الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة آرش دوزيه، كما يرويها مؤلفها خبايا العملية الفاشلة لتهريب يتامى دارفور الى فرنسا (7)


ترجمة : عبدالله رزق
الفصل السادس
الوقوع فى الماء
كان شهر اغسطس، بمثابة نقطة تحول فى عملية المنظمة . فالخطتان ، الفنية واللوجستية كانتا جاهزتين. وشبكة العائلات، المعنية باستقبال الاطفال اليتامى ، قد اكملت استعدادها، لبدء اول عملية اجلاء لليتامى الدارفوريين، مثلما تم اكمال الاتصالات السياسية . ولم يبق سوى الدخول ، عمليا ،فى المرحلة التحضيرية للمهمة ، وهى الاستطلاع الميدانى.
غادرت الى تشاد ، فى رفقة ايميلى وكريستوف ، للحصول على المعلومات الضرورية، عن الوضع فى شرقى تشاد، على الحدود السودانية . ولم يكن اختيار تشاد، لاجراء هذا الاستطلاع الميدانى، محض صدفة . فقد كان بامكاننا اختيار افريقيا الوسطى او ليبيا، البلدين اللذين يجاوران السودان، ايضا. لكن لتشاد خصوصيتها . فهى محمية فرنسية ، تتوفر فيها امكانات كبيرة لدى القوات الفرنسية . وبالنسبة لتأمين العملية ، فان هذه الميزة لايمكن تجاهلها.
لدى وصولنا لانجمينا ، عاصمة تشاد، كان اول هدف لنا، هو الحصول على كل التصديقات الضرورية ، لنقوم بعمليتنا . خصوصا ، بعد الضجة الصحفية التى شهدتها فرنسا، فيما يتعلق بعمليتنا الخاصة باخلاء يتامى من دارفور، وهى ضجة كانت لها اصداؤها فى تشاد والسودان ، خاصة، اذا وضع فى الاعتبار بعض البيانات الصادرة من منظمات غير حكومية ، او من اليونسيف. لذلك اخترت ان لا نقدم انفسنا فى تشاد باسم ( آرش دوزويه) ، وانما باسم ( انقاذ الاطفال Children Rescue)، وهو الاسم الجديد لمنظمتنا، حتى لانلفت انتباه اجهزة الامن السودانية .
وبفضل وسيط محلى ممتاز، هو حسن ، استطعنا ، منذ اليوم الاول، الحصول على كل التصريحات الادارية ، الضرورية لبعثة ( انقاذ الاطفال)، فقد حصلنا من وزارة الداخلية على تصريح بالتنقل فى شرقى تشاد، وتصريح آخر بالتصوير من وزارة الاتصالات، كما تم ابرام اتفاق مع وزارة التخطيط ، المسؤولة عن تعاقدات العمل مع المنظمات غير الحكومية .
وفى كل يوم يمر ، كنا نلقى - وبطريقة مثيرة - فى اللحظة المناسبة، الشخص المناسب، الذى يساعد فى تسريع انجاز مهامنا. فالحظ يبتسم للاشخاص الجريئين، كما يقال. وقد قابلنا ،فى مكان اخر، مدير احدى شركات الطيران الخاصة ، النادرة ، فى انجمينا. ومع اننا نحترس من مثل هؤلاء الفرنسيين، ونتحفظ على معلوماتهم ، التى تبدو ، كثيرا أو قليلا، ذات علاقة بالاستخبارات والتجسس، فان شركته توفر طائرات صغيرة ، يمكنها الهبوط فى اى مكان ، وهو مايبدو لنا مفيدا.
وعلى الرغم من تحفظنا ، وهو بغير شك، تحفظ متبادل ، فاننا قد حصلنا منه على المعلومات، التى نحتاجها لمهمتنا. وقد وفر لنا، بدوره ، اتصالا مباشرا مع احد ملاحيه ، فى محطة أبشى ، اكبر المدن فى شرقى تشاد، والتى تمثل وجهتنا التالية.
خلال ثمان واربعين ساعة فقط، فى انجمينا ، حصلنا على كل التصاريح الوزارية ، الضرورية، لمهمتنا فى شرقى تشاد،مثلما توفرنا على جميع المعلومات الفنية ، التى نحتاجها. وبفضل اتصال ممتاز، أجرته إيميلى ، مع الملحق العسكرى بالسفارة الفرنسية ، اتيح لنا ترتيب رحلتنا على ترانسال، وهى طائرة شحن خاصة بالقوات الفرنسية ، تقوم بشكل منتظم برحلات تربط انجمينا بأبشى.
الرحلة الاولى، على طائرات ترانسال ، الخاصة بالقوات الفرنسية، قادتنا الى قلب الترتيبات العسكرية الفرنسية فى تشاد. مبدئياً، كان مقررا ان تكون مغادرتنا الى ابشى ،فى الخامسة صباحا، لكن تم تأجيلها ، من ساعة لاخرى، بسبب اعطال متتالية فى الطائرة. فى التاسعة، قرر القائد العسكرى ان نغادر فى طائرة ثانية ، لان الاعطال فى الطائرة الاولى ، كانت كثيرة. وعندما نقلنا كل المعدات الى الطائرة ، واتخذنا مقاعدنا داخلها ،فى انتظار الاقلاع ، كانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف. لكن لم يكن هناك حظ . فالطائرة الثانية ، حدثت لها اعطال، فضلا عن نقص فى الوقود ، على مستوى احد الاجنحة ، الامر الذى اجبر قائد الطائرة على إلغاء عملية الاقلاع . وكان علينا ان ننتظر طائرة ثالثة، يفترض ان تجئ من الكاميرون المجاورة، منتصف النهار. والتى، ربما تمكنا من الوصول الى أ بشى قبل حلول الظلام . فى حوالى الساعة الخامسة عشرة، علمنا بان طائرة الترانسال رقم ثلاثة، قد ألغيت رحلتها بسبب عطل مكانيكى .لذلك لن تكون هناك غير الطائرة رقم (1) ، والتى تم اصلاحها ، خلال ذلك الوقت ، والتى ستأخذنا الى أبشى، قبل المغيب.
لم تكن العشر ساعات، التى قضيناها فى تارمك انجمينا ، وقتا مهدراً، بل على العكس من ذلك. ففى الحقيقة ، قد قضينا وقتنا فى صحبة عسكريين فرنسيين وميكانيكيين ، وعاملين بالخدمات الازضية والجوية ، وطيارين....وكانت كل الساعات، التى انقضت فى نقاشات ، مفيدة للغاية لمهمتنا، حيث اتيح لنا معرفة الانشطة الحقيقية للقوات الفرنسية هنا. فى قلب افريقيا.
ومن قصص تعاش وكأنها طرف و نكات ، حكى لنا العسكريون مغامراتهم ومهماتهم . احيانا فى شىء من العاطفة، وان كانت معادة فى الغالب. فقد حدثونا عما يعرفونه من التزامات للقوات الفرنسية فى تشاد وفى البلدان المجاورة . بجانب المهمات اللوجستية للقوات الفرنسية ، الموزعة على ثلاث قواعد فى تشاد (انجمينا وأبشى وفيالارجو) ، والتى تقوم بمهام تشمل التموين والاستطلاع لمصلحة القوات التشادية. ففى عام 2006، تدخلت الطائرات الفرنسية مباشرة لقصف طابور من المتمردين التشاديين، كان متجها صوب العاصمة ، انجمينا، لقلب نظام حكم ادريس ديبى.
من الناحية النظرية ، يجب ان اقول "رئيس جمهورية تشاد"، اذ ان تشاد – من الناحية الرسمية – دولة ديموقراطية وتم انتخاب رئيسها مرتين. وفى الواقع ، فان كل العالم يعرف ان الرئيس قد وصل الى السلطة بانقلاب عسكرى، مدعوم من فرنسا، وانه يعتمد على القوة فى الاستمرار فى الحكم، (وبالمساعدة العسكرية المتصلة من قبل فرنسا)، الى جانب اجراء انتخابات ديموقراطية بين الحين والاخر لاجل تحسين صورته لدى المجتمع الدولى .وباقتراع مايقل عن 10% من الناخبين ، الى جانب الهيمنة العسكرية ، فانه يعتبر رئيسا شرعيا.فى حين ان فى اقطار اخرى لايتردد المرء فى وصفها بحكومات الدكتاتوريين ، مدعومة بالاغلبية العظمى من سكانها . كل ذلك لايعتمد ، فى نهاية الامر، الا على ارادة القوى العظمى ، تحديدا الاعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الامن الدولى، ( فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة وروسيا والصين)،التى تجيز لنفسها استخدام توصيف دكتاتور ورئيس شرعى وفقا لمصالحها (الاقتصادية والسياسية والعسكرية)، وسيطرتها على الاوضاع فى تلك البلدان.
هكذا اذن ، فان السودان – على سبيل المثال - وبفضل علاقاته التجارية مع الصين، لم يعترف بانه بلد دكتاتورى . وقد استقبل رئيسه رسميا فى فرنسا مثل غيره من الرؤساء ، على الرغم من وجود خمسة وعشرين قرارا امميا، تدين فظائع جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية .
وبنفس القدر، فان النسخة الرسمية ، تعنى ان تشاد جمهورية ديموقراطية مدعومة عسكريا من قبل فرنسا ، بموجب اتفاق للتعاون بين البلدين تم توقيعه عام 1976. وبلاشك ، يتعين التأكيد بان هذه الاتفاقات، قد تم التوصل اليها عام 1976 مع الدكتاتور السابق، الذى تم تنصيبه ، ايضا، بواسطة فرنسا حاكما على تشاد.
مهما تكن الاوضاع الداخلية فى تشاد ، وأياً كانت الألاعيب العسكرية - السياسية ، ، فان مايهمنى فى هذه اللحظة ، تحديدا ، هو ان تشاد بلد مجاور لدارفور، وان هذا البلد، الواقع تحت الحماية الفرنسية ، هو المكان المناسب لاجل عمليتنا " انقاذ الاطفال"، لاجل الوصول الى اقرب نقطة ممكنة من الحدود، وبما يسمح باخلاء الاطفال اليتامى من دارفور،بدون الحاجة لدخول ارض السودان ، اذ انه ليس واردا ان اعرض فريقى للمخاطر، كما تعرضت لها فى ابريل الماضى. فقد نظمنا هذه البعثة من اجل الانقاذ وليس من اجل الهلاك.
من بين المعلومات التى تم جمعها من العسكريين الفرنسيين، مايجعل المرء يرجف ان لم اقل يقفز، عندما اعيد التفكير فى ردة فعل اميلى . نعرف ان طائرات الشحن التابعة للقوات الفرنسية تعمل، احيانا، فى نقل البضائع او العاملين الانسانيين ، مثلنا، او تقوم بنقل الاسلحة او الذخيرة للقوات التشادية، بموجب الاتفاقية الخاصة بالتعاون بين البلدين. لكن ماهو مفاجئ للغاية ، هو ان هذه الطائرات الفرنسية ، تقوم ، وفقا لاؤلئك العسكريين، بنقل المجموعات المتمردة، سواء كان ذلك يتعلق بالمتمردين السودانيين ، الذين يختبؤون فى تشاد ، او المتمردين التشاديين ، الذين يختبؤون فى شرق دارفور.واذا كانت هذه الشهادات صحيحة، فانها تقدم صورة توضيحية ممتازة لسياسة "فرانسا افريقيا " الضبابية، والتى تختفى خلف العلاقات الرسمية بين فرنسا وبعض البلدان الافريقية، لامداد كل الجماعات المتناحرة ، بكل الوسائل اللازمة.
فى الضوء ، أيدت فرنسا قرارات مجلس الامن الدولى ، التى ادانت عمليات القتل التى تحدث فى دارفور. كما حولت اموالا ،ايضا ، للمنظمات الطوعية ولوكالات الامم المتحدة ، ( برنامج الغذاء العالمى ويونيسيف ، بصورة رئيسية .)، التى تنشط فى دارفور. كان ذلك لاجل ذر الرماد فى العيون.
اما فى الجانب غير الرسمى ، فان فرنسا تتفادى بحرص ، اى مواجهة مباشرة مع السودان ، لسببين رئيسيين، اولهما يرتبط باعمال بعض الشركات الفرنسية الكبيرة ، التى تعمل فى الخرطوم. اذ ان السودان غنى بموارده ، وسيكون من غير المناسب ان لايكون لشركاتنا نصيب من الكعكة. اما السبب الثانى، فيتعلق بالشريك التجارى الاول للسودان، وهو الصين. فبالنظر الى الثروة الكبيرة التى يمتلكها هذا البلد - القارة ، والتى لايقل عنها كبرا او عظمة، تلك الفرص او الرهانات الاقتصادية، فان فرنسا لن تذهب ابعد من القرارات الاممية، حتى تتفادى اى نزاع مع السودان ، يمكن ان يسبب اضرارا للعلاقات التجارية الجيدة مع الصين .
بعد الظهر، صعدنا ، اخيرا ، وللمرة الرابعة خلال ذلك النهار، الى طائرة ترانسال ، التى اقلعت هذه المرة لتنقلنا الى ابشى فى ساعة وخمس واربعين دقيقة. .على الارض،كثفنا الاتصالات وبحثنا عن اى معلومة مفيدة لمهمتنا . فليس امامنا غير اسبوع لاكمال برنامجنا ، والاعداد لانفاذ عمليتنا " انقاذ الاطفال".
الاتصالات الاولية التى قمنا بها كانت جيدة ، وستكون فى مقبل الايام محددة. فى البدء هناك فرانسوا اكزافييه ، الطيار فى شركة الطيران الصغيرة ، التى قابلنا مديرها فى انجامينا.هذا الشاب البلجيكى، ذو الاربع والعشرين عاما، يقيم فى ابشى منذ عدة شهور، وقد قدمنا بسرعة الى المجتمع الصغير للمغتربين الفرنسيين ، فى ابشى، الذين يعملون لحساب المنظمات الطوعية او الوكالات الاممية. وقد استمرت المقابلات والمناقشات والتى مكنتنا من تقييم القوى على الارض والشراكات التى يمكن لنا ان نتوقعها .
وقد قدم لنا مسؤول الامن فى برنامج الغذاء العالمى ، تنويرا حول منطقة شرقى تشاد، المحاددة لدارفور.هذا الفرنسى ، الشرطى السابق ، يعرف المنطقة جيدا ، فقد ظل يقيم بها منذ عامين .وقد قدمت لنا المفوضية العليا للاجئين، خرائط اقليمية توضح مواقع معسكرات اللاجئين السودانيين، والنازحين. وكان بوسعهم ان يوفروا لنا المعدات التى نحتاجها : الخيام والمولدات ومعدات الراديو للاتصالات الخ .عديد من المنظمات وفرت لنا بقية المعلومات الضرورية .وقد كان بوسع منظمة او ام اس ،واطباءبلا حدود، بالمثل ان تمداننا بالمعدات الطبية ، حسب احتياجنا. وستقوم اليونيسيف بتوفير المواد اللازمة لتغذية الاطفال.
فضل ، احد شباب تشاد ، لايزيد عمره عن 18 عاما ، الذى قدمه لنا فرانسوا إكزافييه ، اثبت انه مرشد عظيم القيمة ، فهو يعرف ابشىء مثل معرفته بجيبه، فقد كان بمستطاعه ان يجد، وفى لمح البصر، كل مانحتاجه . وقد خلق لنا علاقة مع مؤجرى العربات، الذين وفروا لنا سيارات للبعثة . كما وجد لنا بيتين كبيرين للايجار.الامر الذى مكننا ، فى وقت قياسى ، من ان ننظم ونؤسس قاعدتنا الخاصة بانقاذ الاطفال فى ابشى.
فى اقل من يوم، استطعنا ان نفتح ابوابا واسعة للتواصل مع الحاكم والمحافظ ورئيس الشرطة، لتصديق وثائقنا الادارية وجوازات السفر وتصريح المروروالتصوير وانشاء البعثة الخ. وقد قدم لنا ، ايضا ، مدير احد البنوك ، والذى سمح لنا بفتح حساب مصرفى ، فى نفس اليوم.
لاشك ، ان الحظ كان مرافقا لنا ، وكان يغمز لنا بصورة منتظمة. فى مرا ت عديدة كنا نحن الثلاثة ، انا وكريستوف وايميلى ، نناقش ذلك الامر. وكانت ايميلى تذكرنى، فى كل مرة، بان ذلك لم يكن حظا. وان هذا التدبير امر طبيعى ، لاننا نعرف بالضبط مانبحث عنه ، واى الابواب التى يتعين علينا ان نطرقها، لنعثر على مانبحث عنه.وان ذلك لايسمى حظا وانما هو ، ببساطة،الكفاءة .
بعد ان تمكنا من حل كل المشكلات الفنية واللوجستية ، خلال ثلاثة ايام ، كانت أدرى، وجهتنا التالية. فأدرى مدينة حدودية بين تشاد ومحافظة غرب دارفور.تلك هى وجهتنا الاستراتيجية.اذ انه بدء من هذه النقطة على الحدود مع السودان، فاننا نستطيع الاقتراب من المجتمع الدارفورى.
وقد قررنا ان نذهب الى أدرى بالطريق البرى.وبالاحرى، بما يمكن تسميته بالممر الافريقى .اذ ان الاسفلت لم يعرف هنا. لذلك لابد من عربات دفع رباعى حقيقية ، لعبور المستنقعات وحواف الرمال ، فما من عربة تقليدية تستطيع ان تقطع ال 170 كيلومتر فى المسار الذى يفصل أدرى عن أبشى.
انا وكريستوف مولعان بعربات الدفع الرباعى ، وقد مارسنا معا سباقات بتلك العربات فى الصحراء المغربية ، الى جانب رياضة المشى لمسافت طويلة فى فرنسا. وهذه البعثة على طريق أ درى والتى يمكن ان تكون للمبتدئين تجربة، فانها تقدم لنا كحفلة للابتهاج وادخال السرور، او لنقل بضع ساعات من الترفيه خلال اسبوع من العمل لاجل تخفيف الضغط . فى الساعة الاولى، من المسار كان ثمة استجابة كاملة لتوقعاتنا ، حتى الوادى الاول. وهذا هو الاسم الذى يطلق على النهر وقت الفيضان خلال هذا الموسم الممطر.هذه الانهار ذات المهاد الرملى، والذى يبلغ عرض الواحد منها مابين 50 الى 100 متراً، تكون جافة تماما فى جزء من العام. لكن فى هذا الموسم، مع هطول الامطار الغزيرة، فانها تتحول فى بضع دقائق الى سيل جارف وموحل، قد يبلغ عمقه مترين. ومثلما يقال ذلك ،ايضا، مع عربات الدفع الرباعى الجيدة ، فان المستقبل يبدو معقدا بشكل جدى . ومن الاودية الرئيسية ،يوجد خمسة بين أبشى وأدرى .
الاول كان يبعد حوالى ساعة على طريق أبشى ، وقد اعطانا دلالة منذرة. فقد كان عرضه اكثر من 50 مترا، بعمق 60 سنتمتر الى 80 سنتمتر للمياه، فى ارض متحركة مليئة بالحفر الى جانب الاحجارالضخمة البارزة ، والتى يمكن ان تكون فخا كبيرا لعربات الدفع الرباعى .ويقتضى العرف المحلى ان نلفت انتباه السكان المتجمعين على جانبى الوادى ، كدلالة على امكانية العبور.هناك حوالى خمسين شخصا يعبرون الوادى راجلين لاجل تعيين المسار الذى يجب اتباعه من قبل عربات الدفع الرباعى ، وخاصة فى حالة الوحل.ويدفعون بكل ايديهم العربة ويجرونها ، حتى لايبتلعها النهر الغاضب.على بعد يقل عن 30 متراً ، ترقد عربة نقل على جانب ، نصفها بارز، ليؤشر لنا بوضوح بانه لايجب اللعب مع النهر، وان الخطر حقيقي. وكما يقضى العرف، ايضاً ، فانه ينبغى علينا ان نتفاوض على السعر مع السكان. وذلك سيكلفنا 15 مليون فرانك،( حوالى 23 يورو)، لاجل مرور دون عائق. وانه يجب مضاعفة القيمة، فى حالة وحل العربة وسط النهر، والذى سيجبر المرشدين على دفع العربة، لتخرج من الوحل.بعد بضعة دقائق من الاخذ والرد. انتهت المساومة.ومضى الامر دون عراقيل، فى شكل جولة جميلة بالعربة ذات الدفع الرباعى ، مع قليل من البهار.
بعد ثلاثة ارباع الساعة، وجدنا انفسنا فى مدخل الوادى الثانى. كان اصغر قليلا ، من ناحية العرض، من سابقه ، لكنه اكثر عمقا. جرت نفس الطقوس مع السكان المحليين. ومع ارتفاع الادرينالين فى لحظة الخروج من الوحل.مرة اخرى ، ها نحن نعبر.
أما وصول الوادى الثالث، فقد كان امرا مختلفا كليا. كانت الاشياء تبدو سيئة. يقدر عرض الوادى بحوالى مائة متر، وبحوالى 50 الى 60 سنتيمترا فى العمق ، على امتداد عرض الوادى.ماهو اكثر اشكالية ، هو ان فى المدخل حفرة بعمق 1.50 الى 1.80 متراً، بطول حوالى عشرة امتار.نزلت مع كريستوف، ومشينا على اقدامنا الى حافة النهر، بينما خبرتنا مع عربات الدفع الرباعى، تجعلنا نقول دون تردد:"هذا لايمكن عبوره". السكان المحليون، الذين كانوا ينتظرون " حقهم فى العبور"، حاولوا اقناعنا وحثنا على العبور." لاتخافوا من شئ . يمكنكم العبور، واذا حدثت مشكلة، فهناك من يقومون بعملية الدفع..."
ربما كانت التجربة مسلية لمحبى عربات الدفع الرباعى، مثلنا، لكن اغراق عربة فى عمق 1.8 متر من الوحل ، بكل اشيائنا ومعداتنا ، فانه امر لايسر. فكرنا وفحصنا بدقة فخاخ الوادى ، بينما كان الوقت يمر. بسرعة ، ظهرت عربات اخرى تحاول عبور الوادى من الجانبين. فى جانبنا ، كانت هناك عربتان تحمل بعض الاسر، وفى الجانب الاخر ، كانت هناك ثلاث عربات رباعية الدفع، تخص بعض المنظمات الطوعية ، الى جانب ثلاث عربات بك أب رباعية الدفع ، ايضا، خاصة بالجيش التشادى.كانت امكانية عبور عربات الدفع الرباعى للحفرة بدون معوقات امرا مشكوكا فيه .وقد تركنا المكان طوعا للعربات الاخرى، التى تريد خوض التجربة. كانت تلك عربة البيك أب العسكرية ، التى انطلقت بسرعة من الجانب الاخر للوادى ، فى اتجاهنا.وقد تخطت الثمانين مترا الاولى ،بعمق خمسين سنتيمتر، بنجاح، مع الطين المتطاير على جانبيها .لكن قدر للعربة ، وعلى بعد عشرة امتار من الضفة ، ان تقع فى الحفرة، ونظرا لسرعتها الزائدة، فقد غطست مقدمتها اولا.
ركاب العربة البيك اب ، وهم عسكريون تشاديون ، اثنان منهما فى سطح العربة واربعة فى الصندوق، قد قذف بهم – بامعنى الحرفى للكلمة- مع اسلحتهم وذخيرتهم ومعداتهم خارج العربة. وطارت اسلحة الكلاشنيكوف والصواريخ بعيدا ، لتقع على بعد عدة امتار فى الطين . كان المشهد سيريالياً. بينما بقى السائق واحد الركاب، مسجونين داخل الكابينة ، و المياه الطينية تبتلع العربة ، بحيث انه لم يعد ممكنا رؤية شيئ منهما غير راسيهما .اعتقد ان هذا مايقال عنه :" ان تكون وسط الاعداء حتى العنق".
فى الحال، وقع الهواة المحليون فى الماء لدفع العربة. وقداشترك فى ذلك حوالى ثلاثين من ذوى الاذرع القوية فى محاولة دفع وجر وتحريك العربة، لاخراجها من الماء.لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. فقد انغرست بقوة فى عمق الحفرة. قررنا ، كافراد صالحين ، ان نقدم لهم يد المساعدة، وجرهم بواسطة سلك معدنى يتم ربطه لعربتنا ، رباعية الدفع .لقد ذكرنا ذلك ، انا وكريستوف، بسباقاتنا فى مستنقع مورفان.لقد غطست عربة البيك أب فى الوحل حتى سقفها ، وامتلأ المحرك بالماء، وغطى الطين الركاب، من رؤوسهم حتى اقدامهم. واستغرق الامر العديد من الساعات لاجل النظافة من الطين والوحل ، الى جانب الاعمال الميكانيكية، لازالة اثار هذا المرور الاضطرارى فى وادٍ هائج. لقد كنا نشك فى الامر، لكن تأكد لنا ، الآن ، انه لايمكن عبوره.
فى نفس المساء ، وجدنا فرانسوا إكزافييه، الطيار البلجيكى ، وقد تناقشنا معه بشأن ان ياخذنا غداً ، انا وإميلى وكريستوف، الى أدرى بطائرته الصغيرة. وقد تم ذلك بالفعل منذ الفجر. وبعد اربعين دقيقة من الطيران ، بدلا من اربع الى ثمان ساعات فى طرق وعرة ، هانحن ، قد وصلنا الى المدرج العشبى الصغير فى أدرى.
وبعد ثلاثين دقيقة من السير راجلين ، والحقائب على ظهورنا، وصلنا نقطة عسكرية تمثل مدخل المدينة. وبعد اجراءات سريعة لفحص جوازات السفروالتصاريح الخاصة بالتجوال فى المنطقة ، قادنا عسكريون فى عربات بيك أب الى الحاكم.
هل كان ذلك ضربة حظ جديدة؟
لقد كان الحاكم، فى ذلك الوقت ، فى اجتماع مع العمدة وعدد من شيوخ الاحياء، الى جانب قائد القوة العسكرية .كانت تلك مناسبة ممتازة للتعرف للطبقة العليا المحلية، وللحصول على التصديقات الادارية ، وقبل ذلك، تقديم مشروعنا المتعلق بايجاد مركز استقبال لأطفال درافور اليتامى فى أدرى.
ومثلما فعلت المفوضية العليا للاجئين ، فى ابشى ،فقد نبهنا الحاكم – ايضا - الى ضرورة تقديم مساعدات للسكان التشاديين، الذين يحتاجون للمساعدة . وقد المح لنا بانه لاينظر بعين الرضا ، الى كوننا نساعد اطفال دارفور، دون ان نقدم العون – فى نفس الوقت - الى المحتاجين من الاطفال التشاديين.وقد اوضحنا له ، بطريقة ديبلوماسية ،بان منظمة انقاذ الاطفال، مهمتها هى تقديم المساعدة لكل الاطفال ، سواء كانوا سودانيين او تشاديين، لكن لأسباب واضحة ، تتعلق بالاولويات ، فاننا سنستقبل اطفال دارفور اليتامى اولا، قبل ان نفتح ابوابنا ، لاحقاً ، للاطفال التشاديين، الذين سيتم استقبالهم ، وفقا لعدد الامكنة المتاحة. وباختصار ، فان فى أدرى ، المدينة الواقعة على الحدود مع السودان ، ذات ال 4000 نسمة ، كانت الاحتياجات كبيرة. اذ لايوجد هناك من المنظمات، غير منظمة اطباء بلا حدود السويسرية. فقد غادرت كل المنظمات الطوعية والوكالات الاممية المنطقة، التى اشتهرت بانها منطقة مضطربة للغاية ، وخطرة ايضاً، وقد فضلت تلك المنظمات ان تستقر فى أبشى ، أو على مقربة من معسكرات اللاجئين السودانيين، فى منتصف الطريق بين أدرى وأبشى.
أدرى منطقة حدودية حساسة، نقطة ساخنة، فقد بقيت فى كثير من الاحيان، هدفا لهجمات المتمردين، وواحدة من النقاط الرئيسية لعبور اللاجئين السودانيين الهاربين من جحيم دارفور. فهنا مايمكن ان يسمى ب"الوجود فى الخط الامامى" . ولهذا السبب بالذات ،فاننا سنقيم قاعدتنا فى أدرى.
بعد الاجراءات الروتينية فى مكتب الحاكم ، ذهبنا الى مكتب الشرطة، ومن ثم الى ادارة الهجرة، واخيرا الى مكتب أمن المنطقة .وياله من سعى، ومن تزلف ...!.لكن كل ذلك قد تم انجازه خلال نهار واحد ، فماذا يريد المرء اكثر من ذلك؟ نفس الشئ ، ربما يحتاج انجازه الى عدة أشهر فى السودان! فثمة منظمات طوعية، وبعد ان بذلت مساع استغرقت سنوات، لم تستطع ، ابدا، ان تعمل فى دارفور.
يتعين علينا فى الوقت الحاضر ان نجد قناة اتصال محلية، لاجل البدء فى تكوين فريقنا، وفى المقدمة – من ذلك - ايجاد ارض او مكان لبناء قاعدتنا. ايميلى ، التى هى بطلة غير عادية فى مجال تحقيق الاتصال السهل، حددت " محمود"، لكى يكون وسيلة اتصالنا المحلى ، مثل "فضل"، فى أبشى ، أو "حسن"، فى انجمينا.
ولاجل اقامة قاعدة انقاذ الاطفال فى أدرى ، كان لدينا خياران ، الاول يتمثل فى المواقع السابقة للمفوضية العليا للاجئين ،وتضم مبنى كبيراً داخل ارض مسورة،والثانى يتمثل فى ارض قفر ، واسعة بعض الشئ ، لكنها مسورة ،ايضا.وفى الحالتين، فان بعض الخيام وبعض المرافق، تكون ضرورية. لكن الوقت لم يكن مناسبا، لتحديد اختيار نهائى، كما لم تكن هناك عجلة فى الامر، اذ اننا كنا الزبائن الوحيدين فى المنطقة.
قمنا بزيارة لمنظمة اطباء بلا حدود السويسرية،التى اطلعتنا على مستشفاها،وهو المؤسسة الانسانية الوحيدة، فى مساحة تبلغ خمسين كيلومترا. كان فريق المنظمة لطيفاً ومضيافاً. وقد رأى فى مقدم منظمة اخرى نهاية للعزلة، التى يعيش فيها. فى حالة الاحتياج الى نظام علاجى، فاننا يمكن ان نعتمد على مساعدتهم.وبالمقابل ، فانه اذا كان بمقدورنا ان نقدم لهم خدمة، فاننا سنفعل ذلك ، بكل سرور.لم يعد – بالكاد ، ثمة وقت لقول "أوف"، فقد بدأ العد التنازلى، اذ انقضت ثلاثة ايام منذ وصولنا الى أدرى،واصبح علينا ان نفكر فى كيفية الرجوع الى أبشى.حسب معلوماتنا ، فان الأودية قد هدأت منذ يومين ، وانه يجب علينا العودة الى أبشى عن طريق البر.سيكون ذلك مناسبة جيدة ، ففى طريقنا نستطيع ان نزور معسكرات اللاجئين السودانيين فى فرشانا وقاقا.
هانحن فى عربة الدفع الرباعى على طريق أدرى –أبشى ، وقد تمكنا من عبور الوادى الاول بسهولة . وكذلك الثانى. كانت معلوماتنا سليمة لحسن الحظ. لقد اوشك الليل ان يهبط ، وفى هذه المناطق، فان من الخطورة التجوال ليلا، بسبب قاطعى الطريق.كما يسمون هنا.وقد وصلنا بعد الظهر الى معسكر فرشانا ، حيث تتم دعوتنا لقضاء الليل فى قاعدة المفوضية العليا للاجئين.
كانت زيارة فرشانا، لحظة مفتاحية ، أيضاً، لبعثتنا الاستطلاعية .وقبل الوصول الى معسكر اللاجئين ، عبرنا القرية .وتوقفنا بضع لحظات لشراء بعض المشروبات الباردة. فقد كانت المناسبة نادرة والنهار حارًا.
خلال هذه الوقفة القصيرة ، التقى محمود باحد ابناء عمومته ، بضع دقائق للسلام وقليل من الثرثرة. الشخص المعنى ، ويالحسن المصادفة، هو رئيس مجتمع اللاجئين فى فرشانا. لاشئ يعدل ذلك. لذلك فان وصولنا لهذا المعسكر سيكون بالغ السهولة ، نتيجة تلك المقابلة. ولن تكون الاجراءات عند نقطة الشرطة، التى تحرس المعسكر سوى اجراءات شكلية. وفوق ذلك، فقد دعانا الى زيارة تعريفية للمعسكر.
الاتصال الجيد فى اللحظة المناسبة ، الى جانب السرعة والفعالية، اصبحت عادة بالنسبة لنا! كانت زيارة المعسكر لحظة شديدة الخصوصية. فقد كانت مناسبة بالنسبة لى لرؤية دارفوريين ، فى سياق مختلف، عما كان عليه الحال فى ابريل الماضى. مثلما كان مناسبة ، لكل من إيميلى وكريستوف، للتعرف على أهل دارفور، الذين كنا نحشد كل طاقة ممكنة لاجلهم ، منذ عدة اشهر.
لقد عرفنا ، أنا وايميلى ، معسكرات اللاجئين ، حيث التقشف، والبؤس، واوضاع الصحة والنظافة غير المستقرة، والاطفال الذين يجرون وراءك باسمين ،وهم يتسولون...
بالنسبة لكريستوف ، كان الاكتشاف عنيفاً ، والصدمة قاسية. لكن لحسن حظه ، انه كان هناك من اجل ان يصور كل ذلك. لهذا فانه قد تجنب مسألة التفكير للحظة فيما اكتشفه ، اذ ان له مهمة عليه ان ينجزها. من ناحية اخرى، فان الكاميرا قد عملت كمصفاة بينه وبين الحياة البائسة للمعسكرات، التى اكتشفها للمرة الاولى.
قريب محمود او ابن عمه ، قادنا ، تحديدا، الى المكان الذى كنا فى حاجة الى الحصول منه على معلومات بخصوص الايتام. كان هناك كثير من الايتام داخل المعسكر. لكنهم فى رعاية نساء وحيدات.( الارامل ، اللائى ليس لديهن اطفال ، فى غالب الاحوال.) بعضهم يبقى- مؤقتاً- فى رعاية أؤلئك النسوة الى ان يتم اخذهم من قبل اسر تقلص عدد اطفالها الى واحد او اثنين، وتستطيع ان تأخذ فى رعايتها بعض اطفال اخرين.بعد ساعتين من الاتصالات والمناقشات المفيدة مع اؤلئك النساء والاطفال،الدارفوريين ، فان افكارى انا وإيميلى، قد تعززت.رغم ان اؤلئك اللاجئين يشعرون بالاحباط ، وان حاجاتهم صارخة ، فى وقت تقوم فيه المنظمات الطوعية والوكالات الاممية، التى تدير المعسكر، بالحد الادنى من المطلوب عمله ،فانهم ، على الاقل، فى امان من خطر الحرب.اما بعثتنا ، كما صممناها ، فهى لاجل انقاذ الاطفال اليتامى ، الذين لازالوا يصطلون بجحيم دارفور. ومع ان وضع اللاجئين فى معسكر فرشانا مأساوى ، ومع انهم ابرياء ،محبوسون فى هذا المعسكر، وهم بلا امل اومستقبل، فانهم يحتاجون الى مساعدات اضافية ، الا ان ذلك ليس من اهداف بعثتنا أو اغراضها. .فنحن ملتزمون بالتمسك بهدفنا الاساسى ، لاننا لانملك القدرة على مساعدتهم. كما انه ليس من مهمتنا ان نحل محل المفوضية العليا للاجئين ، التى تشرف عليهم، وتتحمل المسؤولية تجاههم.
مقابلتنا مع احد مسؤولى مفوضية اللاجئين، تمحورت حول ما أعرفه وما اعتقده بشأن" سيستم "الامم المتحدة .ايميلى وكريستوف ، اللذين لايملكان خبرتى حول الموضوع ، كانا يحتاجانها ، لكى يفكرا جيدا ، عند الاستماع لهذا الشخص ، وهو يقول لنا ، فى لهجة سخيفة:"هؤلاء اللاجئين لم يشتكوا ، هنا ، فهم فى هيلتون افريقيا."
هذه الاحاديث الصادمة، على مرأى من الحياة البائسة التى يحياها اللاجئون الدارفوريون،كان لها صداها فى نفوسنا نحن الثلاثة ، لكنها لم تثر فينا غير النفور والاشمئزاز، وفق تجربتنا مع "السيستم" الاممى .
قضينا الليل ، فى نهاية الامر، فى بيت الضيافة "المكندش" ، الخاص ببرنامج الغذاء العالمى، على بعد كيلومترات من المعسكر، على ان نرجع الصباح الى أبشى ، دون ان تكون رحلة العودة مجردة من التحلى بالشجاعة، مرة اخرى، فى مواجهة الاودية.
ثمة نهار اخير تبقى فى ابشى، لاستكمال تفاصيل منظمتنا ، ولاجل تحديد الجوانب المختلفة لمهمتنا الاستطلاعية. لقد توفرت لنا كل التصاريح الضرورية ، والاجابات على المسائل الفنية ، والحلول اللوجستية ، وقد اسسنا شبكة الاتصالات التى نحتاجها، و توفر لنا ، فى شخصى فضل ومحمود ، اول منسقين محليين . ولم يبق سوى شئ واحد يفرض نفسه. وهو العمل الجيد. فنحن مواجهون بالعودة فى غضون خمسة عشر يوما، من اجل اطلاق عملية "انقاذ الاطفال".
مسك الختام، كانت عودتنا الى نجامينا ، فى طائرة ترانسال، فى صحبة قائد القوة الفرنسية فى تشاد. كانت تلك مناسبة نادرة ، ايضا، لنعرفه على مشروعنا ، موضحين له باننا فى سبيلنا لفتح مركزين لاستقبال يتامى من دارفور،واحد فى أبشى واخر فى أدرى ، وقد رأى اننا شجعان للغاية بالتمركز فى أدرى، النقطة الساخنة على الحدود، وقد اعطانى كرت الزيارة الخاص به، قائلا:"اذا كنت فى حاجة لأى شىء، اياً كان، فلا تتردد." كان ذلك امرا جديرا بالملاحظة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.