلص إلى خطة راشدة تتيح لنا البقاء في عالم مضطرب تتحكم فيه الرغبات والأطماع لا يعير كبير اهتمام للقيم الإنسانية التي تستلزم حتى بلغة الغرائز حفظ النوع الإنساني من الهلاك والفناء. وفى تراثنا الثقافي "رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه". وأولى خصائص هذه البلاد التي صنعتها الجغرافياً والتأريخ هي أن هذا البلد يقع في عمق القارة الإفريقية ويعد في ذات الوقت نقطة تماس بين إفريقيا وحوض الأبيض المتوسط والشرق الأوسط فأعراق قاطنيه إنما هى أمشاج من المكونات العرقية فى هذين العالمين. أما من الناحية الثقافية فإن ما تبقى منه يعد جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية لا يقلل من ذلك الانتماء للنكهة الثقافية الخاصة التي تفرضها الجغرافيا في المآكل والمشرب والملبس والمفردات حيثما انتشرت الثقافة العربية وتمددت في بقاع حضارية قديمة كما هو الحال بين البربر والكرد والترك والفرس والهنود.ومع ذلك تراعى خصوصيات ثقافية ولغوية ودينية لبقاع في هذا الخضم الكبير.أما الخاصية الأخرى فهي غنى هذه البلاد بالموارد المائية والزراعية والمعادن. وهذه الخاصية مجلبة للأطماع الخارجية. تأملوا حال بلد مثل الكنغو الديمقراطية هي أكثر منا ثراء في مواردها الزراعية والمعدنية جميعاً.يضاف إلى تلك الخصائص غنى البلاد بموارد بشرية لا بأس بها من حيث العدد والكيف.هذه خصائص كافية للنهضة لكن الخطط المراعية لهذه الخصائص جميعاً هي الكفيلة بتحقيق النهضة والإبقاء على السودان متماسكاً حيث هو الآن.أما خاصية المكان المشار إليها فلها تبعاتها السالبة والإيجابية فهي قد وصلت انتماءات السودان بالعالم العربي لغة وعادات وتقاليد ووصلته بعد ذلك بعالم إسلامي مترامٍ يمتد من جاكارتا إلى طنجة .و السودان بذلك متفرد في إفريقيا جنوب الصحراء ولا نظير له في ذلك رغم أن سحنات أهله لا تختلف كثيراً عن سحنات أهل الإقليم لدرجة يصعب معها التمييز فيها بينهم وبين سكان القرن الإفريقي . هذه الثنائية في الإنتماء تربك الأجنبي الذي لا يعنى بالتفاصيل والذي يجد السودان ضمن منظومة دول إفريقيا جنوب الصحراء .وكان الأمريكي أوسكار بليتون قد كتب مقالة مهمة عن هذا الإرباك بعنوان "لماذا يربك السودان الغرب؟" وكنت قد إستعرضها بمقالة بعنوان "السودان بعين أمريكية فاحصة!". كذلك أشار الأستاذ محمدأحمد محجوب رئيس وزراء السودان الأسبق في كتابه "الديمقراطية في الميزان" إلى فتور في علاقات السودان بأمريكا منذ الاستقلال. وأرجع السبب الرئيس لذلك الفتور إلى تضامن السودان مع العرب في حرب الأيام الستة .وقال إن ذلك التضامن أمرطبيعي وينبغي أن يكون مفهوماً .هذا التميز المربك يسر على الحركة الشعبية تسويق فكرة السودان الجديد إلى درجة أن نائب وزيرة الخارجية الأسبق روبرت زيلك وصف في إفادة له أمام مجلس الشيوخ قبل أعوام الدولة السودانية بأن النخبة فيها قد نشأت في القرن التاسع عشر من المرتزقة والتجار المنحدرين من قبائل تعيش إلى الشمال من الخرطوم مختزلاً بضعة آلاف من السنين هو عمر الدولة في السودان منذ فراعنة النوبة قبل الميلاد. وكنت قد أشرت إلى ذلك محذراً من خطورة هذا الفهم فى بحث منشور بعنوان "السودان أزمة هوية أم آلام مخاض الدولة القطرية". ومن سلبيات هذه الخصوصية أنه من السهل إثارة شكوك الجوار الذي لا يشاركنا هذه الخصوصية وتحريضه علينا مثلما حدث من قبل وكذلك الغرب خاصة في ظروف الاستقطاب والظروف الاستثنائية. وعندما وصل إرسال السودان التليفزيوني إلى بلد مجاور هرع سفير غربي إلى رئيس تلك الدولة ليلاً محذراً من خطورة ذلك. لذلك ينبغي أن يشتمل مخطط التعامل مع الجوار الإفريقي على مراعاة هذه الحساسية وأن لا يخرج التعبير الديني والثقافي عن المألوف من السماحة السودانية والتسامح الذي ميز التدين السوداني بتأثير البعد الصوفي فيه. وسيلعب القبول العام في المنطقة للغناء والموسيقى السودانية دوراً إيجابياً في توثيق الصلات بيننا وبين ذلك الجوار وفقاً للسياسات المدروسة للتعامل مع دول المنطقة والتي تشتمل على إقامة مراكز ثقافية وعبر منح دراسية في مجالات العلوم والطب والهندسة وإقامة مشروعات تنموية مشتركة على الحدود مع تلك الدول .أما على المستوى العالمي فقد تعرضت الثورة المهدية إلى تشويه متعمد خاصة في الغرب دمغ هذه البلاد بسبة الرق والحروب والتعصب نعاني من بعض تبعاته اليوم. والمطلوب تغيير هذه الصورة لا تكريسها فالقوى الكبرى قادرة عبر مؤسساتها على تقدير ما يمكن أن تلحقه دولة نامية محدودة الإمكانات بها من الأذى لكنها ستستخدم الوسائل التي نعبر بها لتكريس الصور السالبة عنا تبريراً لإلحاق مزيد من الأذى بنا و"المؤمن كيس فطن".وفي مقاصد الفقه المالكي الحفاظ على الموجود من الواجبات الشرعية. ونكرر خلاصة ما نرمى إليه بأن عبقرية المكان تفرض علينا نوعاً محدداً من التعبير الثقافي لا يفرط عقد مكوننا الداخلي ولا يثير مخاوف جوارنا الإفريقي بل يفرض علينا الحرص أن نكون أخلص الأصدقاء لهم حتى لا يبحثوا عن صداقات تستثمر شكوكهم لإيذائنا. . فالخصائص المذكورة والغنى الذي تتميز به البلاد من الطبيعي أن يجلب المؤامرات والدسائس لكن قدرنا لكي نبقى أن نسد منافذ تلك المؤامرات بالاستراتيجيات المدروسة في تطبيع العلاقة مع الجوار وجعل المصالح المتبادلة معه دريئة للتوتر والحروب فكلما عظمت المصالح حرص الناس على بقائها ونأوا عن الحروب، ذلك لا يتحقق إلا إذا سبقته تدابير داخلية للحكم الرشيد تقيم ديمقراطية حقيقية يحرسها جيش قوي. لقد بات اليوم ولحسن الحظ صعباً أن تشن دولة قادرة حرباً على نظام ديمقراطي حقيقي يحظى بدعم الشعب ويحكم بإرادته. هذا شرط مهم من شروط البقاء ندرأ به المؤامرات والأطماع والدسائس ونصون به تراب هذا البلد العظيم.