[email protected] التداعي الذي إنتهى إليه حال الحكم في هذا الوطن لا يحتاج لمن يذكر به فهو شاخص و ماثل يتحدث عن ذاته ، فالأحلام و الأشواق تنزف بإستمرار في مشاهد مؤلمة و عجز تام من الجميع ، فئة تتربع في مفاصل السلطة تذود عن حظها لأن بيديها مفاتيح كل شيء و أخرى خانعة مستأنسة تؤدي أجمل العروض في سيرك الحياة لتمتع الفئة الأولى ، نحمد الله أن اليأس لم يتمكن من الجميع فهناك جهد فردي يتم هنا و هناك يمثل ضوءاً يستهدي به الناس و يتحسسوم مواطىء الأقدام في هذا النفق . للأسف يستقيل الناس طواعية من الحياة فيتخلون عن كل ملذاتها لأنهم لا يملكون لها المال و الوقت اللازمين و نأسف مرة أخرى لانعدام الوصفة التحيل الجمر إلى رماد بطريقة مجانية ، فثمة يقين بأن هناك ثمن يجب أن يُدفع و دين يُنتظر أن يؤدى. قاع المجتمع يغلي في الجانب المقابل لجمر الواقع و تدور الرحى مباشرة على معاش الناس فتسحقهم سحقاً و لا سبيل يكف الأذى سوى التطلع لدور ما تؤديه النخبة المثقفة و المستنيرة ، لكنها هي الأخرى تتوارى خلف الأسوار لتمارس عادتها السرية في إلتهام فتات الموائد ثمناً و عمولة لتثبيط الهمم و تحتكر التفكير و التبشير بخيرية الجن القديم على الجديد !! و كأننا بحاجة لجن من الأساس. لا أحد يحب أن يرى وطنه يهوي إلى الحضيض بينما الآخرون يسابقون الزمن لتحصيل أسباب النهضة و الرفاه و حتى دعاتنا المبجلون يبتزوننا في خطبهم بأن ما حاق بنا يكافىء صنيعنا و في أفضل الأحوال وعودٌ بالجنة لأن الدنيا سجن المؤمن !! هذا التخليط الفج و تحميل النص المقدس أكثر مما يحتمل لتجنب الصِدام مع آسرنا العزيز الذي يحتسي كؤوس الهناء من دماء البسطاء و يقتطع ثمن رفاهه من قوت الناس . نحن الجماهير علينا أن نشُد بعضنا بعضاً لنطفىء هذا الحريق و نستشرف المستقبل بعمل ذي أثر في حياتنا دون إنتظار سحابات لن تمطر سوى المشروعات العوراء و الكسيحة التي حُرق لها البخور و ذبحت لها القرابين و أقيمت لها الصروح و هي لم تعد إلا سرآباً يلهث الناس خلفه و هيهات أن يُدَرَك إنه التقذييف ( من القذافي ) الذي يتغنى ببناء ليبيا و حل مشكلات العالم في كتابه العجيب و يا للمصادفة فخضراء الدِمن هنا تماثل التي هناك لوناً و شكلا. من هذه الصروح الحكم المحلي حجر الزاوية في التنمية البشرية و حُسن إدارة الموارد ، يمس عصب الحياة و يُناط به تقديم الخدمات للمجتمع و حفزه على الإنتاج لتحقيق الرفاه ، إلا أن النتائج الكارثية التي افضت إليها التجربة تمثل رِدة كبيرة لا يمكن جبرها بحال من الأحوال فمفهوم الحكم كقيمة تضاءل و بهت لونه و صار ضرباً من اللهو ، حتى بلغ التلكؤ مداه إذ لا قيمة للزمن و لا الموارد ، هذا المشهد في الحواضر و الأرياف فلا فرق بين القرية و المدينة فهما سيان شكلاً و حال ، إنحسر الريف المنتج و تحولت المدن لتجمعات بشرية تعجز الحكومات المحلية على التوسع في البرامج التي تستوعب إحتياجاتهم و تفي بمتطلبات العيش و الحياة . يزداد الوضع سوءاً و تعقيداً كلما يممت وجهك شطر الأقاويم و الولايات فهناك من يتربع على رأس المنظومات الإدارية و هو عاجز يلقي باللوم على الآخرين بتسميتهم صراحة أو توهمهم في عوالم اللا محسوس . لا أحد يقدم على إمتهان مهنة دون أن يحيط بها علماً فالخياط لا يباشر هذه المهنة دون أن يتدرب و كذا الحلاق لا يعيث فساداً في شعر الناس لمجرد أنه يعشق هذه الصنعة ، لكن الحكم يمارسه الجميع حتى الفاشلون في إدارة شأنهم الخاص لا يخشونه فتحور من أداة يتسنمها المرء أمانة في عنقه - في الفانية و يوم يقوم الأشهاد – تحول إلى حظ من متاع الدنيا يتقدم المال و البنين و القناطير المقنطرة لأنه يأتي بهم اجمعين ، صار الحكم دمية في ايديهم يلهون بها متى شاءوا بلا اعتبار لأي شيء و كأن المحلية ، الولاية ، الوزارة ضيعة أو تركة ورثوها – و لو إذا سلمنا جدلاً بأنها كذلك – فهل يجوز أن تؤتىء للسفهاء ؟ و ليس من سفه أكبر من هذا إذ يُسند الأمر لغير أهله إلى هذه الدرجة !! تحول الحكم لحلوى توزع للمشاغبين (طقاقين الحنك ) في سوح السياسة و المتسكعين على ارصفة الزعامة ، بلا مواربة صار غنيمة توزع لتسوية نزاع و تأليف قلوب و تبديل ذمم و شراء مواقف !! إنه ضربة لاذب يحظى صاحبها بفاصل رقصٍ دستوري إلى حين و هو فقير معرفة و كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير ، فيفعل الأفاعيل و لا حدود لمغامراته و لا حسيب ، فهو فوق الطبيب و الإداري و المهندس و الناس أجمعين إلا رصفائه الدستوريين . لا يخضعون لقانون محاسبة العاملين و لا يتم إنتخابهم و ليست هناك مجالس تشريعية على المستوى المحلي تأطر ما يقومون به ، يختزلون مهام مناصبهم في التعبئة و حشد القطاعات (مرأة ، طلاب ، شباب ) بمناشط يطغى عليها الطابع العبثي أكثر منها أعمال جادة تعود بالنفع على أحد ، حتى تجسد الحال في قول الشاعر :جمعتُ أمرينِ ضاع الحزمُ بينهما تِيه المُلوكِ و أفعال المماليك ، إنه التيه بعينه فالمعتمد يظن أنه بكل شيء عليم و على كل شيء قدير – سبحانك ربي – أما القوة و الأمانة فهذا دور التعساء و بطانة السوء التي حذقت هذه الأدوار فتسوق الغث و تصنع الفراعين الجدد ، هذا في شأن الملوك ، أما أفعال المماليك فلم يخطر ببال أحد أنها تشابه حال سكان المحليات الطرفية و القصية ، إذ يحولها المعتمد لإقطاعية يثقل كاهلها بإحتياجاته المتنامية و شهواته العارمة لإمتصاص مواردها و توظيفها فيما لا يفيد ، إنه أمير في بلاط لا يُسأل و لا يُراجع و بيده عبارة جاهزة تقصم ظهر أي أحد ممن يقف في طريقه للسيطرة التامة بإختصار هو رئيس لجنة الأمن و بيده قلم ملون لا يأتيه الباطل من كل حدب و صوب !! في عرفه لا اعتبار لقانون و لا لائحة كل موظفي الدولة معاول مُسخرة لإعانته فيما يريد و عليها تطويع النصوص لتتماشى مع أهواءه و نزواته و ليس القانون ، حتى وصل الأمر لتجاوز الإجراءات المالية و المحاسبية و التصديق خصماً على القلم الأخضر عند نفاد بنود الميزانية . ليس بالضرورة أن يكون الجميع بهذه البشاعة لكن الإستثناء لا قيمة له و التميز نافلة لا تعني أحداً طالما يقع الحيف و الضيم على الناس فإذا تحقق إنجاز في بقعةٍ ما فهو مغامرة صيّاد يخطىء و يصيب مصادفة . لقد بلغ الوعي الإنساني مراتب تقارب الكمال في شأن الحكم ، لا مساحة للتجريب و التخبط و المزاجية فالحكم الراشد مُنتج محسوب الكلفة يماثل الإنشاءات الهندسية ، لا مجال فيه للخطأ ، لذلك – إن صحت المقارنة – يكون حال حكامنا كبناة الجالوص يشيدون و يحطمون ليبدأوا من جديد دون أن يرف لهم جفن إنه الحكم غير الرشيد في أبهى تجلياته .