أكتب لكم من بعيد من كوالا لامبور والنظرة من بعيد تعطي بعدا آخر لمآلات الوطن خاصة عندما ترى الآخرين يتقدمون ويزدهرون ونحن نتخلف، يعرفون كيف يديرون التنوع والتعدد ونحن نفشل، بلدنا السودان الآن في أزمات حقيقية أكثر من أي وقت مضى ليس فقط في انهيار اتفاقية نيفاشا ومآلاتها الحالية من عودة للحرب وذهاب جزء استراتيجي من خارطة الوطن فصارت حربا بين دولتين ذواتي سيادة وما يعني ذلك في الوضعية الدولية ومجلس الأمن وما يتبع ذلك من آثار اقتصادية ضارة وعميقة على الوطن والمواطن وعدم قدرته على تحمل المزيد من ضغوط المعيشة وربما تدخل خارجي أكثر كثافة وضررا، بل في النفسية السودانية وآثارها البعيدة السالبة لما حدث ويحدث مما يدعو لأهمية التعجيل بالحلول الناجعة التي تتميز بالحنكة والحكمة السياسية حتى نكرس للأجيال القادمة وطنا يحظى بالاحترام الداخلي والخارجي بعد أن تآكل ذلك الاحترام بعكس مما كان سابقا حين كان السودان مباءة لطلب الخير الاقتصادي والنصرة السياسية والسودانيون موضع تجلة وتقدير. وكما يقولون جزى الله الشدائد كل خير، فإن ما حدث في ملحمة هجليج أعاد لنا ذكريات جميلة حين ترك كل السودانيين خلافاتهم السياسية جانبا ووقفوا معا صفا واحدا كما حدث في استقلال السودان وثورات الربيع السوداني في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، وقفوا الآن ضد عدوان الحركة الشعبية وأثبتوا أن الخلاف السياسى يجب أن يتوقف عندما يتعرض الوطن للخطر. ولكن هل سيستفيد السودانيون حكومة ومعارضة من هذا الموقف الوطني أم سيكون مجرد حدث عابر يعودون بعده للخلافات البائسة فتستغلها الحكومة في دعم موقفها والمزيد من التحكم ومن جانب المعارضة في القول بفشل الحكومة في إدارة البلاد سياسيا وعسكريا واقتصاديا وديبلوماسيا فتعود عجلة الصراع من جديد وربما تستغلها الحركة الشعبية فتعود للحرب معتمدة هذه المرة على تجدد الخلاف وتجد الحكومة معزولة من الشعب خاصة إذا اضطرت الحكومة لرفع الدعم من السلع الأساسية وتفاقم الوضع المعيشي للمواطن فلا يساند الحكومة مرة أخرى؟ وحينها ستجد الحكومة تقاتل وحدها! إننا في حاجة ماسة الآن لانتفاضة وصحوة حقيقية، انتفاضة في العقول وصحوة في الضمائر حتى لا تنطبق علينا الآية (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ). انتفاضة العقول هي النظر بحكمة وحنكة في مآلات هذا الوطن والعمل على قدم الجد وساق الاجتهاد في معالجة الوضعية التي نحن فيها للخروج من النفق المظلم الذي وضعنا أنفسنا فيه مع سبق الإصرار والترصد، ألم نخرج منذ استقلالنا من فشل إلى فشل ويضرب بعضنا بعضا لدرجة التحالف وطلب الدعم من الخارج إقليميا ودوليا تستوي في ذلك حكومات ديمقراطية و ديكتاتورية يعرفها الجميع حتى اليوم؟ وانتفاضة الضمائر والقلوب هي أن نعمل بإخلاص للتوافق فيما بيننا ونعترف بأخطائنا جميعا في حق الوطن وحق الآخرين الذين اختلفوا معنا ونعمل على عودة وبناء الثقة فيما بيننا، وأن نتواثق على أخلاقيات الممارسة السياسية السليمة واحترام الآخر وأن نعمل على الاتفاق على نظام حكم رشيد وممارسة ديمقراطية نظيفة خالية من الشوائب ليست كما مضى، وأن نتفق على القواسم المشتركة والحد الأدنى الذي يكفل الاستقرار والعدل والحقوق نضعه في دستور حتى نقوم بواجباتنا كاملة تجاه الوطن فنقدم مصالحه على مصالح ذواتنا وكياناتنا الفانية ومصلحة المواطنين الذين علمونا لننهض بهم لا أن نتشاكس فتضيع مصالحهم ومستقبل أجيالهم، نعم نريد أن تكون ملحمة هجليج فرصة لانتفاضة حقيقية في الأفكار والعقول وصحوة في الضمائر والقلوب والنفوس، فهل نفعلها أم نضيعها كما أضعنا أمثالها؟ وحينها لات ساعة مندم.