هاشم كرار لم أستغرب، إطلاقا. في الحقيقة، كنتُ سأستغربُ –كثيرا- لو لم يهاتفني.. يعزيني في الكاتب الصحفي- الشفيف جدا- الأستاذ كمال حنفي. رنّ الهاتف. أول مانظرتُ إلى الرقم، أقسمُ أنني ربطتُ- ربطا سريعا- بين المكالمة التي ستكون، وبين كمال حنفي، الذي لم يعد كائنا بيننا، في هذه الدنيا.. هذه الدنيا التي لن يكون فيها ذات يوم من أحد كائن، ولن.. لن تكون! أعرفه تماما ( in and out ) كما يقول الانجليز، والعشرة عشرة عمر، في الوطن: رجلا قريب الدمعة، مثل.. مثل شمعة! ما أعرفه في الأستاذ احسان غزال-المدير التنفيذي للوطن- يعرفه فيه - بصورة خاصة- كل فريقه في الجانب الإداري.. وفي الجانب التحريري والفني في (قطر للإعلام والتسويق) المؤسسة التي بناها من.. من (مافي)! - مرحبا يا أستاذ.. و... جاءني صوته فيه رقرقة دمعة: " من كتابتك، أبكاني أنا أيضا موت كمال حنفي.. أبكاني (إلا قليلا) .. انفلتُ بمقدار لمحة، من حديثه. رحت أتخيّله- بعد أن استكمل هو ماكتبتُ عن حنفي- أتخيله كما رأيته بعينىّ الإثنتين هاتين، ذات يوم وأنا أدخل عليه معزيا.. في اليوم التالي لرحيل أحد موظفيه - المرحوم عبدالناصر جمال- الذي كان قد مات، بطعنة قلبية، خلال ممارسته لتمارينه اليومية. كان على مكتبه، وجهه بين كفيه، رأسه إلى أسفل قليلا، ودموعه تتساقط تف.. تف.. تف! يومذاك، أشفقت عليه، وأنا أقول لنفسي- بيني وبينها- " هذا الرجل الي لاتزال دموعه تتساقط، لليوم الثاني، أخاف عليه حقا أن تقتله دمعة" انفلتّ من تخيلي،وعدتُ للصوت- صوت الأساتاذ احسان غزال- كانت لا تزال فيه رعشة بكاء: " أنا أعزيك.. وما يخفف الألم أن الذي يترك أثرا لا يموت. نحن نقول إن الذي يترك علما نافعا ( خلف) وكمال حنفي الذي ترك كتابات ذكية ، وجميلةكما تقول- هو- بالتأكيد- كمان (خلف)! أظن أنني- الآن- لستُ في حاجة لأن أقول لكم ، ما أعرفه ثانيا عن الأستاذ احسان غزال: " إنه رجل انسان، بامتياز.. رجل تربطه بالآخر- أي آخر- علاقة رحم، هو رحم الإنسانية الكبير.." وأظن أيضا أنني لست في حاجة، لأن أقول لكم، أنه رجل لا يتخلف عن أداء الواجب" أنظروا: أنه يبكي رجلا، لا يعرفه على الإطلاق، على المستوى الشخصي، ولم يسمع به، إلا وهو في البرزخ.. لم يسمع به إلا –فقط- من مجرد عمود لكاتب لم يلتق الراحل إلا.. إلا عبر مكالمة هاتفية قصيرة! أنظروا: إنه يسرع يعزي، وفي صوته رقرقة دمعة.. يُعزي كاتبا في كاتب، وليس بين الإثنين علاقة دم، ولا مصاهرة، ولاجوار، ولا صداقة.. فقط، علاقة الكتابة، وما أشرفها- عند احسان غزال- من علاقة.. وما.. ما أجملها. كمال حنفي، كان كاتبا شريفا. كان كاتبا جميلا في صحيفة (الرأى العام) السودانية.. ولعل ما استوقف الأستاذ احسان غزال في حنفي الذي لم يقرأ له- إطلاقا- أنه عرف عنه- من كتابتي- أنه كان كاتبا (ثعلبيا) لا يصطاد الفكرة، التي يمكن ان يصطادها غيره من الكتاب، والأفكار( على قفا من يشيل) في قارعة الطريق! ما استوقفه فيه- حد رقرقة الدموع لموته- انه عرف ان حنفي، صيّاد أفكار يصورة ألمعية، وأنه رجل يعرف كيف ينزل الفكرة على الورق، بصورة مدهشة.. رجل يعرف كيف يمسك بذهن وقلب وروح وأعصاب وأنفاس قارئه ،من اول جملة، إلى أخر جمله، بفنيات كتابية عالية.. وبصورة ذكية جدا، لا تخلو من الإرباك الجميل! الكتاب الثعالب، لا يستدرجون – عادة- إلا القراء الثعالب.. لا يستدرجون، إلا القراء الصيادين.. والكتابة.. الكتابة صيد، وكذا القراءة، و.. ما.. ما أغلى السهام تلك التي تطيش، وتخطئ، وما أفدح الضياع! آه، قبل ان أنسى، أقول لكم ما أعرفه أيضا عن الأستاذ احسان غزال: إنه قارئ (ثعلبي) صياد.. يكفي أنه يفتتح يومه بما يكتب سمير عطا الله. يكفي أنه يقول للروائية الثعلب أحلام مستغانمي: " صدقت يا أحلام.. الأسود يليق بنا جميعا" وتلك بالمناسبة جملة كان قد قال بها في الخرطوم، قبل أيام كاتب ثعلبي، أسمه ضياء الدين بلال!