أبحث عن كلماتي في كومةِ توقعاتٍ خائبةٍ... فهي محمومةٌ بوخزٍ مرير... تصِفُ حُضوري لاحتفالٍ في إحدى المدارس، وقد أعجبتني فقرةُ طلابِ الصفِّ الثاني الابتدائي ، اقتربتُ مِنْهم وعزَّزْتُ أداءهم ، كان مِن بينِهم طفلٌ فصيحٌ أثارَ رغبتي في الحديثِ معَه ، سألتُه الأسئلةَ التقليديةَ : ما اسمُك؟ كَم عُمرُك؟ وكان يُجيبني ببراءةٍ وذَكاء ، ومن أي بلدٍ أنت؟ قال من السعودية... استغربت!!! فالطفلُ سوداني، قلت : أنت مولود في السعودية لكنك سوداني قال :- (لست سودانياً ولا أحِبُّ السُّودان ...السودان شينة ووسخانة!) التقطَ الحديثَ طفلٌ بجانبه وقال : وأنا من دُبَي، وتبرَّع الثالثُ قائلاً : وأنا مِن كندا ؛ سألت معلمتهم عن صِحَّةِ حديثِهم أجابَتْنِي وهي تَضْحك : إنَّهم سودانيون، بل إنّ الطفلَ الثاني مولودٌ في السودان وله عمٌّ في دُبَي يزورهُ في الإجازات ، والطفل الثالثُ يَسمعُ عن كندا لأنَّ خالتَه وأبناءها يُقيمون هناك. بقيتُ رهينةَ الصَّمْتِ للحظات، أحسستُ أنّ الوطن آيلٌ للسقوط على سطحِ الحياة، الأجيالُ القادمةُ تتنكرُ له علناً مع سبقِ الإصرارِ ونحنُ نضحك! توجَّهتُ لِلمُعَلِّمةِ بسؤالٍ خرجَ من حنجرتي بوجع... من المسؤولُ عن هذا الضلال ؟ . بلا شك، نحن !!! مُعظمنا يَفقد الانتماءَ للوطنِ ولا يُفرِّقُ بينه وبينَ الحُكومات ، مما أثَّر سلباً على أذهاننا. هذا الأثرُ تجسَّد في كثيرٍ مِن المواقِف، أكثرُها وُضُوحاً موقفُ أفرادِ المُجْتمَع من المُمتلكاتِ العامّةِ وهو موقف يتَّسِم بسُلوكِ اللاّمُبالاة ، والإهمال ، وعدم وضعِ هذه الممتلكاتِ موضِعَ التقديرِ والاحترام ، نرمي الأوساخ في الشوارع، ونبْصُقُ في الطُّرقاتِ ثم نبكي على الأطلالِ يوم كانتِ الخُرطوم تغسِل شوارعها ليلاً بالماء والصابون ، يغش المقاولُ في موادِّ البناءِ ثم يقول : (يا سلام على مباني الإنجليز كان دقيت مسمار ما يدخل في الحيطة )، وعندما يأتي مستثمرٌ أجنبي يستثمر أمواله في مشروعٍ تنموي نضع أمامه العراقيلَ والصعوباتِ ونماطل في إنجاز معاملاته حتى يولِّي الأدبارَ ناجياً بنفسهِ خاسرا ماله ، ثم نصيحُ لا يوجد في البلد تنمية! كيف نربي أبناءنا على حبِّ الوطن؟ ومعظمنا لا يَتوانى عن وصفِه أمامَهم (بالمخروبة والحفرة والكرور) وغيرها من الأوصاف الموسومة بالاستياءِ والتي لا ذنب للوطنِ فيها فهو يئنُّ بأنينِ شعبه ، ويحتاج منا المداواةَ بانتهاجِ الأعمال التطوعية وممارستها بوعيٍ وصِدقٍ لهدفٍ سامٍ هو حُبُّ الوطن ، ولابد أن يَتوازى الإحساسُ الداخلي مع السُّلوك العام ، مثل فكرةِ الإيمان ، فهو ما وقرَ في القلب وصدقه العمل. وليَرحم الله أجيالنا السابقة فدوا الوطن وخلدوا لنا تاريخاً عظيماً. وبهذه المناسبة أذكر قصة الطبيبِ الاختصاصي الذي يريد القيامَ بواجب عزاء لأحد زملائه فوصفوا له البيت بجوار منزل الزعيم الأزهري فقال : وهو وين منزل الأزهري ده ؟!