امل حميدة لماذا يختار البعض ان يعيش منعزلاً.... ولماذا يقرر الشخص ان يعتزل العالم ويعيش وحيداً متقوقعاً حول نفسه...فيقطع علاقاته الاجتماعية وتواصله مع الناس من حوله ويهرب بعيداً باحزانه واحلامه ومخاوفه و ذكرياته وليصير بعد فترة من انعزاله كأشجار الخريف... ولايعد يسأل هو عن احد ولايعد يُسأل عنه احد...وتذوب سنين عمره وتتبخر من امامه وهو عاجز ومستسلم لايفعل شيئاً... تارة يلم الظروف وتارة يلم الناس وتارة يلم نفسه. ان الشعور بالوحدة النفسية والانعزال الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية الهامة التي تنتشر بين الاطفال والمراهقين والشباب وهذا الشعور يمكن ان يوجد ايضا لدى الراشدين ومن هم في سن الكهولة، اي انها مشكلة عامة قد تصيب الفرد من اية مرحلة من مراحل عمره.وهنالك ايضا عزلة الكتاب والمثقفين والفنانين والعلماء والمخترعين والسياسيين وصناع القرار... الخ، وعزلة هؤلاء هي اخطر انواع العزلة لانها تصيب اناساً مؤثرين في المجتمع وفي مراكز قيادية تمس المجتمع بطوله وعرضه. هذا الكون به الكثير من العراقيل والمنغصات والمتناقضات، والعاقل يدرك ان الحياة ليست شقاءً دائماً ولا هي سعادة دائمة ولابد لنا ان ندرك كيف نوازن بين هذا وذاك...والانسان مخلوق اجتماعي بطبعه اعطاه الخالق من العقل والمعرفة والمشاعر ما يمكنه من العيش والتواصل مع محيطه الخارجي...وهذا التواصل الطبيعي يساعده على سبر غور حاجاته وامكاناته وقدراته وذلك لكي يعمل ويبدع ويحقق ذاته...وعندما لايتحقق للشخص ذلك ويفشل في اشباع حاجته الى الانتماء..ويفشل في اقامة علاقات ايجابية مع المجتمع...ويفشل في الوصول الى احلامه وتحقيق امنياته...ينعزل وينسحب تدريجياً من المحيطين به ويبني لنفسه عالماً يتوخى فيه السلام الدائم. ونحن نعيش في عصر المتغيرات السريعة في كل نواحي الحياة سياسية اقتصادية ثقافية وغيرها والتي ادت التى تعقيد اساليب الحياة وصعوبة قدرة الانسان العادي على التأقلم مع ضغوطات الحياة المختلفة والتي تشمل القلق والتوتر والعصبية....ونتيجة لذلك اصبح انسان العصر الحديث مطية لشتى انوع الاضطرابات الانفعالية والنفسية التي تصيب صحته النفسية والعقلية والتي تؤثر سلباً على انجازاته ونجاحاته فتدفعه الى الشعور بالعزلة والوحدة.....وهذه الرغبة في الانطواء هي نقطة البداية للكثير من المشكلات التي يمكن ان يعاني ويشكو منها الفرد، يتصدرها الشعور بعدم الاهمية والاهمال والتعاسة والتشاؤم، فضلاً عن الإحساس القهري بالعجز نتيجة الإنعزال الإجتماعي والإنفعالي. نرى من ذلك ان الشعور بالوحدة النفسية شعور نفسي أليم قد يكون مسئولاً عن الكثير من اشكال المعاناة. ان الانجازات العظيمة والنجاحات الكبيرة تجعلنا محط انظار الكثيرين وتحيط صاحبها بكثير من الرضا. ولكن هنالك من يلفظ هذا النجاح ويتبرأ منه. وهنالك من ينقلب عليه ويصبح وبالاً عليه.. كما حدث مع الروائي الروسي الشهيرتولستوي. ومن أشهر رواياته (الحرب والسلام) (وانا كارنينا).وكان تولستوي شهيراً للغاية حتى ان المعجبات كن يتبعنه ليلاً ونهاراً وكن يكتبن اية كلمة يقولها فمثلا ان قال "اعتقد انني ساذهب للفراش" كانت مثل هذه العبارة السطحية تكتب، والحكومة الروسية تطبع، وكتاباته مجتمعة تملأ مائة مجلد. وبالاضافة الى الشهرة كان لدى تولستوى وزوجته الثروة والمركز الاجتماعي والابناء.. وبدأت السعادة في اولها كاملة الى ان حدث شئ غير مجرى حياتهما. فقد بدأ تولستوي يتغير واصبح شخصا آخر. اصبح يشعر بالعار من كتاباته العظيمة التي كتبها وتخلى عن حق نشر كتبه. هذا الرجل الذي اعترف ذات مرة انه ارتكب في شبابه كل خطيئة ممكن تخيلها حتى القتل. قرر ان يعيش في عزلة. تخلى عن جميع اراضيه وعاش فقيرا. فكان يقطع الاشجار ويصنع حذاءه بنفسه ويأكل في إناء من خشب. حاول ان يتبع حرفياً تعاليم اليسوع وكرس حياته يدعو للسلام ونبذ الحرب ومحو الامية ولم يبق له غير زوجته التي كانت سبب مأساته. فقد ملأت حياته بالصراخ والنكد. كانت تتوق الى حياة الرفاهية الا انه اعتقد ان الملكية والثروة الخاصة خطيئة يجب التخلص منها ويقال ان من اكثر المشاهد المثيرة في حياتهما للشفقة انه بعد 48 عاما من الزواج اتته زوجته كسيرة القلب، وركعت تحت قدميه وتوسلت اليه ان يقرأ لها بصوت عال الرسائل العاطفية والتي كتبها في يومياته من خمسين سنة، وعندما قرأ ماكتبه في تلك الايام الجملية التي ولت بغير رجعة بكى كل منهما !!! وهرب تولستوي من منزله في ليلة ثلجية باردة ومات بعد 11يوما.. وكان أوصى اثناء اختفائه ان لايسمح لزوجته بان تأتي لزيارة قبره أن هو مات جزاء لها مات تولستوي ودفن ولكن قبل ذلك قتلته وحدته وساهمت زوجته في زيادة عزلته حتى هلك فكانت حياته مأساة.. وكما فعل المهندس الأمريكي جورج ديغول الذي اخترع اول رجل آلي المدعو"روبوت", حدث ذلك منذ حوالي 46 عاماً لقد ولد اختراعه الذي غير وجه العالم من بعده في جراج متواضع وكان نصفه العلوي رجل آلي ذو رأس و ذراعين و النصف السفلي كوبري ينزلق على عجلات لم يفكر جورج في تطوير اختراعه. ترك للآخرين هذه المهمة , وقرر التقاعد في ضاحية من ضواحي "فلوريدا" المنعزلة.. قرر ان يعيش وحيدا، لا زوجة ولا أولاد ولا خدم ولا أصدقاء وكان هذا الروبوت صديقه ورفيقه الوحيد الذي يقضي معه آخر أيامه، يتحدث معه ويأكل معه ويشتكي له همه وينام في أحضانه ويقال أن ثروته التي جمعها فى حياته والتي تصل عشرة ملايين دولار، يقال أنه أوصى بها الى اللانسان الآلي، فقد اعتزل الرجل العالم وجن في صمت، تصور نفسه إلهاً، فاعتزل البشر واختار أن يعيش مع أول مخلوقاته، عجائب يا دنيا. اعتزال ام عزلة اجبارية ان أصعب انوع العزلة هي تلك التي تطال المشاهير، خاصة اذ كنا نتحدث عن اشخاص لمع نجمهم في السماء ثم هوى، انها شعور صعب للانسان العادي فما بالك باناس تعودوا ان يعيشوا بطريقة خاصة جداً محاطين بالمعجبين والاضواء والشهرة والمال، اننا ندري ان عجلة الحياة لاتدور الى الوراء عندما يأتي زمن يكون أسوأ مافي المستقبل الحاضر ويكون أسوأ مافي الماضي الحاضر ايضاً، لان ذكريات النجاح تصبح ثقيلة على نفس العاجز، محمد علي كلاي اسم شهير في عالم الرياضة، فهو بطل من ابطال العالم في الملاكمة واصبح بطلاً سينمائياً فيما بعد وقد اشتهر بالمرح والرشاقة وخفة الظل وعاش حياة البزخ والشهرة بكل معانيها وبالرغم انه كان على عتبة الاعتزال الا ان المرض لم يمهله وشل احلامه سأله احد الصحفيين يوما: الى اين ستذهب بعد ان تترك الحلبة ؟ قال : احلامي عريضة لاحد لها وقد اجلت هذه الاحلام دائما، وهاهو الوقت المناسب لتحقيقها قد حل !!! كانت احلامه عريضة بعرض البحر، دار لنشر الدعوة الاسلامية، توظيف ثروته في مشروعات مختلفة، اقامة صالة تدريب للملاكمة، شراء محطة تلفزيون باسم المسلمين، كتابة مذكراته، تربية بناته، ولكن كلاي اعتزل بعد نحو العام من هذا التصريح، كان نجماً وبطلاً ولكن خانته صحته فاعجزته. كم هو صعب ان يكون المرء بطلاً ويصبح قعيداً ومأساة ان تتغير صورتك في عيون الناس ويتحول اعجاب الناس الى اشفاق وانبهارهم الى أسف على ما اصبحت عليه...هناك اشخاص يمتلكون السمات النفسية التي تجعلهم يتخطون الازمات الكبيرة والعجز الذي يصنعون منه اداة لنجاحات أخرى...فهم لاينكسرون للعاصفة ولكن ينحنون لها لتمر بسلام...او يتعايشون مع عجزهم بايجابية وقناعة ورضا بدلاً عن السخط... ويقال ان محمد على كلاي اشترى كتباً اسلامية بقيمة 100الف دولار وراح يوزعها في عربة كبيرة على الناس في الشارع وعليها توقيعه. وبعد الشهرة التي اصابها والثروة التي جمعها وهي تقدر بحوالي 50 مليون دولار اضافة الى قصوره الثلاثة...لم يبق لكلاي الكثير من حياة الترف التي كان يحياها وانتهى به المطاف في شقة متواضعه لايتجاوز ايجارها ال600 دولار شهريا..وبالرغم من ان كلاي لم يفقد حب الناس له بعد أن اقعده المرض وعزله عن العالم..الا انه عانى من شعور قاسٍ بالوحدة وكثيراً ما كان يرغب في الانفراد وحده بعيداً عن اعين الناس.. وقد كان يخفى هذا الشعور الحزين بقوله ان حياة النجم تبدأ بعد الاعتزال. عزلة العصر الحديث لقد بهرنا التطور الذي لف العالم في العقود الاخيرة واصبحت مستجدات العصر لتيار يجرفنا ونحن مستسلمون لا نقاوم تحدفنا الحضارة بشطحاتها وجنونها ومصائبها من كل حدب وصوب... ولا ننكر جميعنا أن الاختراعات الحديثه قد يسرت حياة البشر في مختلف نواحي الحياة ووصلت بالبعض الي حد التخمة والبطر ولم يعد يرضيه مافي هذا العالم فقرر باختياره أن ينعزل اوأن ينتقل الي العالم الآخر بارادته عسى لعله يجد فيه الصديق أو الرفيق. واذا ما اتفقنا علي أن لكل شئ ثمناً فهذا ثمن الحضارة. وتطالعنا القصص عن اناس اعتزلوا العلاقات الاجتماعية السوية واصبح صديقهم ورفيقهم الدائم هو جهاز الكمبيوتر وعالم الانترنت.. أناس يحبون بالانترنت ويتزوجون بالانترنت... وآخرون خرب الانترنت بيوتهم...؟، ويقال ان علماء النفس سيدرجون مسمى جديد للادمان في كتب علب النفس"هو أدمان الانترنت". يقول الصحفي توماس فريدمان كنت قد وصلت إلى مطار شارل ديجول الدولي في باريس في تلك الليلة واستقبلني سائق سيارة أجرة، أرسله لي أحد أصدقائي الفرنسيين. وكان ذلك السائق يحمل لافتة كتب عليها اسمي. ولكن ما أن اقتربت منه حتى لاحظت أنه كان منهمكاً في حديث مستمر مع نفسه. وباقترابي منه أكثر، أدركت أنه كان يضع في إحدى أذنيه سماعة «بلوتوث"بينما واصل مكالمته التي لا تنقطع عبر هاتفه النقال. فأومأت إلى شخصي باعتباري ذلك القادم الذي كان ينتظره، فأجابني بإيماءة من رأسه، ثم عاد ليواصل مكالمته الهاتفية. وعند دخولي إلى السيارة سألته عما إذا كان يعلم أين الفندق الذي سأذهب إليه، فأجابني بكلمة واحدة هي «كلا»، فأطلعته على العنوان الذي ألقى نظرة سريعة عليه، ثم عاد مرة أخرى إلى مكالمته. ومن ناحيتي، فقد كنت أجلس في المقعد الخلفي للسيارة، وأخوض سباقاً مع الزمن على أمل إكمال عمود صحفي كنت منشغلاً بطباعته في جهاز الكمبيوتر المحمول الذي كان بصحبتي. وأثناء كتابتي للعمود، كنت قد أخرجت جهاز «الآي بود»، واستمعت للموسيقى وخلال ذلك الوقت كان السائق لا يزال مأخوذاً بمكالمته الهاتفية، بينما كان يقود السيارة أيضاً. وبعد وصولي إلى الفندق، تأملت ما حدث خلال تلك الرحلة اذ أننا لم نتبادل الحديث معاً البتة، على رغم قربنا وتجاورنا مع بعضنا بعضاً، في مسافة لا تزيد على القدمين فحسب! وما أن حدثت صديقي وزميلي «آلين فراكون»، المحرر في صحيفة «لوموند"الفرنسية، حتى قال لي: أعتقد أنه قد فات الأوان على ذلك العصر الذي كان يقتطف فيه المراسلون الخارجيون، تعليقات سائقي سيارات الأجرة على السياسة في بلدانهم. فهؤلاء أصبحوا من الانشغال، إلى درجة أنهم لا يستطيعون تبادل مقطع واحد فحسب مع الصحفيين والمراسلين. وندرك جميعاً الآن استحالة البدء بتلك العبارة الكلاسيكية المأثورة: «وكما حدثني سائق التاكسي عن رأيه في الانتخابات الفرنسية المقبلة».. إلخ. (فالكل منا يميل اليوم إلى تشغيل جهاز «التسجيل» الخاص به، مع إغلاق نفسه عن العالم وضجيجه، أو إغلاق العالم كله عنه. وعليه فقد أصبح الواحد منا في كل مكان تقريباً، عدا عن ذلك المكان الذي يوجد فيه فعلياً وجسدياً). ويضيف توماس"أنه قبل ذلك بشهر واحد، كنت قد كتبت عموداً صحفياً بعنوان «سائقة سيارة تدهس رجلاً كان منهمكاً بالاستماع إلى جهاز الآي بود، بينما كانت هي مستغرقة في الحديث عبر هاتفها النقال"... تعبيراً عن حادث مروري كاد يقع أمامي بالفعل في مدينة سان فرانسيسكو، بين أحد الراكضين المنشغلين بالاستماع إلى الموسيقى، بينما كانت السائقة منشغلة من ناحيتها بالحديث عبر هاتفها النقال.