الدَّفعُ بعرفات! قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش، لا أدري أقبل الفيل، أم بعده، ابتدعت رأي الحُمْس. [والحُمْس: هم أهل الحرم]. فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة، وولاة البيت، وقُطَّان مكة، وسَاكِنُها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب، مثل ما تعرِف لنا. فلا تعظموا شيئا من الحِلِّ، كما تعظمون الحرم. فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا قد عظَّموا من الحِلِّ مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرُّون أنها من المشاعر والحج، ودين إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها. إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها، كما نعظمها نحن الحُمْس. قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل عليه الوحي، وإنه لواقف على بعير له، بعرفات، مع الناس، من بين قومه، حتى يدفع معهم منها، توفيقا من الله له! حُجبت الشياطين عن السمع! قال ابن إسحاق: فلما تقارب أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحضر مبعثُه، حجبت الشياطين عن السمع. وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم. فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد. فلما سمعت الجن القرآن، عرفت أنها إنما منعت من السمع، قبل ذلك، لئلا يشكل الوحي، بشيء من خبر السماء، فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه، لوقوع الحجة، وقطع الشبهة. فآمنوا وصدقوا. ثم:" وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُستَقِيمٍ ". الأحقاف:29- 30. ما مؤمنو الجن كأنجاسها! قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي: أن جَنبا [قوم من قبائل مَذْحَج وسموا جَنبا لأنهم جانبوا بني عمهم صُداء، ويزيد بن مذحج] كان لهم كاهن في الجاهلية. فلما ذُكر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وانتشر في العرب، قالت له جَنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل. واجتمعوا له في أسفل جبله، فنزل عليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائما، متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو. ثم قال: أيها الناس، إن الله أكرم محمدا، واصطفاه، وطهر قلبه، وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم أسند في جبله، راجعا من حيث جاء! قال ابن إسحاق: قال عبدالله بن كعب: قال عمر بن الخطاب يحدث الناس: والله إني لعِندَ وثنٍ، من أوثان الجاهلية، في نفر من قريش، قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه، ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا، ما سمعت صوتا قط أنفذ منه، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه [أي دونه بقليل]. يقول: يا ذَرِيح، أمرٌ نَجِيح، رجلٌ يصيح، يقول: لا إله إلا الله! ويقال: رجل يصيح، بلسان فصيح، يقول: لا إله إلا الله. وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر: عجبتُ للجنِّ وإبلاسِها وشَدِّها العِيس بأحْلاسها تهوِي إلى مكة تَبغي الهدى ما مؤمنو الجن كأنجاسها! قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا من الكهان من العرب! تقارب زمان نبي! قل ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، لما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان. وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا. وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور. فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه قد تقارب زمانُ نبيٍّ، يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، أجَبناه، حين دعانا إلى الله تعالى. وعَرَفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به. ففينا، وفيهم، نزل هؤلاء الآيات من البقرة: " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ". البقرة: 89.