(1) ترددت كثيرا وبعد طول غياب عن الكتابة فى الشأن العام ان تكون عودتى إليها من باب الخاص, وان كان مادعانى إليها هو قريبا جدا من العام بل هو فى إشتباك وربما خصام معه.المناسبة كانت زيارتى لبلد الديمقراطية الاولى فى العالم ان صح التعبير…المملكة المتحدة وعاصمتها لندن لقضاء فترة الاجازة مع الشقيق والصديق اسامة وحرمهم المصان مها الطريفى. والواقع يقول أن ثمة غربة فى الوطن أو منفى داخلى كنتاج لعالم ملىء بالقبح وظلم الانسان لأخيه الانسان والتعاسة والقسوة والبشر المهانيين…وفى الضفة الاخرى يوجد التطلع الى عالم أكثر عدلا وجمالا وإنسانية (2) حقا, فقد احالت الديكتاتورية الوطن الى جحيم لايطاق وذلك عن طريق تجفيف ينابيعه الثقافية والتعليمية وتخريب الاقتصاد الوطنى…فلم تعد هنالك دور للسينماء والمدراس التى كانت تعج بالمسرح والجمعيات الادبية لم تعد هى بذات الملامح وحلت محلها جمعيات ذات صبغة امنية تعمل على إستقطاب الطلاب وغسل امخاخهم…فكل شىء ذهب ادراج الرياح وماعاد الحمام يأتى بالسلام…فهى تماما كما خاطب الشاعر الكبير مظفر النواب الوطن بعد الخراب والضياع قائلا: أنقذنى من مدن يصبح فيها الناس مداخن للخوف وللزبل مخيفة من مدن ترقد فى الماء الآسن كالجاموس الوطنى وتجتر الجيفة سئل صاحب مدرسة الواقعية السحرية فى الادب الروائى العالمى غابريل ماركيز بعد طول غياب من الوطن:( لماذا عدت إلى الوطن بعد طول غياب؟ فأجاب لان سحابة الديكتاتورية انقشعت الآن عن سماء بلادى) عندما لامست إطارات طائرة الخطوط الجوية التركية مطار هيثرو الدولى قلت لنفسى آوى إلى جبل يعصمنى من ماء الاصولية المالح فى بلادى التى يلفها الضيم والدمار والقتل والتقتيل الذى هو من اجل المحافظة على السلطة والتسلط على عباد الله المساكين!!!وترآى لى الوطن من بعيد كظلال ومرآيا لخلفية مسرح العبث السودانى..فلم تعد هنالك عزة للنفس بعد هذا الخراب هكذا كنت اقول لنفسى فى عرءات الفقر الضارى وبكل ماتحمل الكلمة من معنى. (3) لحظات ووجدت نفسى امام موظفة الهجرة وهى على الدسك تسألنى والابتسامة العريضة التى لم انساها ترتسم على وجهها وتبادر بسؤالى عن سبب الزيارة…..وماهى سوى لحظات وكانت تلك البنية البتشبه القمر البتاوق من السماء شكلا ومضمونا(مها الطريفى) فى انتظارى……وتعانقنا عناقا حارا بعد طول غياب…ولكم وحشتونى ايها الرائعون…المدينة كما هى الطرقات التى تغطيها الاشجار الخضراء…الفتيات والنساء المغلفات برائحة الورد…أيتها المتألقة وحدك ولا احد غيرك أنتى ضوئى!! كثيرون منا يختصرون المدن فى مفردة تجافى حقيقة اى مدينة..فمثلا لندن بالنسبة لى ليست ساعة بيك بين ولا باريس هى برج افيل وانما هى (اى لندن) كما قال رئيس الوزراء السابق تونى بلير فى اعقاب الهجمات الارهابية على بلاده ان الارهابيين استهدفو طريقة الحياة اللندنية…وحقا هى كذلك فالذى يدهشنى ليس السيستم او النظام كما يعتقد الكثيرون ولكنى مايجعلها محببة الى نفسى انها بلد الاستنارة الاول, فأنت ترى كل البشر وبجميع سحناتهم واعراقهم فى تلك البلاد والمدينة وكما قال عمدة لندن ان هنالك 300 لغة يتكلمها قاطنى تلك المدينة..ياله من مجتمع متعدد الثراء الثقافى وقادرا على العيش المشترك فى وئام وانسجام. وهى ايضا تحترم التعدد الدينى وبأمكانك رؤية الجامع والكنيسة فى شارع واحد وعلى مرمى حجر من بعضهما بدون اى توترات..بل حتى اختلاف الازياء اولم يقل رب الكعبة وجعلناكم شعوبا وقبائل لنتعارفو وتلك الحكمة التى تناسها الاسلاميون ودعاة الفتة فى بلادى مع سبق الاصرار والترصد لكى يحافظوا على الامتيازات السلطوية لنادى النخبة النيلية وكأنها مسألة سرمدية. (4) المدينة تقهر السأم والنسيان…السماء ذات الغيوم تلامس فخذيها وهى مشرئبة الاعناق…البحر له رائحة الموز…على غير العادة ولمدة ثلاث اسابيع يتساقط المطر….وزخاته والرزاز الذى لايتوقف…يالها من اجواء خريفية تنعش الروح التى اتعبها الطين على رأى مظفر النواب..فيتناثر الجسد محمولا فوق الطرقات والشجر والحياة نهر دافق من الحلم الجارى والبشر يعطونك الاحساس بالأقبال على الحياة…على عكس البشر فى بلادى فالبؤس يسيطر على الوجوه المتعبة وتراه بالعين المجردة….ومع كل هذا من فى اريحية اسامة ومها فى إكرام وفادة الضيف والاحتفاء به حد الثمالة ولاانسى نقد واشراقة الذين غمرونى بحبهم الدافق سلاما يامن ادخلتم البهجة على نفسى….نقد هذا الشرير الملعون الجميل يدخل مسام العوالم الغير مكشوفة نحو ينابيع عالم(الهو) مصحوبا بدعابة تتبدد السأم وتطرد اليأس…احبكم جميعا يامن تشبهون قطرات الندى وزخات المطر الذى ابهرنى بضوئه الخاطف ولمدة ثلاثة اسابيع فى ازمنة الاختلال والبؤس الذى يخيم على الروح العزلاء فى بلادى.فأنتم منحتمونى إجازة جميلة لكنها ليست بأجمل منكم وبددتم الصيف الممسك بحواف القلب…وحينما اخلو الى النفس ذات مساء سوف اتذكر تلكم الكواكب التى اهديتمونى اياها فى عالم تسيطر عليه العلاقات التجارية وعلائق الربح والخسارة….ويا نقد وأسامة مازلت اتذكر تلك المشاوير وسباق المسافات القصيرة من الهايد بارك الى شارع اكسفورد والانس الجميل الذى يتخطى المألوف وخارقا لليومى….ومن ناحيتى احلم بأن تكون الخرطوم مدينة كزوبليتان تتحتفى بالتعدد الاثنى والدينى بالرغم من مئات السنوات التى تفصلنا عن اروبا ثقافيا وحضاريا!!! ولكن السؤال الجوهرى كيف تكون كذلك فى فضاءات سياسية واجتماعية يملؤها المحل والجفاف وسيطرت مناخات القرون الوسطى على كل شىء بدءا بالتعليم والاعلام بكل اشكاله وانتهاءا بالاقتصاد والسياسة ومناخ الاقصاء والطرد والاحادية الثقافية والدينية التى لا تقبل التعدد؟؟؟ على كل لكم حبى يا أصدقاء الزمن المجنون اسامة ومها ونقد وأمين والرائعة سلوى الذين تبعثرتم كالنيازك فى ارجاء المعمورة…يامن اقتسمتم معى المطر والضحكة والقرقراب فى زمن الفجيعة…ومنحتمونى نسيجا موشى بألوان الفرح الذى سرق منا زمانا طويلا ولكن فى تلكم المدينة للعشب رائحة مختلفة وكل النقائض تتمتزج كما تمتزج الالوان والاعراق وعلى نحو عصى على التفسير والمدينة ايضا تبدو شابة وكحسناء تنهض من سباتها الطويل وللنساء رائحة البحر والعائدين بعد منفى طويل..فا ايها الاصدقاء الجميلون ارفعو اكفكم بالدعاء ليكون لنا وطن جميل وصيحو بأعلى صوتكم ضد الرصاص واختارو جانب الحب!!!!!