حضر (غاضبون) وغاب (درع السودان) وآخرين    السهم الدامر والهلال كريمة حبايب في إفتتاح المرحلة الأخيرة من الدوري العام    شاهد بالصورة والفيديو.. تيكتوكر سودانية تثير ضجة غير مسبوقة: (بحب الأولاد الطاعمين "الحلوات" وخوتهم أفضل من خوة النسوان)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تظهر بدون "مكياج" وتغمز بعينها في مقطع طريف مع عازفها "كريستوفر" داخل أستوديو بالقاهرة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    "الجيش السوداني يصد هجومًا لمتمردي الحركة الشعبية في الدشول ويستولي على أسلحة ودبابات"    يبدو كالوحش.. أرنولد يبهر الجميع في ريال مدريد    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    غوغل تطلب من ملياري مستخدم تغيير كلمة مرور جيميل الآن    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    وجوه جديدة..تسريبات عن التشكيل الوزاري الجديد في الحكومة السودانية    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    (برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصادق الشامي ينشر تجربة تعذيبه في بيوت الاشباح
نشر في حريات يوم 26 - 06 - 2011

نشرت ( نشرة الحقوقي) افادة الاستاذ الصادق الشامي المحامي عن تعذيبه ببيوت الاشباح .
و(حريات) تعيد نشر الافادة وتؤكد على الدعوة لكل المعذبين بتسجيل افاداتهم ، خصوصا وان التعذيب لا يزال مستمراً .
إفادات:
الصادق سيد أحمد الشامي المحامي
شباب في مقتبل العمر عذبوا حتى الموت فما ضعفوا ولا وهنوا وذهبت أرواحهم فداءً لهذا الوطن ونذكر منهم د. علي فضل ومنهم من وضع في برميل ملئ بالثلج حتى تجمدت أطرافه وتلفت شرايينه فبترت ساقه ونذكر المحامي عبد الباقي عبد الحفيظ وتعرض الكثيرون لأصناف وأساليب ونماذج من التعذيب لا يقرها ضمير حي ولا دين ولا قيم ولا خلق سوي.
ونخشى أن تضعف ذاكرة التاريخ وتضيع الحقائق والوقائع الثابتة في خضم الأكاذيب والترهات وصناعة التزييف.
فبعد فترة وجيزة من استشهاد د. علي فضل سأل الصحفي والكاتب فتحي الضو العقيد يوسف عبد الفتاح في 9/5/1990 عن موت د. علي فضل بالتعذيب في السجن فكانت الإجابة (هذه إشاعات لقد مات بالملاريا). ومنذ فترة وجيزة سئل أحد قادة النظام عن حقيقة بيوت الأشباح وما كان يمارس فيها من تعذيب جسدي ومعنوي فكانت الإجابة مرة أخرى (هذه إشاعات) .
إن السكوت عن بيان هذه الحقائق يفتح المجال لطمسها ونسيانها ومن ثمّ ضياعها ولذلك لابد من تعرية وفضح جميع ممارسات التعذيب وكافة أوجه انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرات الحريات الأساسية توثيقاً وإثباتاً وتاريخاً لها.
لقد قرأنا في الصحف الصادرة خلال الأسبوع المنصرم خبراً عن استمرار نفس وسائل التعذيب لبعض الطلاب في جامعة أم درمان الإسلامية وفي غيرها مما يدل على إن هؤلاء الزبانية لا يزالون في طغيانهم يعمهون ومما يعني أن السكوت يغري بممارسة هذه البشاعات مرة أخرى وبأساليب جديدة ولذلك رأيت أن أنشر تجربتي إضافة جديدة قديمة لتجربتي د. فاروق محمد إبراهيم وعمار محمد أحمد سيراً على نهجهما، وأدعو الآخرين لتوثيق وتسجيل تجاربهم في هذا المجال.
معاملة السجون:
عندما وقع انقلاب الإنقاذ كنت مشاركاً في مؤتمر المحامين العرب في سوريا وعند عودتي إلى السودان في 4/يوليو/1989 اعتقلت في مطار الخرطوم لبضع ساعات وبعدها بعشرة أيام تم اعتقالي وحبسي إدارياً لمدة أربعة أشهر بسجن كوبر ثم أفرج عني لمدة أسبوع تم اعتقالي مرة أخرى لمدة أربعة أشهر أمضيتها بين سجن كوبر وسجن بورتسودان، ثم اعتقلت مرة ثالثة لمدة ثمانية أشهر. لقد أمضينا تلك المدة بسجن كوبر بأقسامه المختلفة وبسجن بورتسودان.
وأشهد بأنه طوال الستة عشر شهراً التي أمضيتها بين سجني كوبر وبورتسودان كنت وغيري من المعتقلين نتلقى معاملة عادية ولم نسمع أي سباب أو إهانات جارحة أو ألفاظاً نابية ولم يقع علينا أي اعتداء وكنا نعامل وتصان حقوقنا وفق لوائح السجن وقد كان ضباط السجون وأفرادها يعاملوننا بكل مودة واحترام طوال مدة الاعتقال.
تجربة بيوت الأشباح
صدمة البداية:
لقد جاء الاعتقال في المرة الثانية بعد منتصف الليل في 10/11/1989 وأخذت في عربة بوكس تايوتا وكان معي في نفس العربة المرحوم المهندس/ عبد الله السني والمحامي عبد الرحمن الزين والمهندس عبد الجليل محمد حسين وقد عصبت أعيننا حتى لا نعرف الجهة التي سوف نؤخذ إليها وتوالت علينا الإهانات والضرب منذ بداية الاعتقال فسأل المشرف على الاعتقال المرحوم المهندس عبد الله السني هل لك سكرتيرة وعندما أجاب بالنفي ضربه بمؤخرة البندقية بقوة على صدره ولقد ظل أثر تلك الضربة بارزاً وظاهراً على صدر المرحوم السني حتى فارق الحياة.
ثم بدأ سيل الإهانات والشتائم والألفاظ النابية دونما مبرر أو أي سبب ولقد تجملنا بالجلد وقوة العزيمة والصبر على المكاره .
وعندما وصلنا إلى مكان الاعتقال طلب منا أن نقف معصوبي الأعين إلى جوار أحد الأعمدة وبدأ الزبانية يركلوننا بأقدامهم وينهالون علينا ضرباً بالأيدي وعندما اعترضت على ذلك ضربني أحدهم بسوط على صدري وظهري فما كان مني إلا أن أمسكت ذلك السوط وأخذته منه بقوة تربال وتمكنت من نزعه منه ورفعت العصابة عن عيني فوجدت أنه يغطي رأسه بطاقية من صوف تغطي وجهه حتى ذقنه وليس به سوى فتحتي الأعين وليست بها فتحات للأنف أو الفم وسألني ماذا تريد أن تفعل لي هل ستضربني فأجبته بالإيجاب وخاطبته بألفاظ حادة يستحقها ولكني وجدت العذر في قوله سبحانه وتعالى:
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً) .
وكنا مظلومين ولقد ذهب الرد الحاد ببعض غيظ قلبي وبعد ذلك أرجعت له السوط فأحجم عن ضربي ولم يكررها مرة أخرى وبعد ذلك أجلسنا ولكني ندمت عليها لأن ذلك ليس من طبعي ولا خلقي وأجلسنا على الأرض معصوبي الأعين وإذا بمقادير كبيرة من الثلج والمياه الباردة تصب علينا بالجرادل وكان منظراً بائساً ومزرياً ومؤلماً للغاية.
وقد مكثنا على تلك الحالة باقي تلك الليلة وفي اليوم التالي أخذوني والثلاثة الذين اعتقلوا معي معصوبي الأعين إلى غرفة ضيقة وأغلق علينا بابها من الخارج وكنا نشعر بوجود مياه تحت أقدامنا وروائح نتنه وكريهة وحر شديد.
وبعد إغلاق باب الغرفة نزعنا الأربطة عن أعينا فوجدنا أننا محتجزون في دورة مياه قديمة بها مياه راكدة ولم يكن من الممكن أن نجلس في تلك المياه وهي تغطي حتى منتصف الساق.
وكان لزاماً أن نباشر في غرف تلك المياه وإخراجها من تحت باب ذلك الحمام القديم وبالفعل نزعنا ما كنا نرتدي من قمصان أو عمائم وجلابيب وبدأنا في شطف تلك المياه بغمس ملابسنا فيها ثم عصرها تحت الباب حتى تخرج تلك المياه الآسنة.
وللاستمرار في هذه العملية كان لابد أن تكون بالتناوب يقوم بها اثنان ويبقى اثنان على جانب لضيق المكان. لقد استمرت تلك العملية لمدة خمس ساعات متصلة وبعد أن انهكتنا وضعفت قوتنا تمكنا من نزح تلك المياه.
ولضيق الحمام لم يكن من الممكن أن نجلس نحن الأربعة فيه ناهيك عن رقود أو راحة واتفقنا على أن نتناوب بأن يجلس اثنان ويقف اثنان وهكذا.
وقبل أن يبدأ ذلك التناوب سألنا أحد الحراس من خارج الباب المغلق (هل تمكنتم من تجفيف أرضية الحمام؟) وعندما أجبنا بالإيجاب قال (مبروك ارتاحوا). وخلال دقائق معدودة بدأ تدفق المياه قوياً من ماسورة مكسورة قفلها أو مفتاحها خارج الحمام فقد قام الحارس بفتحه ليعود تدفق المياه لتملأ وتغرق المكان مرة أخرى.
رغم مرور هذه السنوات الطوال التي تزيد على الست عشرة عاماً لا يزال الشعور بالغيظ الكظيم العميق والألم الممض ينتابني ويؤرقني بسبب تلك التصرفات المهينة واللا إنسانية وأقسم وقتها لو كنا منه وقتئذ لقضى أحدنا على الآخر.
ورغم شعورنا بالألم والمهانة والغيظ إلا أننا قررنا عدم (شطف) المياه مرة أخرى حتى لا تتكرر العملية ويعاود فتح الماسورة وتصبح أمراً مسلياً ومتلفا لأعصابنا.
وامضينا ليلتنا تلك والجميع وقوف وظل الحال هكذا حتى عصر اليوم التالي.
واكتشفنا في تلك الليلة أن أي إنسان له قوة كامنة هائلة إن فجرها صار في مقدوره أن يتغلب على أصعب وأقسى الظروف. وأن يتعايش معها هل يصدق أحد أن يقوى شخص على الوقوف تحته مياه ترتفع حتى منتصف ساقيه يقاسم ثلاثة أشخاص آخرين ذلك الحيز الضيق ويغفو غفوة هي بين منزلتي النوم والصحو.
وفي عصر اليوم التالي فتح أحد الحراس الباب وسمح لنا (بشطف) تلك المياه وتنظيف الحمام. وبعد تجفيفه قمنا بعد بلاطات الحمام الصغيرة وكانت تسع بلاطات طولا وخمس بلاطات عرضاً، أي إن مساحة دورة المياه التي حشرنا فيها كانت متراً مربعاً ونصف المتر.
ولقد مكثنا في ذلك المرحاض الشديد الضيق المقفل بابه من الخارج بلا منفذ للتهوية سوى (شباك) جد صغير في أعلاه طوال مدة اعتقالنا في بيت الأشباح ذاك لمدة شهر كامل. وهؤلاء الزبانية الطغاة يسوموننا سوء العذاب ضرباً وركلاً بالأقدام وألفاظ نابية وجارحة وكل ذلك بغيا وعدواناً.
الطعام والشراب:
في حوالي الخامسة من عصر اليوم التالي أحضروا لنا أربعة (سندوتشات) من الفاصوليا وكانت مليئة بمقادير كبيرة من (الشطة) وعندما اعترضنا على ذلك قالوا هذا طعامكم لكم أن تتناولوه أو تتركوه فقمنا بإخراج الفاصوليا وأكلنا ما تبقى من الرغيف.
ولقد ظل موعد تناول تلك الوجبة الوحيدة ثابتاً طوال شهر قضيناه في بيت الأشباح وظل الطعام هو الفاصوليا الملغومة بالشطة التي تراكمت بقاياها داخل المرحاض ممل جعل لها رائحة نتنه تأذينا منها وتعايشنا معها.
أما عن مياه الشرب فحدث، ذلك أننا طوال تلك الفترة لم نشرب إلا من إبريق وضع في دورة المياه التي كان يسمح لنا بالذهاب إليها مرة واحدة في اليوم وهو لم يكن من نوع أباريق البلاستيك العادية وإنما كان علبة من الصفيح أو شيء من هذا القبيل ضغطت في وسطها وتركت بها فتحتان من الجانبين مثل النوع المستعمل في الخلاوي والأسواق الشعبية وهو إبريق صدئ وفي مكان ملوث وكنا نشرب منه مرة واحدة في اليوم.
وبذا أدى ذلك الحرمان من الأكل والشرب إلى أن فقدت شخصياً ثلاثين كيلو جراماً من وزني خلال شهر واحد. ورب ضارة نافعة.
قضاء الحاجة:
وإذا كان للوجبة الواحدة موعد ثابت فلم يكن لقضاء الحاجة مرة واحدة في اليوم موعد يحدده إلحاح الحاجة وإنما يحدده مزاج أولئك الحراس فيختارون لكل منا وقت قضاء حاجته وفق أهوائهم فقد يكون آخر الليل أو أول الصبح أو منتصف النهار أو أي وقت يحلو لهم وفي كل الأحوال فقضاء الحاجة كان محظوراً لأكثر من مرة واحدة في اليوم. ولقد حرصنا على أن تناول أقل قدر من المياه لعدم نقائها وحتى لا نضطر لاستعمال دورة المياه المحظورة علينا استخدامها إلا مرة واحدة في اليوم يحددها الزبانية كيفما اتفق ولا تحددها حاجتك.
وكانوا يخرجوننا من المرحاض حيث كنا ننقل إلى دورة المياه الأخرى معصوبي الأعين. وأذكر إنني كنت انتعل (سفنجة) وكانت لهم ممارسات صبيانية معها وهي أن يضغط الواحد منهم على آخر (السفنجة) أثناء سيري معصوب العينين مما يجعلني أتعثر حتى أكاد أقع على الأرض، فكان هذا مصدر فكاهة وتلذذ وسخرية لهم وأذكر في إحدى هذه المرات أنني تعثرت بشدة وكدت أقع على الأرض فكان تعليقه أن أمامي الحفرة التي دفنوا فيها د. أمين مكي مدني وأنا كنت أعلم أن د. أمين مكي مدني لا يزال بسجن بورتسودان وقد كنت معه في زنزانة واحدة أعلم أنه لم يطلق سراحه حتى تاريخ اعتقالي ولم ينقل لسجن كوبر ولذلك لم أعر الأمر أي اهتمام وبالتالي لم يتحقق للجلاد ما أراده منه.
التعرف على موقع أحد بيوت الأشباح:
في أحد المرات وأنا ذاهب إلى دورة المياه تلك رفعت عن عيني عصابتها لأتعرف على موقع الاعتقال فلفت انتباهي عدد كبير من الصناديق الصغيرة مكتوب عليها (لجنة الانتخابات القومية) فعلمت أننا معتقلون في مقر لجنة الانتخابات القومية وهو المنزل الذي يقع غرب المصرف العربي وحتما كان هذا أحد بيوت الأشباح.
ومما يثير الاستغراب أننا طوال تلك الفترة لم يتم التحقيق معنا سوى مرة واحدة وكانت أسئلة شكلية عن الاسم والعمر والمهنة ومقر السكن والمعتقد السياسي ولا شيء غير ذلك.
وكنت أعجب من ذلك التحقيق فكلها معلومات معروفة لجهاز الأمن وكنا نشعر بوجود معتقلين آخرين ولكن لم نكن نراهم وإنما كنا نسمع أصواتهم وحركتهم وبما أن جميع الحرس كانوا يرتدون الطواقي الصوفية الكاسية حتى الذقن ولم نكن نراهم ولا نرى المعتقلين وإنما نسمع أصواتاً وهكذا (جاء مصطلح بيوت الأشباح).
وجبات التعذيب:
وكنا نسمع مخاطبة الحرس للمعتقلين في الغرفة المجاورة. وكان أول اليوم يبتدئ بالمناداة على المرحوم بدر الدين لأخذ الوجبة الأولى وبالطبع لم نكن نعرف أي نوع من التعذيب يتعرض له ولكن كنا نشعر به يعود متألماً متأوهاً.
ثم كانوا ينادونه عند المغيب لأخذ وجبة المساء. ثم يخاطبونه بقولهم (تشكينا لعمر البشير خلي عمر البشير ينفعك هنا) .
وفي أحد المرات جاء متألماً ويبدو نازفاً وسمعنا طرقات على باب الغرفة المجاورة والحرس يخاطبونهم بعباراتهم المعهودة (مالكم يا وهم) فنقلوا إليهم حال بدر الدين وجاء الرد ( ما معاكم دكتور فاروق محمد إبراهيم خلو يعالجه) فرد عليهم فاروق بأنه دكتور في الزراعة وكان ردهم العجيب ( ما كلوا واحد) .
ولم نكن نسمع طوال تلك الفترة من أولئك الحراس سوى هذه العبارة الفارغة (يا وهم) .
السخرية المؤلمة:
كما ذكرت فقد كنا نعيش في ذلك المرحاض النتن بمساحته البالغة الضيق وافتقاره إلى التهوية ومع بواقي الفاصوليا المتراكمة وأجسامنا المتسخة وملابسنا القذرة ولم نكن قد سمح لنا بالحمام أو الاغتسال طوال تلك الفترة بخلاف ما قد نغسل به أفواهنا من ذلك الإبريق الملوث، ولا شك أن رائحتنا كانت منفرة ولكن أشد ما كان يحز في نفوسنا سخرية أولئك الحرس منا عند فتح الباب لمناداتنا لتناول (الساندوتشات) أو لأخذ أحدنا لدورة المياه فكانوا يجعلون أصابعهم على أنوفهم ويخاطبوننا بقولهم (أنتم بني أدمين أم جيف) وهم يعلمون أنهم سبب كل تلك القذارة وما نكابده من ألم ومشقة.
الحرمان من الراحة والنوم:
بالرغم من أننا كنا معتقلين في ذلك المرحاض الضيق والذي لا تزيد مساحته عن متر ونصف المتر المربع، وبالرغم من إننا كنا أربعة معتقلين في ذلك الحيز الضيق منعدم التهوية، وكانت تلك المساحة لا تسمح بان نجلس جميعاً فيها ناهيك عن الرقاد أو النوم، إلا أن أولئك الزبانية وللمزيد من إرهاق أعصابنا فقد حرصوا على القرع على الباب في فترات قصيرة متفاوتة وبصفة خاصة أثناء الليل كل ذلك بغرض أن نظل يقظين طوال الوقت ولا ننال حتى تلك الغفوة القصيرة. ومن المؤكد أنهم قد درسوا كل أساليب وأصناف التعذيب قبل أن يطبقوها علينا. أضف إلى ذلك عصب الأعين في فترات الخروج البسيطة لدورة المياه مما يعني حرماننا طول فترة الاعتقال من أشعة الشمس وانعكاس ذلك على صحتنا.
منع العلاج:
أنا شخصياً أعاني من ارتفاع في ضغط الدم ومن تضخم في عضلة القلب وأواظب على الكشف الطبي والعلاج لدى الدكتور القدير سراج أبشر.
ومنذ اليوم الأول أخطرتهم بذلك وبأني لم يسمح لي بأخذ الأدوية معي وطلبت منهم الاتصال بالأسرة لإحضارها ولكنهم رفضوا بصورة قاطعة وفي إحدى المرات أصبت بإغماء بسبب ارتفاع درجة الحرارة وانعدام التهوية فخبط الإخوة في الحمام على الباب بشدة حتى أتى من ينادي (مالكم يا وهم) فأخبره بالحاصل فقال (يعني أيه ما يموت أو تموتوا كلكم بتساووا شنو يا وهم) .
ومع الإصرار على خبط الباب والقرع بشدة فتحه لبعض الوقت إلى أن أفقت من تلك الغيبوبة وعلمت منهم تفاصيل الموقف التي ذكرتها وتم قفل الباب بعد ذلك ولكن لم يسمحوا لي بأي علاج أو بإحضار الأدوية المطلوبة.
منع العبادة:
ومنذ اليوم الأول طلبنا منهم السماح لنا بالوضوء وإخراجنا في أوقات الصلاة سواء فرادى أو جماعة لأداء الصلوات في أوقاتها. فكان الرد ( أنتم مالكم ومال الصلاة وهل أنتم مسلمون) يا سبحان الله ورددنا بتذكيرهم بقول الحق سبحانه وتعالى في سورة العلق: ( أرأيت الذي ينهي، عبداً إذا صلى، أرأيت أن كان على الهدى). ولكن ذلك لم يحرك فيهم ساكناً بل زادهم إصرارا واستكبارهم على منعنا من الوضوء والصلاة. ورفعنا أمرنا لله وشكوناهم له سبحانه وتعالى أمرنا. ونعلم أن الصلاة لا تسقط عن المسلم في كل الأوقات ولكن لم يكن من الممكن أداؤها في ذلك المكان القذر وعلى غير طهارة فأديناها في قلوبنا وقمت بقضائها بعد أن انتقلنا إلى سجن كوبر.
اللهم لا غل ولا حقد:
نحن نتعرض لكل تلك المعاناة وتلك الانتهاكات والآن وبعد كل هذه السنوات لا أجد في نفسي أي غل أو حقد على أولئك الحراس. فقد كانوا أدوات وقطعا من رقعة الشطرنج وأشعر أنهم ضحايا مثلنا تماماً قد غسلوا أدمغتهم وسيطروا على عقولهم ومسخوا شخصياتهم ونزعوا عنهم أدميتهم وأفهموهم أن كل الذي يقومون به إنما هو من أجل تمكين الإسلام والإسلام برئ مما يفعلون.
أنا أقول هذا ولا أعفيهم من المسؤولية ولكن أشعر أن المجرم الحقيقي والمسئول الأول هو الذي يحرك تلك الدمى الخشبية وهو الآمر بكل تلك الأفعال والموجه على فعلها وأياً كان موقعه في تراتيبه نظام الإنقاذ وهرمه وكل القابعين في قمة ذلك الهرم لأنهم هم الذين اختطوا منهجاً يستحل كل رام في سبيل استدامة سلطتهم. أولئك المسئولون هم الذين يجب أن تطالهم المحاسبة هم الذين وجهوا أولئك الصغار بلبس تلك الأقنعة واعدوا تلك المنازل (بيوت الأشباح) لممارسة أبشع أساليب إذلال الناس واحتقار آدميتهم، وقد كانوا يحضرون بأنفسهم ويشاهدون تلك الانتهاكات ولعلهم كانوا يستمتعون بأنين المعذبين وآهاتهم.
قوة العزيمة والإرادة:
لقد تمكن أولئك النفر من الجلاوزة والعسس والجلادين من تعذيب أجسامنا وإلحاق الأذى بها ولكنهم فشلوا في قهر إرادتنا أو النيل من عزيمتنا وكبريائنا والحق أقول أننا كنا كل ما زادت المعاناة والقهر قويت عزائمنا وازداد إيماننا بقضيتنا وازددنا إصرار على التمسك بكبريائنا وعجبنا لتلك القوة الخفية في الإنسان التي تجعله يصمد كل الصمود وينتصر على كل الأهوال والرزايا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.