رغم تقدمه في العمر، فإن محمد إبراهيم خليل، رئيس مفوضية الاستفتاء الذي تم تعيينه وبعدها المصادقة على ذلك التعيين في البرلمان مؤخراً، يستطيع صعود درجات السلم يومياً في الصباح الباكر إلى مكتب المحاماة الذي يمتلكه ويديره في الطابق العلوي بإحدى عمارات شارع الجمهورية العتيق، حيث يدخل ويجلس على مكتبه، ليبدأ مزاولة أعماله وخدماته الاستشارية التي يدرك الزائر أنه - بصحبة موظفي مكتبه- يحرص على ترتيبها بدقة وصرامة، فيما يوحي اعتماده على هاتف ثابت من نوع قديم بعض الشيء، بأن الرجل لا يستخدم هاتفاً محمولاً، شأنه شأن العديد من أبناء جيله البارزين والمغمورين، الذين يكتفون من التكنولوجيا بما خبروه وألفوه في أول أعمارهم الطويلة. .... عمر محمد إبراهيم خليل الطويل، الذي خاض فيه الكثير من التجارب الأكاديمية والمهنية والسياسية والتنفيذية والاستشارية، بالنسبة للبعض، يمثل أشد المبررات وجاهة لاختياره لمهمة غير يسيرة على الإطلاق، رئاسة مفوضية الاستفتاء الذي سيحدد مصير السودان، إما بالحفاظ علي حدوده السياسية كما هي، أو تقسيمها إلى جزءين أو أكثر، فخليل، كان أول عميد لكلية الحقوق بجامعة الخرطوم بعد الاستقلال، عندما شق طريقه في عالم القانون والتدريس، قبل أن يبرز بقوة في أحد خلافات حزب الأمة القومي في النصف الأول من الستينيات ضمن مؤيدي السيد الصادق المهدي الشاب حينها ضد عمه الإمام الهادي المهدي، موقف قاد فيما بعد الأكاديمي والقانوني والسياسي الشاب الذي لم يكمل الأربعين من عمره حينها لتقلد منصب وزير الخارجية، ثم منصب وزير العدل في فترة وجيزة. تلك المرحلة التي اتسمت بالاستقطاب والانقسام داخل حزب الأمة وكيان الأنصار، شهدت اقتراح البعض ترشيح د.محمد إبراهيم خليل لرئاسة الوزراء عن جناح الصادق بعد انتخابات 1965م، في مواجهة محمد أحمد المحجوب مرشح الإمام الهادي، الذي تولى المنصب في نهاية المطاف، لتنشب الشجارات بينه وبين رموز التيار الآخر داخل حزب الأمة وشركائه داخل الحكومة في ذات الوقت، أمثال عبد الرحمن النور، ود.أحمد بخاري، ومحمد إبراهيم خليل نفسه، كما تؤكد دراسة عن نزاعات حزب الأمة أعدها د.الفاتح عبد الله. عقب وقوفهما معاً في خندق واحد في مواجهة الإمام الهادي، وبعدما يزيد عن عقدين من الزمان، شب الخلاف هذه المرة بين الرجلين اللذين قلبا في شبابهما مع آخرين الطاولة على زعيم الحزب، فبعدما تم اختياره رئيساً للجمعية التأسيسية عن حزب الأمة عقب انتخابات 1986م، استقال محمد إبراهيم خليل من منصبه وابتعد عن حزب الأمة على خلفية عدم رضاه عن إشراك الصادق- رئيس الوزراء حينها- لرموز من النظام المايوي في حكومته كما يفسر البعض، فيما يدفع آخرون بأسباب أخرى لذاك الخلاف، أسباب من قبيل اتخاذ الرجل لمواقف وقرارات انفرادية بعيدة عن خط الحزب، والجهر بآراء مخالفة لقيادته. اختيار الرجل لرئاسة مفوضية الاستفتاء، ذلك الموقع الذي تتقاطع عنده سياسات ومصالح الخرطوموجوباوواشنطن، يعيد إلى الذهن الفترة التي قضاها الأخير في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وما يتردد في بعض الأوساط عن تعاونه مع مركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية، ومساهمته مع أكاديميين وخبراء آخرين في طرح مقترح نظامين في دولة واحدة (نظام علماني في الجنوب وإسلامي في الشمال)، وهو ذات المقترح الذي تبنته في نهاية المطاف اتفاقية نيفاشا، ليأتي قدومه لرئاسة مفوضية الاستفتاء غير بعيد في بعض جوانبه عن ذلك المقترح، وعن علاقته بالولاياتالمتحدة التي يؤكد البعض أنه بناها منذ السبعينيات عندما كان عضواً في المكتب السياسي لحزب الأمة. لو لم يكن شخصية مرضىاً عنها في واشنطن، ونوعاً ما في جوبا، لما أتى محمد إبراهيم خليل رئيساً لمفوضية الاستفتاء كما يقول العميد معاش عبد الرحمن فرح مدير الأمن في الديمقراطية الثالثة، ورغم اعترافه بأن وزير الخارجية والعدل السابق - الحائز على دكتوراة في القانون الدولي - رجل عالم و(فاهم) وله تجارب، لكنه يؤكد أن القطار فاته الآن وبات كبيراً في السن، ما لا يتناسب مع متطلبات عملية كالاستفتاء ينتظر لها أن تقرر مصير البلاد بأكملها، ويضيف فرح بأن الاختيار لم يكن موفقاً، ويعبر عن شكوكه في نجاح محمد إبراهيم في مهمته الجديدة. مهمة من ذات النوع، جلبت قبل أقل من ثلاثة أشهر الكثير من الانتقادات القاسية والجارحة أحياناً لمولانا أبيل ألير رئيس المفوضية القومية للانتخابات، تلك الشخصية التي كان الجميع يصفها بالقومية قبل الانتخابات، لتلحق بها عقب الانتخابات صفات مغايرة تماماً أطلقها صوبها البعض، وهي ذات الصفات التي ربما تعيد هذه الجهة أو تلك إطلاقها على محمد إبراهيم خليل هذه المرة عقب الاستفتاء، إذا تم إخراجه على غير هواها. بينما يراه البعض رجلاً غير مناسب لرئاسة مفوضية الاستفتاء، وللمفارقة، يؤكد آخرون أنه أفضل الشخصيات التي يمكن لها أن تشغل المنصب وتؤدي المهمة الصعبة، مهمة الإشراف على عملية ستفصل السودان أو توحده، ويصف مادبو آدم مادبو عضو المكتب السياسي السابق بحزب الأمة الرجل بأنه أنسب شخصية للموقع في الساحة السياسية، ويدفع بمجموعة مبررات لتقييمه ذاك، كخبرة الرجل الإدارية والسياسية والمهنية، وتأهيله العلمي، واستقلاليته الفكرية و(المادية)، ويضيف: (المفوضية تتطلب رجلاً محايداً، وملماً بأصول العمل، ومقبولاً لجميع الأطراف، ومحمد إبراهيم خليل هو ذاك الرجل). وزير الخارجية والعدل السابق، الذي يصفه العميد فرح بأنه (عدو) لحزب الأمة، ربما كان لا يزال يحتفظ بقليل من الود القديم الذي ربطه مع الحزب الذي لمع نجمه فيه، ود لم يكن كافياً - كما يردد البعض- لإقناعه بالاستجابة لدعوة تلقاها عقب عودته للبلاد من الإمام الصادق لمعاودة نشاطه الحزبي، واختار الرجل الانصراف إلى خاصة شئونه المهنية والشخصية، ومواصلة قراءة (راتب) الإمام المهدي التي تعلمها في البيت الأنصاري الذي نشأ فيه، حتى أخرجه قبوله برئاسة مفوضية الاستفتاء من مكتبه بشارع الجمهورية، إلى عناوين الصحف.