عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    بونو ينافس دوناروما وكورتوا على جائزة أفضل حارس في العالم    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    المريخ يختار ملعب بنينا لمبارياته الافريقية    تجمع قدامي لاعبي المريخ يصدر بيانا مهما    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع المفكر جورج طرابيشي : الجابري خانني قبل أن يخون مصادره… ولست متفائلاً من مرحلة ما بعد الربيع العربي
نشر في حريات يوم 30 - 04 - 2013

كانت الشمس توشك على المغيب عندما التقيت جورج طرابيشي على “شاطئ القرم”، حيث زرقة المحيط تعطي انطباعًا بأن أفق التفكير مفتوحًا على مصراعيه، وأن “البحر” يتسع للجميع لخوض غمار تفاصيله. فيما كانت حمرة الشفق تنعكس فوق صفحة مياه المحيط منذرة بأنه حتى جمال الزرقة يمكن أن تخالطه صعاب جمة. ورغم أن جورج طرابيشي السوري المولد الفرنسي الإقامة منذ عقود، يخرج من صومعته الباريسية لأول مرة منذ عقد ونصف إلا أنه بدا إنسانًا اجتماعيًا بامتياز، حاضر البديهة والابتسامة، ومستعدًا للحوار مع الجميع.
دار الحوار الذي حضره مجموعة من الأصدقاء حول محورين اثنين: المحور الأول “ربيع العرب” خاصة وأن طرابيشي اشتغل طويلاً على فكرة الدولة وتحولاتها من حلم الدولة القومية إلى واقع الدولة القطرية. وكذلك محور مشروعه في نقد نقد العقل العربي الذي جند جهده فيه للرد على المفكر محمد عابد الجابري، وهو الموضوع المثير، والذي تابعه المثقفون العرب على مدى قرابة نصف قرن.
“شرفات” التقت طرابيشي الذي زار السلطنة قبل أيام بدعوة من صالون سبلة عمان الثقافي فكان هذا الحوار الطويل الذي نتمنى أن يكون إضافة إلى مشروع شرفات في حواراته مع مجموعة من كبار المفكرين في الوطن العربي أمثال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وهاشم صالح.
عاصم الشيدي: بصفتك “ناقدًا لنقد العقل العربي” كيف قرأت مشهد الثورات العربية. هل هؤلاء الشباب وجدوا الأب المغيب الذي يبحثون عنه، وكيف هي نظرتك المستقبلية لمسيرتها؟
جورج طرابيشي: عندما يكون الإنسان في قلب الحدث من الصعب أن يمسك بتلابيبه كله، وخاصة الحدث الذي يجتاح المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وليس محصورًا في بلد واحد ولكل قطر عربي تجربته الخاصة، ضمن السياق العام أنا مقيم في فرنسا من ربع قرن، ولست على تماس مباشر بأي بلد ولا حتى بوطني الأصلي سوريا، وبالتالي رؤيتي هي وجدانية عن قرب، ولكنها عقلية عن بعد، فلا أستطيع، ولست مجايلاً لهذه الثورات. وفي الواقع أفضل أن أسميها انتفاضات لأن الانتفاضات من شأنها أن تسقط أنظمة، أمَّا الثورات فليست مهمتها إسقاط أنظمة فقط، بل بناء أنظمة جديدة تتجاوزها وتتقدم عليها. السؤال الكبير هل ستنجح الانتفاضات العربية لأن تتطور إلى ثورات؟ هذا سؤال أساسي في اعتقادي. وكل ما أستطيع أن أقوله بدون أن يكون عندي أي توقعات نهائية لأن لكل بلد ظرفه الخاص ومعادلاته الخاصة. أعتقد أن إسقاط الأنظمة أسهل من بناء أنظمة جديدة، وقد يكون أقل كلفة من بناء أنظمة جديدة أيضًا، ونحن بالفرحة العامة بما حدث من الصعب أن نفكر بما سيأتي ولكن باعتباري لست من المعارضين السياسيين بالمعنى السياسي العادي للكلمة، باعتباري ملتزمًا بنهج فكري أكثر مما أنا ملتزم بنهج سياسي، بكل فرحي بما حدث في العالم العربي وبكل إيماني بحتمية ما حدث لأن الأنظمة القائمة في كل مكان في العالم العربي تقريبًا بلا استثناء أنظمة سدت أفق التطور ولجمت حركة الواقع، وحركة التغيير التاريخي مدة نصف قرن، أنظمة مستمرة وليست من الصدفة أن تكون حتى الأنظمة الجمهورية التي باتت تعرف “جملكية”، أصبحت جمهوريات وراثية تورث للأبناء ما تركه الآباء ولو استمروا لأورث الأبناء أبناءهم أيضًا. فأوصلتنا هذه الأنظمة القائمة في العالم العربي إلى طريق لم يترك معه مجالاً آخر سوى الانتفاض عليه لأنهم سدوا كل الطرق الممكنة للإصلاح أو إلى تطور يقود إلى الديمقراطية. في عصر بعد سقوط الأنظمة الشيوعية والدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية أصبحت الديمقراطية هي اللغة الوحيدة الممكنة للتفاهم بين الناس، وهي الطريق التي يشعر فيها المحكوم بأنه حاكم. ولكن كما قلت هل سنستطيع أن تكون هذه الأنظمة وهذه الانتفاضات واعدة بما سينجم عنها من أنظمة جديدة، وهذا سؤال كبير تحيطه علامات استفهام، وهنا أرتد إلى الربيع العربي وأقول إنه ليس مفهومًا نظريًا، إنما هو استعارة وإحالة إلى تجربة سقوط المعسكر السوفيتي وخاصة ربيع براغ. السؤال الآن، الأنظمة الشيوعية السابقة سقطت، ولم تكن تُقل بشاعة عن الأنظمة العربية التي هي ساقطة أو قيد السقوط في العالم العربي، لكن المجتمعات التي أسقطت الأنظمة السوفيتية السابقة أعتقد أنها كانت داخلاً قد قطعت شوطًا من التطور أتاح لها إلى حد كبير وليس في جميعها أن تؤسس ديمقراطيات، السؤال هل ستقودنا الانتفاضات إلى أنظمة ديمقراطية أم لا؟ أعتقد أن هذا دور المفكرين أن يطرحوا ذلك، هل الربيع العربي سيزهر أم سيتحول إلى صيف جميل ولكن الربيع مفروض يأتي بعده الصيف.
ع. ش.: هل يملك الشباب العربي الذي صنع الانتفاضات مقولات ثقافية أو أيدولوجيات لبناء ديمقراطيات؟
ج. ط.: لا. لا يملكون، هذا جيل أسقط الأيديولوجيا بواسطة التكنولوجيا، أنظمتنا التي سقطت أو التي هي قيد السقوط، قامت على أدلجة مخيفة للمجتمعات، أيديولوجيا ثابتة غير قابلة للتحول، الشباب قاطع هذه الأيديولوجيات ولا يملك خلفيات أيديولوجية، هو انطلق من التكنولوجيا. السؤال هل الشباب هو سيد الثورات أم سلبت منه؟ النتائج التي توحي بما حدث في تونس وفي ليبيا وفي مصر، لسنا واثقين أن الشباب مازالوا قادة الثورات، وأنهم هم الذين يقودون مرحلة ما بعد الثورات لبناء أنظمة جديدة، وبالتالي علامة الاستفهام الكبيرة التي أرسمها أنني سأقول لأول مرة ثورات وليس مع ثوارها برنامج سياسي ولا برنامج أيديولوجي، انتقلوا من القدرات التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة “الفيس بوك” ليسقطوا أنظمة. لأول مرة التكنولوجيا تنجح في إسقاط الأيديولوجيا. ما الذي يحصل الآن هو استرداد أيديولوجي لهذه الثورات، والآن المنطق الأيديولوجي عاد يكتسح الساحات في تونس وليبيا وفي مصر، وأقول أكثر من ذلك أن بعض القنوات التكنولوجية ذات الأثر الهائل، هي التي تعيد توريد الأيديولوجيا من جديد ولكن أيديولوجيا بديلة عن أيديولوجيا الأنظمة الساقطة، فأنا أخشى القول إن الشباب الذين صنعوا الثورات لم يعودوا هم قادتها. هناك نوع من استراد أيديولوجي للثورات وقد يمتد ليشمل بلدانًا أخرى. حتى مفهوم الربيع العربي يحتاج اليوم بعد التطورات إلى قراءة تفكيكية. الربيع شعار جميل، ورومانسي يوحي بتجدد نمط الحياة في المجتمعات العربية. أنا من الذين يفضلون الحديث عن مصائر الربيع العربي، وعلى الأقل هذا دور المفكرين، وربما لا أكون مفكرًا. ولكن هذا دور المفكرين، وإلا سنهيئ بلداننا وشعوبنا وأنفسنا إلى خيبات كبيرة إذا لم نخضع هذا الربيع العربي إلى قراءات تفكيكية. كان لا بد أن يحدث الربيع العربي لأن الأفق كان مسدودًا، الآن انفتح الأفق ولكن كما ينفتح الأفق لا ندري هل ستأتي بعده عاصفة أم بحر السلام من جديد. أنا عندي تساؤل ولست متنبئًا لأعرف ما سيحدث في المستقبل، ولكن المؤثرات القائمة الآن لا تجعلني كبير التفاؤل بمصائر هذا الربيع العربي.
ع. ش.: بصفتك سوري المولد والنشأة والهوى، وبصفتك كنت بعثيا، كيف ترى حالة الانسداد في الحالة السورية الآن؟
ج. ط.: لا تختلف حالة الانسداد السورية عن غيرها. كل بلد له صورته الخاصة ولكن الجوهر واحد. هي حالة الانسداد نفسها التي عرفناها في رومانيا وبلغاريا والبرتغال. الصورة نفسها والمنطق نفسه حدث في سوريا على مدى نصف القرن الماضي، وهو أن السلطة ابتلعت الدولة، وهذا أكبر خطر في الداخل السوري. لماذا كل هذا وهي أول دولة وكانت أكثر تقدمًا لبناء دولة لها شخصية سيادية مستقلة عن سلطة الحاكم. ما جرى في سوريا هو ابتلاع الدولة، السلطة ابتلعت الدولة، وقد اختلفت مع بعض الزملاء السوريين في هذا التقييم من الذين شتموا الدولة. أحدهم كتب كتاب الدولة ضد الأمة وأنا وقفت محتجًا وقلت إن السلطة ضد الدولة، ولذلك الصراع في سوريا ليس مع رجل الشرطة، الصراع في سوريا مع رجل المباحث. لقد ألغوا دور رجل الشرطة ممثل الدولة وأدخلوا ممثل السلطة وهو رجل المباحث. أعتقد أن هذه هي الأزمة الحقيقية الكبيرة في سوريا، مع خصوصية سوريا المتعلقة بالتعدد الديني والطائفي والإثني. نحن أمام نوع مركب من قطاعات كثيرة تشكل في النهاية سوريا. أخشى ما أخشاه على سوريا هو تمزق النسيج الوطني والاجتماعي فيها. ليس هناك أية ضمانات بأن لا تتمخض إلى حرب طوائف وأقليات وقد يكون لها امتدادات قوية بالنظر إلى أن العلويين لهم امتداد تركي، والأكراد لهم امتداد تركي وعراقي، والدروز لهم امتداد إلى لبنان. المشكلة في سوريا معقدة كثيرًا وبصراحة أقول أحد رهانات النظام هو تجييش هذه المشاعر حتى تستقطب منها قوى تسانده. ولكن بغض النظر عن تكتيكات النظام هذه، هذا واقع في سوريا، هناك تخوف حقيقي من تحولها حرب طوائف وحرب أهلية خاصة إذ تحولت المعارضة السلمية إلى معارضة مسلحة. عندما تتكلم لغة الدم تتوقف لغة العقل. ومع الأسف عندما تصبح الردود طائفية، كما حدث في مدينة حمص، تتجاوز حتى السلطات ويحدث القتال حتى فيما نسميه المجتمع المدني. الخوف الكبير أن سوريا غير مصر، وغير تونس وغير ليبيا طبعًا. هناك يمكن أن تأتي النتيجة عبر صندوق الاقتراع، أما في سوريا فأخشى أن تأتي نتائج الحرب المشروعة ضد هذا النظام القائم إلى بديل قد لا يقل بشاعة. بصراحة مطلقة وأقول شخصيًا وهذا نهاية موقفي: نحن بين حدين، وبالفعل نبكي فرحًا لسقوط هذه الأنظمة ولكن قد نبكي حزنًا للأنظمة التي ستحل محلها.
ع. ش.: قلت مرة إن المثقف إذا أراد أن يقف على قدميه من جديد يمكنه أن يستخدم حتى ساحة المسجد، لكن مواطنك أدونيس قال إنه لا يثق في مظاهرات تخرج من المساجد؟
ج. ط.: المشهد السوري مشهد غريب بمعنى أن شعبًا هو الأكثر تدينًا في العالم العربي مثل مصر لم تخرج مظاهراته من المساجد، بل خرجوا من ساحة التحرير. لماذا في سوريا يحدث هذا؟ أنا أفهم احتجاج أدونيس ولكن بدل أن يحتج كان يفترض أن يفسر، لا أن يدين مظاهرات لأنها خرجت من المساجد. لكن لماذا؟ لم يكن أمامها من خيار آخر سوى المساجد لأن السلطة القائمة سدت جميع منافذ التعبير، وكان المجال الوحيد هو المساجد، فأصبحت المساجد هي ساحات لاجورا، كما في أثينا، وهي الساحة العامة التي يجري فيها كل شيء. وكان أجدر بأدونيس، وهو زميل ولست بمعرض التشنيع عليه، أن يقول لماذا اضطر المتظاهرون أن لا يخرجوا إلا من الجوامع. لو فهم هذه وأجرى التحليل لغير موقفه.
ع. ش.: ننتقل إلى المشروع الذي عملت عليه كثيرًا وهو مشروع نقد نقد العقل العربي، كيف قرأت المشروع مع محمد عابد الجابري، وكيف اكتشفت أنه خان مشروعه ومصادره؟
ج. ط.: قبل كل شيء خانني أنا نفسي. أعتقد أن ما من إنسان مفكر أو ناقد تحمس لمشروع الجابري كما تحمست له أنا شخصيًا، لأنه عندما صدر كتابه تكوين العقل العربي، وكنت أعمل في دار الطليعة في مجلة دراسات عربية، وأخذت قراري بالارتحال من لبنان نتيجة الحرب اللبنانية وقررت الهجرة إلى باريس، بعد أن كنت هاجرت من وطني الأول سوريا نتيجة الظروف السياسية، خرجت من السجن إلى بيروت؛ المهم خرجت وأنا أحمل معي من المطبعة نسخة كتابه تكوين العقل العربي، وهذا الكتاب بدأت أقرأه وأنا في الطائرة، ولما وصلت إلى باريس مع كل قلق الهجرة، كان هذا الكتاب رفيقي. قرأته مرتين في أول أسبوع من إقامتي في باريس فمثَّل لي نوعًا من مرفأ أمان، وأُخذت به أي مأخذ، وكان أول مقال كتبته في باريس، في مجلة الوحدة وكانت شهرية، عن هذا الكتاب. أشدت به وبثورته المنهجية، وأذكر أنني قلت بالحرف الواحد: هذا كتاب من يقرأه لن يعود، هذا كتاب ليس فقط يثقف بل يغير، فمن يقرأه لا يعود كما كان قبل أن يقرأه. ومن ثم قامت علاقة صداقة بيني وبين الجابري، هنا قلت لك كانت خيانتي أنا نفسي. لماذا؟ لأني مع الأسف لا أريد أن أقول تفاصيل طويلة، هناك شاهد كان يعتمر في نفسي، الوحيد الذي كان لي مأخذ نقدي عليه، إنه لما درست في الجامعة في قسم اللغة العربية مر علينا إخوان الصفا ودورهم وكان عندي انطباع أنهم أناس خدموا الثقافة والفلسفة، لم تكن الصورة المتكونة في ذهني عنهم صورة سلبية، والصورة التي رسمها الجابري لإخوان الصفا سلبية سوداء إلى أقصى حد. هنا المأخذ الوحيد. وكان عليَّ أن أعيد قراءة رسائل إخوان الصفا، فتفاجأت أن الشواهد التي استشهد بها الجابري من إخوان الصفا شواهد مغشوشة. وهو موضوع كبير. وقال عنهم إنهم ضد الفلسفة وضد المنطق وقالوا إنه يجب أن يلغى المنطق في التعامل بين البشر. وأنا فوجئت عندما حصلت على المجلدات الأربعة من الرسائل، فوجئت من بداية فهرستهم لكتبهم يقولون: “يقوم المنطق للعقل مقام النحو للسان والكلام”، كما يحتاج الإنسان إلى النحو ليكتب ويتكلم يحتاج العقل للمنطق من أجل التفكير. وعندما بدأت قراءة الرسائل، إذا بهم يشرحوا في الرسائل من العاشرة إلى الخامسة عشر ويخصصونها لشرح الفلسفة، ويشرحون كل كتب أرسطو ومقولاته ويخصصون إحدى رسائلهم للبرهان لكتاب البرهان الذي يعتبره الجابري قيصر التفرقة بين البرهان والعرفان، فازداد تعجبي إلى أن وصلت إلى الرسالة 43 حيث أفردوا للمنطق فصلاً جديدًا وهو ضمن دراستهم عن اللغة ضمن تقيمهم للغة البشرية بواسطة التفاعل الإنساني الأول. باللغة صار الإنسان إنسانًا وهذا يذكر بكلام أرسطو. الإنسان حيوان ناطق. ولكنهم قالوا: اعلم إنه لا اجتماع بدون لغة، ولكن كنا حدثناك في رسائلنا الأولى عن المنطق بمعناه الفلسفي ولكن اعلم أن هناك أيضًا منطقًا بالمعنى اللفظي هو منطق اللسان ليس فقط منطق العقل والحال، إن الناس بحاجة إلى هذا المنطق لكي يقوم بينهم الاجتماع، والعقد الاجتماعي يقوم على الكلام، ولكن هناك نفوس شفافة روحانية لا تحتاج إلى المنطق للتفاهم وقد تتفاهم بلا منطق. والكلام هنا عن المنطق اللفظي وليس المنطق الفلسفي وجاء الجابري وقال إنهم أناس ضد المنطق لأنهم قالوا إن الناس تستطيع أن تستغني عن المنطق.
ع. ش.: هل قال ذلك خطأ أم عن تعمد، وهل هناك مبرر؟
ج. ط.: أعتقد أنه لم يقرأ رسائل إخوان الصفا، لا يمكن أن يكون قد قرأها، من أول الرسائل وهم يقولون يا أخانا في الروح، ولما ينهوا كلامهم عن المنطق في الرسالة العاشرة، وهم لما ينهوا المقال يقولون: “والآن يا أخي بعد أن فهمت المنطق وامتلكت وسيلة التفاهم معنا، فالآن جاري تفهمنا نحن لأن المنطق وسيلة بيننا لنتفاهم”. لا يمكن الآن أن يكون قد ارتكب خطأ من هذا القبيل، وأنا فرضيتي الأساسية أنه لم يقرأ إخوان الصفا لا من قريب ولا من بعيد، وقع على شاهد يقول إنهم ضد المنطق والمقصود المنطق اللفظي. وهنا أخذت قرارًا بتتبع شواهده، وهنا بدأ مشروعي مع الجابري.
ع. ش.: أخذت وقتًا طويلاً في نقد مشروعه، لماذا لم تستغل هذا العمر في بناء مشروع جديد؟
ج. ط.: لا دعني أقول إنني اشتغلت ربع قرن مع الجابري، أعدت تفكيك جميع شواهده ووقعت على عشرات الشواهد المغلوطة والمقطوعة من سياقها والمفسرة من غير سياقها. ولكن ما الذي قدَّمه لي الجابري وأنا له ممتن على كل ما وقع بيننا. أجبرني على إعادة ثقافتي التراثية أنا ابن القومية والوجودية وابن الماركسية وابن التحليل النفسي. طبعًا درست في الجامعة الأدب العربي وأعشق الشعر العربي، ولكن لم يكن لي مدخل للثقافة التراثية مثل كتب الحديث والفقه وعلم الكلام، فأنا أشكر الجابري لأنه أجبرني على قراءتها. لم أكتف بالرد على الجابري، بل أعدت بناء ثقافتي التراثية وأعتقد أنني قدمت مشروعًا جديدًا. كل نقد يتضمن بناء. النقد ليس مجرد تفنيد. لا تستطيع أن تنقد إذا لم تبنِ ما تنقده، أعتقد أنني اشتغلت على البناء وفي الجزء الأخير من مشروعي والذي استغرق مني خمسة أجزاء من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث أعدت طرح السؤال الكبير: ما الذي هزم العقل العربي الإسلامي، لماذا تحول من عقل حضاري بنى واحدة من كبرى الحضارات إلى عقل صنع التخلف، ما هي الآليات التي قادت هذا العقل للانكفاء على ذاته وتحول من أداة فاعلة في التاريخ إلى أداة مفعول بها إذا جاز التعبير؟ أعتقد أن من يقرأ الكتاب يجد المفاتيح الأساسية لهذا التحول أو لهذه القراءة. ولذلك أيضًا لم أدرج الكتاب رسميًا في مشروع نقد نقد العقل العربي لأن حضور الجابري في هذا الكتاب ضئيل جدًا. لأن نظريتي في النهاية والتي بنيتها عن الجابري أسميتها نظرية حصان طروادة. والجابري يقول: تسللت أنظمة اللامعقول من غنوصية وهرميسية وأفلاطونية مشرقية إلى داخل قلعة العقل العربي الإسلامي ودمرته من داخله بواسطة غزوه على طريقة حصان طروادة، مسلحة من خارجها بسلاح العقل ومن داخلها أشعة اللامعقول، هذه نظرية الجابري. ما وصلت إليه في كتابي أن كل هذه الدعاوى عن غزوة خارجية غير صحيحة تاريخيًا ولا معرفيًا، وأن الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وإلى غروبه في الحضارة الإسلامية هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش ذاتي لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية. أنا أحمِّل هذا العقل مسؤولية ما آل إليه. وبالتالي أراهن على هذا العقل كي ينتفض على نفسه وأن يعيد تأسيس نفسه في عقل منفتح ومتقدم على الحضارة من جديد. وفي هذا الكتاب بنيت تصوري الجديد، بين القراء من سيعتقد إنه مجرد رد على الجابري. لكن لا يوجد نقد من دون إعادة بناء.
ع. ش.: تتحدث في كتاباتك عن التراث بصفته الأب، هل تعتقد أن المثقف العربي اهتدى إلى أبيه المفقود؟
ج. ط.: لم أورد هذه النظرية في مشروعي عن الجابري، لكن أعتقد في كتابي المثقفون العرب والتراث. التحليل النفسي لعصاب جماعي، قضية الأب المفقود أو الأب المبحوث عنه جاءتني من الفرويدية، جيلنا هو جيل هزيمة 67، وهزيمة 67 أخذت بمنتهى الصراحة بعدًا خصائيًا. المثقفون العرب شعروا أمام إسرائيل انهم أصيبوا بنوع من الخصاء، وزاد ذلك، ولأكن صريحًا في عباراتي، أن الخصاء الذي وصلهم ليس عن طريق الأب وإنما على يد أم شريرة هي إسرائيل تملك قضيبًا مزيفًا هو التكنولوجيا وخاصة الطائرات. وأمام هذا الرعب والشعور الهائل، إذا بهم يتحولون، الماركسيون وحتى المسيحيون، إلى التراث العربي الإسلامي ويعتبرونه الأب الحاني الذي يمكن أن نحتمي به من هذه الأم الخصاءة. وقعت ردة في التفكير، بدلاً من أن نفهم ما حدث ونتقدم نحو الحداثة، للاحتماء بالتراث كأنه أب حان ينقذنا من هذه الأم الشريرة. ومن هنا استخدمت هذا التعبير للبحث عن أب حان. طبعًا في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى الآباء ولا إسرائيل أم شريرة، هي عدو ولا يجوز أن تكون أمًا حتى لو كانت أمًا شريرة، وبالنسبة لي التراث أدى دوره ككل أب، ودور الأبناء والأحفاد أن يؤسسوا أنفسهم وليس أن يدعوا أنفسهم من جديد تحت حماية الأب الحاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.