يامحبوبى يامطلوبى ….. يامقصودى ياموجودى …. كن لى واجبر كسرى ….. وأغنى فقرى بالتدانى والوصال…. “عائشة الباعونية” بهدوء انسلت عائشة الباعونية خارجة من غرفتها تحاول عدم إيقاظ صغيرها الوحيد. جلست لطاولتها وتناولت ورقة وقلماً. وشيئاً فشيئاً سلمت روحها لهيامها وولعها، سالت قطرة دمع مالحة واختلطت بحبرها، كتبت بدمع ولهها وشوقها للحبيب المصطفى ففاضت أبيات قصيدتها عشقاً دامعاً. فتحت شباك الغرفة الوحيد فانسرب ضوء القمر لليلتها التي أكملتها في الدعاء والصلاة. رجعت لصغيرها الباكي ألقمته حنانها وحليبها وغفت بقربه قليلاً. صحت مفزوعة لتأخرها عن مواعيد سفرها لإحدى القرى القريبة تلبيةً لدعوةٍ تلقتها لإقامة ليلة إنشاد ديني ونقاش، تحركت بسرعة قبل أن تستوي الشمس على صدر السماء ويصبح من الصعب السفر تحت قيظها، في لحظات كانت قد أمسكت بعصاها تهمز بها دابتها بلطف. ومن خلف الغبار الذي أثارته الدابة كانت تتراءى متأرجحة مع هزيج صوفي تتمتم به. كانت “عائشة الباعونية” تكتب أشعاراً صوفية مترعة بالمعاني والرموز، متجلية بالجمال الإلهي والوصال والمنادمة، أشعاراً تذهب الخوف والسقم والحزن. كانت عالمة دين وفقيهة ومفتية، عرفتها المصادر في القرن العاشر الهجري بالدمشقية العالمة العاملة الأديبة، وقد ذهبت إلى مصر ونالت حظاً وافراً من العلم، وأجيزت بالإفتاء والتدريس وألفت عدة كتب صوفية ودينية “كتاب الممالك الشريفة”، وكتاب “الآثار المنيفة”، وكتاب “الفتح الحنفي” وديوان “مولد جليل للنبي صلى الله عليه وسلم” وكتاب “المعجزات والخصائص النبوية للسيوطي”، كما أنها اختصرت رسالة الهروي الصوفي “منازل السائرين في أرجوزة عنوانها “الإشارات الخفية في المنازل العلية” واختصرت أيضاً في أرجوزة أخرى “القول البديع في الصلاة على الحبيب للسخاوي” وأشهر قصائدها قصيدة “الفتح المبين في مدح الأمين” وقد أورد هذه القصيدة عبد الغنى النابلسي في كتابه بسمات الأزهار وقارن بين عملها وأعمال أدبية أخرى، ولقد نشرت القصيدة في خزينة الأدب لابن حجة. والأبرز في سيرتها أنها كانت عاملة في الحياة العامة وفى السفر بين الأقطار والاتصال بعلماء عصرها والتفاعل معهم فكرياً، إذ يحكى عنها أنها كانت خصماً صعباً لأبى الثناء محمود بن آجا صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية فكانت تجادله وتتبادل معه قصائد المدح والألغاز، وكذلك كانت تفعل مع شيخ الأدباء السيد الشريف عبد الرحيم العباسي القاهري الذي خاطبها ب”روضة العلم” وأثنى على منثور ما تكتبه ومنظومه، كما وصفها العالم السوري عبد الغنى النابلسي بأنها ربة “الفضل والأدب”. كانت الباعونية سافرة الوجه تلتقي السائلين من الرجال دون حجاب وتجيب على استفتاءاتهم المنظومة بمثلها، ولقد كانت متزوجة وأم لطفل واحد. حافية الأقدام، متشققة الكعبين، ركضت “الشيخة أمونة بت عبود” لتلحق بحمارها المحمل بقطن ناصع البياض، تراءت لها ورداته تتبسم لها، رفعت يدها لفمها لتخرج بأسنانها شوكة انغرزت بيدها منذ النهار دون أن تأبه لها في غمرة عجلتها، بطرف ثوبها المغبر مسحت وجهها المتعرق، وسّعت في خطوها لتلاحق حمارتها الراكضة تجاه الحلة، مرت بجمع من الفتيان في طريقهم لجلب الماء نزلوا من حميرهم وحيّوها بأدب، انكشفت أسنانها في بسمة أثارت غيرة محصول قطنها الراكض أمامها، ربّتت على حمارتها وسقتها بمجرد وصولهما، حملت القطن على ظهرها للداخل، وشرعت في حلجه مباشرة فقد كانت متعجلة لغزله وبيعه لحاجتها الماسة للمال، فلقد انكسر “زير المضيفة الكبير” ويجب عليها أن تشتري “زيراً” جديداً، أقبل عليها المساء وهي منصرفة لتسبيحها وتمتماتها المستغفرة، تتحرك من مكانها نحو مصلايتها لتصلي ومن ثم ترجع لتعاود عملها، جرجرت أقدامها في طريقها إلى الخلوة حيث الأطفال بانتظار درسهم المسائي، انسكبت الأصوات المتناغمة لقلبها فأنعشتها وهدهدت تعبها، تمايلت مغمضة العينين، فتحت عينيّها وهى تلتقط عصاها لتعاقب أحد الذين أخطئوا في الحفظ، فلقد كانت متيقظة وغارقة في تسبيحها وتأملاتها بذات الوقت. هادية حسب الله [email protected]