السودان الكبير، بشماله وجنوبه، لا يزال يُكابد ويدفع مواطنوه في البلدين ثمناً باهظاً جرّاء تقسيم البلاد بعد إجهاض اتفاقية السلام الشامل، عادت مرة أخرى دعوة لتقرير مصير جزء آخر من شمال السودان، تطل برأسها لتزيد الأمور ضغثاً على إبالة، لم تنس الطبقة السياسية في الحكم والمُعارضة شيئاً، ولم تتعلم شيئاً حتى من دروس الأمس القريب وعواقبها الكارثية التي لا تزال شاخصة. فقد أعلن فصيل منشق من الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال السودان، التي تنطلق من قواعد تسيطر عليها في منطقة النوبة بجنوب ولاية كردفان، في ختام مؤتمرها العام الأسبوع الماضي تبني خيار تقرير المصير، ولو قاد ذلك إلى انفصال المنطقة عن السودان، وقد أعاد تجدّد هذه الدعوة السيناريو الذي تبنّته الحركة الشعبية الأم بزعامة جون قرنق التي كانت تطالب بإعادة توحيد السودان على أسس جديدة أو إعطاء شعب جنوب السودان حق تقرير المصير، وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد وانفصال جنوب السودان في دولة مستقلة. وجاءت هذه الخطوة ضمن سلسلة تطوّرات داخل الحركة الشعبية/ شمال، بزعامة مالك عقار، والتي كانت جزءاً من الحركة الشعبية الأم قبل انفصال جنوب السودان، ليرث فرعها في شمال السودان أطروحاتها نفسه، انطلاقاً من أجزاء كان يُسيطر عليها الجيش الشعبي التابع للحركة في منطقتي جبال النوبة بجنوب كردفان، المتاخمة لدولة جنوب السودان الوليدة، وجنوب النيل الأزرق بشرقي السودان المتاخمة لإثيوبيا. وكان تمرد «الحركة الشعبية / شمال» في المنطقتين ضد الحكومة السودانية قد اندلع في جنوب كردفان في يونيو 2011، أي قبيل شهر واحد من انفصال الجنوب، وبعدها ببضعة أشهر لحق التمرد بجنوب النيل الأزرق في سبتمبر من العام نفسه، وبدلاً من أن ينتهي تقسيم السودان في يوليو 2011 ، بأن يكون جراحة قاسية لحل الصراع وإيقاف الحرب الأطول في القارة الإفريقية، قلد إلى إعادة توليد الأزمة الوطنية مرة أخرى في الجنوب الجديد لدولة شمال السودان، في سيناريو مكرّر للأسباب نفسها التي قادت إلى تعميق المشكلة السودانية بسبب عجز الطبقة السياسية على مدار عقود الاستقلال الستة عن استيعاب الطبيعة المتعدّدة للبلاد في نظام عادل ومتوازن يحقق العدالة والاستقرار. وكشأن السياسة السودانية التي لا يبدو فيها أحد مستعد لتعلم الدروس أجهضت الحكومة السودانية اتفاقية تسوية توصِّل إليها في أديس أبابا بعد أسابيع قليلة من اندلاع التمرّد في جنوب كردفان أواخر يونيو 2011 بين نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم حينذاك نافع علي نافع ورئيس الحركة الشعبية شمال مالك عقار في مفاوضات جرت في أديس أبابا كادت أن تطفئ لهيب التمرد الجديد، إلا أن عناصر متشدّدة في الخرطوم أبطلت الاتفاق، لتلحق النيل الأزرق بالتمرّد، ولتدخل البلاد من جديد في دوّامة هلال تمرّد ممتد من جنوبي شرق البلاد، وجنوبها الجديد، ودارفور غرباً التي كانت الحرب فيها اندلعت قبل ذلك ب 8 سنوات. وأرهق استمرار الحرب المواطنين في المناطق المنكوبة، وفي بقية السودان الذي أصبح أسيراً لاستدامة الحروب والنزاعات بكل كلفتها الإنسانية والتنموية، وانقضت 6 سنوات أخرى في معارك قتالية تسخن جبهاتها مرات، وتبرد أخرى، مع تواصل سلسلة جولات تفاوض غير منتجة برعاية الاتحاد الإفريقي يقودها رئيس الآلية رفيعة المستوى ثابو إمبيكي بلا جدوى، وقاد جمود الأوضاع، وتزايد الضغوط الإنسانية في ظل عجز تام لتدخلات المجتمع الدولي عن إحداث أي اختراق في المواقف المتصلبة. أدى هذا الجمود إلى تفاعلات داخلية في الحركة الشعبية شمال في مناطق جبال النوية التي تمثل عصب ومركز قوة الجيش الشعبي، ومع انسداد الأفق قاد عبد العزيز الحلو رئيس أركان الجيش الشعبي السابق، ونائب رئيس الحركة انقلاباً ضد قيادة عقار، وياسر عرمان أمين العام للحركة، وحظي بدعم وتأييد متزايد في أوساط قاعدة الحركة في جبال النوبة الذين تبنّوا الدعوة لتقرير المصير، على النسق ذاته الذي شهدته الحركة الشعبية الأم في العام 1991 تحت اللافتة نفسها، والذي قاده لام أكول ورياك مشار ضد زعامة قرنق لتغليبه شعار السودان الموحّد بأسس جديدة على مطالب الانفصال. لقد جرى التعاطي مع شعار تقرير المصير عندما أُطلق لأول مرة بالكثير من الاستخفاف والتقليل من شأنه، ودعمت الخرطوم المنشقين إضعافاً لخصمها جون قرنق، وأبرمت معهما اتفاقية الخرطوم للسلام التي كرّست لخيار تقرير المصير في العام 1997 كموقف تكتيكي للضغط على جون قرنق، لكن سرعان ما أصبح تقرير المصير هو الطرح الأقوى حضوراً في الساحة، وتمكّنت الولاياتالمتحدة من فرضه عبر اتفاقية السلام، ويبدو الآن أن السيناريو نفسه يتكرّر، فالخرطوم المنزعجة من قيادة عقار وعرمان، تبدي تعاطفاً خفياً مع الحلو، ولكن لا شيء يمنع أن يُعيد التاريخ نفسه مع كل ما تبدو عليه الفكرة من عدم معقولية مع فشل تجربة التقسيم، وفي ظل عدم الاستعداد للتعلم من تجارب الأمس القريب، والاستعداد لدفع استحقاقات تسوية تاريخية سيظل السودان يتعرّض لتكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد في مقولة منصور خالد.