وقعت دولة جنوب السودان في حبائل صراع أهلي ضروس قبل أن يكتمل عام استقلالها الخامس. بذلك، باتت هذه الدولة الوليدة مثلاً فريداً في سرعة الانحدار إلى مصاف الدول الفاشلة. غرائب هذا الفشل و»الخراب» العاجل تبدو عصيَّة على الحصر، لكن أكثرها لفتاً للانتباه، أن «أبطال» هذا المشهد المؤلم هم رئيس الدولة سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار وأنصارهما، وهم أنفسهم الذين تزعموا مشهد «الكفاح» لأجل الانفصال عن السودان الأم، بذريعة التحرر والانعتاق تحت عنوان التباين الديني والعرقي بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي. المعنى هنا، أن أهم أسباب الصراع الداخلي بين أبناء الملة الجنوبية الواحدة جدلاً، تنفي صدقية هذه الذريعة وتدحض الاعتقاد بأن الانفصال كان الطريق الأمثل إلى مجتمع الأمن والرفاه، وتعزز منطق القائلين بأنه حتى لو كان هناك تغول من الشماليين في زمن السودان الواحد، فقد كان الأجدى هو تكاتف كل السودانيين سعياً إلى دولة كل مواطنيها. ومن إلهامات هذه التجربة المريرة، أنها تؤشر إلى رجاحة عقل الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية، حين أقروا الالتزام بخرائط الحدود الموروثة عن أزمنة الاستعمار. فعلى رغم انحدار بعض الأفارقة إلى هاوية المنازعات والاشتباكات الداخلية والخارجية، التي أنتجتها هذه الخرائط، إلا أن هذا الواقع يظل أهون بكثير من الأضرار التي كانت ستنجم عن نشوء دول وكيانات سياسية، بعدد مئات القبائل والشيع والطوائف واللغات واللهجات المحلية التي تزخر بها القارة السمراء. القصد أن زعماء بواكير عهد استقلال القارة أخذوا بأهون الشرور، وإلى حد كبير مالت القوى الدولية الفاعلة خارج المجال الأفريقي إلى هذا الخيار، وهي التي كانت قد ساهمت جوهرياً في صياغته وصناعته طبقاً لمصالحها ونياتها الخبيثة. هذه التعميمات تكاد تقطع بأن أفارقة اليوم وسواهم من الذين عالجوا حالة انفصال جنوب السودان بقدر من التسامح أو التواطؤ، إنما أسَّسوا للمروق على مألوف نهج الآباء الرامي الى استقرار الحدود الأفريقية. فبين يدي هذه الحالة، وجدنا موافقة أفريقية مريبة وسروراً دولياً، لا سيما في عالم الغرب، إزاء عملية جراحية ستفضي إلى نشوء دولة جديدة تغير لوجستية شمال شرقي القارة في شكل فارق. عملية تثير السؤال عما إذا كان الأفارقة في صدد تحوّل نوعي سيصرفهم عن موقفهم تجاه حدود ما بعد الاستقلال. ولا نحسب أن نذر هذا التحول تعود إلى غيرة أو طهرية أخلاقية وسياسية وحقوقية تجاه أوضاع أهل جنوب السودان. فلو كان الأمر كذلك، لكان الصوماليون البؤساء الذين تصدَّعت دولتهم إلى ما دون عصر الجاهلية القبلية تحت أعين الكافة، أولى بالرعاية والعطف والبحث عن حلول جذرية. في إطار هذه المعالجة المستفزة، قد نجد لغير الأفارقة من أصحاب المصالح الدولية، المتربصين بثروات جنوب السودان وبإعادة تقسيم ما سبق أن قسَّمته خريطة سايكس – بيكو وغيرها من الوطن العربي عذراً، لكن كيف نفسر أو نبرر للأفارقة موقفهم من سابقة تنذرهم بالتشظي والتشرذم إذا ما تمت محاكاتها والتشبه بها داخل القارة؟ رُبَّ مجادلٍ هنا بأن الانقسام درأ عن السودان أخطاراً أكبر، شاهدنا بعض تجلياتها إبان سنوات الحرب بين الشمال والجنوب. وهذا مردود عليه بأن الحل القائم على التجزئة الإقليمية ليس هو، ولم يثبت أنه، بالضرورة أنجع الحلول لتسوية التدافعات والمشاحنات الداخلية. وسبق للأفارقة أن لفظوا حلولاً من هذا القبيل في نماذج ساخنة أخرى (إقليم بيافرا في نيجيريا قبل خمسين عاماً مثلاً). بعد فرحتهم بالعلم والنشيد الوطني، لم يهنأ السودانيون الجنوبيون بوعود الأمن والرخاء. لقد انضموا إلى عشرات الدول التي لم تغادر شعوبها دروب الفقر والجهل والمرض والاستتباع للمستعمرين القدامى. حين آنسنا من الجنوبيين تصميمهم على الانفصال راودتنا أسئلة، لم نجد لها إجابات شافية، من قبيل كيف ستتعامل الدولة الوليدة مع تبعات وجود أربعة ملايين جنوبي مقيمين بمصالح حياتية مستقرة في الشمال، علماً أن الخرطوم أعلنت أنهم سيعاملون بعد الانفصال كأجانب؟ وكيف سيعالج الجنوبيون عوارض الاختلافات الاجتماعية داخل إقليمهم، الذي يضم خليطاً من أقوام بينهم مشاحنات عميقة؟! وماذا عن مصائر الناس في دولة ذات اقتصاد بدائي عاجز عن استيعاب العائدات النفطية والمساعدات الخارجية الموعودة، التي ستكون حتماً مغموسة بتغلغل دولي يجعل الاستقلال حقيقة شكلية؟ المؤسف أن الإجابة عن بعض هذه الاستفهامات لم تتأخر، وقد جاءت في أسوأ التوقعات، إذ عالج الجنوبيون اختلافاتهم مع الشمال بالانفصال الدولتي الكامل، ثم إنهم راحوا يقاربون تمايزاتهم البينية بلغة الدم والاستعانة بالآخرين. وبذلك، نسجوا على المنوال ذاته. وفي هذا الغمار، عاد ملح الأرض من عامة الجنوبيين سيرتهم الأولى، حيث لوعة البحث عما يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف، فما الذي استجد على حياتهم غير أنها زادت بؤساً على بؤس؟. نقلا عن الحياة اللندنية