هشام منوّر ظلت العلاقة بين «الفقيه» و«السلطان» أو «السياسة» مهجوسة بموقف كل منهما من الآخر ومدى هيمنة ونفوذ أحدهما على الآخر. فالعلاقة الطردية بين الطرفين، والتي يتهم فيها الفقه السياسي السني دوماً بالرضوخ للسياسة وألاعيبها، والانحياز إلى السلطان ومحاولة تنزيهه عن الخطأ والخطل، وتفضيل مفهوم «الوحدة» و»الأمة» على مفاهيم «التعددية» و»الحرية» السياسية، ظلت إشكالات لم تجد لها مقاربات فقهاء العالم السني حلولاً منطقية لها، واتهم على إثرها بإشاعته للاستبداد مقابل «الشورى» وهو المفهوم السياسي السني الذي تم تفريغه من مضمونه من خلال جعلها «معلمة» لا «ملزمة». يحاول كتاب «أزمة الفقه السلطاني في القرن ال21…إشكالية الطاعة في عصر الثورة» لمؤلفه الباحث محمد المهدي ولد محمد البشير، والصادر عن «المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية»، رصد العلاقة بين الفقه السلطاني وتحديد معالم أزماته في ظل ثورات الربيع العربي وموجاته المتلاطمة. ويفتتح المؤلف كتابه بالإشارة إلى أن رسالة الإسلام جاءت «ثورة شاملة» لتحرير البشرية من كل القيود، وكل أساليب الطغيان والاستبداد سواء كانت مادية أو روحية، وأن هذا المنهج التحريري هو الذي ظل يحكم المسلمين إلى أن بدأت القطيعة مع نموذج «الدولة الراشدة» مع بداية العهد الأموي، وتحولت الخلافة بعد ذلك إلى نموذج الملك العاض، وهي محاولة من قبل المؤلف لا تكاد تخلو من إسقاط لم يكد العقل السني يتخلص منها ويسعى لمقاربته تاريخياً. يحاول الباحث من خلال تتبعه لنصوص الوحي وما كتبه علماء الفقه السياسي الإسلامي أن يكشف عن منطلقات «النظرية السياسية الإسلامية» وخصائصها، حيث يحدد تلك المنطلقات في عشرة منطلقات أساسية، تدور حول ثنائية «وحدانية الخالق المعبود»، و«كرامة الإنسان الخليفة»، أما الخصائص، فيحددها الكاتب في أربع عشرة تدور حول ثنائية «سيادة الشرع» و«سلطان الأمة». ويرى الباحث أن الفقه السياسي الإسلامي يعاني منذ قرون من أزمة منهجية خانقة، تتجلى ملامحها في عجز الفقهاء عن صياغة «نظرية إسلامية واضحة المعالم في مجال السياسة والحكم»، إضافة إلى خلطهم بين المبادئ والتطبيق، وانشغالهم بتبرير الواقع والدفاع عن انحرافاته بدل التنظير لتغييره، وذلك ما أوقعهم في جملة من الأخطاء المنهجية الكبرى، من أهمها تسويغهم لحكم المتغلب وإضفاء الشرعية عليه، وإسقاطهم لحق الأمة في اختيار من يحكمها من خلال إفتائهم بانعقاد البيعة برضى الواحد والإثنين، وقياسهم البيعة على عقود الزواج وعقود البيع، ومنها جعلهم الشورى «معلمة غير ملزمة» ما حرف الفقه السياسي الإسلامي عن أصوله النظرية وانقلب إلى نقيضها، وأصبح ملكاً جبرياً. لا يخلو المبحث الثالث من تكرار حينما يتناول الباحث «فكرة الدولة ومراحل تطورها»، فيرصد مراحل نمو الحس الإنساني بضرورة التعاون والاجتماع، وتطور ذلك الحس في شقه العملي من الأسرة إلى نظام القبيلة إلى التقري، وهكذا حتى وصل أخيراً إلى فكرة الدولة. ثم يناقش فكرة موقف الجماهير من الحاكم وتصورها له، وتطور ذلك الموقف من نظريتي التأليه والحق الإلهي إلى نظرية العقد الاجتماعي. أما المبحث الرابع فقد عاد المؤلف لاستجرار الحديث عن تاريخ تطبيق «نظرية الحكم الإسلامي» (دولة الخلافة)، والتي بلغ تطبيقها نموذجه المثالي في فترة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه الأربعة، ثم بدأ الانحراف عن دولة الخلافة الراشدة إلى دولة الأمر الواقع يوم أعلن الحسن رضي الله عنه تنازله عن الخلافة لمعاوية حقناً لدماء المسلمين وجمعاً لكلمتهم، وبايعوا معاوية لا رغبة فيه بل رضوخاً للواقع. وبعد استطرادات تاريخية رأى فيها الكاتب تمهيداً لمبحثه الرئيسي، ناقش المؤلف «إشكالية الطاعة في عصر الثورة»، فيورد أدلة الفقهاء الذين ألزموا بطاعة «الإمام برا كان أو فاجرا» ويحاول تفنيدها، ويورد كلام ابن تيمية في أن الطاعة للشريعة وليست لأحد في حد ذاته، وإنما يطاع الحاكم إذا أطاع الله، وأن «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». ثم يبحث الكتاب في مسألة الخروج على الحاكم، فيبن أن الحاكم إذا كان قد وصل إلى الحكم عن طريق بيعة شرعية من طرف الأمة فلا يجوز للأفراد أن يخرجوا عليه، أما إذا خرج عليه غالبية من الجماهير فذلك يعتبر من باب الخلع وحل البيعة، وهذا حق للأمة كفلته لها نصوص الشرع، من دون أن يبين مفهوم البيعة الشرعية وجوهرها، والفرق بين خروج أفراد أو غالبية الجماهير (كما سماهم) على الحاكم، إما إذا كان الحاكم غير شرعي واغتصب الحكم، فإن الخروج عليه وخلعه إذا توفرت الإمكانات والقدرة يصبحان في حكم الوجوب، من دون ملاحظة أن هذا الوجوب الشرعي يعني الإثم في حال التقاعس عن تحصيله وفق الفقه الإسلامي. وبصرف النظر عن الملاحظات الشكلية التي اكتنفت الكتاب من أوله إلى آخره، وابتاعه أسلوباً كلاسيكياً في نقد الآراء والأفكار المطروحة من قبل العلماء السابقين، تغلب الانتقائية على الباحث في عرضه للنصوص والمواقف، ويركز في استعراض الفقه السياسي على أفكار كل من الماوردي والفراء وابن جماعة، ويغيب عنه مفهوم «التفهم» في شرح أسباب خروج مثل تلك الفتاوى والمواقف السياسية، فضلاً عن غياب الإشارة إلى محاولات تجديد الفقه السياسي السني في عصور عدة، وتسرعه في إطلاق الأحكام من دون استعمال مبدأ الاستقراء الأصولي. والحال أن الفقه الإسلامي السياسي بشقه السني المعني بالتأصيل للثورات العربية وحركاتها، لا يزال عاجزاً عن مجاراة ما جرى ويحدث ويفضل التركيز على الشق الميداني من نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة التي اختار بعضها حمل السلاح في كل من سوريا والعراق وغيرهما من البلدان العربية، فاكتفى بدور «شرعي الحركة» بعد أن كان «فقيه السلطان»، وبات همه إفتاء ممارسات الجماعات الإسلامية بعد أن عجز عن التأصيل لما جرى، واجتراح تجديد سياسي لتراثه الفقهي.