أخيراً أسدلت محكمة أول درجة الستار على أولى القضايا في مواجهة رموز النظام السابق، فقضت بإدانة عمر حسن البشير بتهمة الثراء الحرام والتعامل غير المشروع بالنقد الأجنبي، وقررت وضعه بمؤسسات الرعاية الاجتماعية والإصلاح لمدة عامين. وهذا الحكم بكل المعايير حكم تاريخي للظروف التي صدر فيها، فهو أول الأحكام التي تصدر في إطار التصدي للفساد المالي خلال فترة الإنقاذ، كما أنه أول حكم يصدر في مواجهة رئيس جمهورية لجرائم ارتكبت في عهده منذ أن نال السودان استقلاله. ويثير هذا الحكم عدداً من الدروس المستفادة التي يتعين أخذ العبرة والاستفادة منها في مسيرة تطوير النظام القانوني والقضائي وإرساء قواعد دولة القانون. أولاً: اتسم الحكم بجهد مقدر في التحليل والتسبيب والرجوع للمصادر القانونية للاسناد، وصيغ على مستوى عالي من المعايير المهنية لصياغة الأحكام القضائية، وبذل مولانا الصادق عبد الرحمن الفكي طاقة كبيرة في الوصول للعدالة من خلال حيثياته وأسانيده، مما يدحض القول بتعميم فساد الأجهزة العدلية وضعف أدائها، وتهافت حجة القائلين بأن كل الذين تم تعيينهم خلال فترة الانقاذ هم من منسوبي ذلك النظام . فقد قدم مولانا الصادق دليلاً عملياً على أن السلطة القضائية لا تزال تتمتع بقضاة على المستوى المهني المطلوب. ويتعين أن يتم إصلاح السلطة القضائية من خلال مجلس القضاء العالي الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية والذي تأخر إصدار التشريع المنظم له كثيراً ، باعتبار أن مجلس القضاء العالي هو الجهة التي تحفظ للقضاء استقلاله وتصونه من تدخل السلطات الأخرى في الدولة ، ولا يكون إصلاح السلطة القضائية من خلال لجان خارجية عنها قد تجعل من إجراءات الإصلاح المنشود عملية تمكين عكسية لجهات سياسية أخرى. ثانياً: يجب أن تطال المساءلة القانونية الذين أفسدوا في عملهم القضائي والذين تم تعيينهم لأغراض التمكين دون مراعاة الضوابط اللازمة للتعيين في السلطة القضائية ، وليس كل قاضي له توجه وفكر سياسي معين. فلا تؤثر عقيدة القاضي السياسية على أهليته القضائية ما لم تتدخل في قضائه. ثالثاً: كشف الحكم عن عقبات قانونية حقيقة تواجه الحكم العادل الذي يحقق مقتضيات الانصاف والوجدان السليم في مواجهة الذين يتم تحريك الاجراءات القانونية ضدهم من رموز نظام الانقاذ، وتشمل عدداً من القواعد التي تم إدخالها في التشريعات المنظمة بعد قيام الإنقاذ، ومن بينها ما نصت عليه المادة (48) من القانون الجنائي لسنة 1991 والتي ذكرت أنه في حالة الشيخ الذي بلغ السبعين من العمر فيجوز للمحكمة تسليمه لوليه لرعايته أو تغريبه أو إيداعه إحدى مؤسسات الإصلاح والرعاية لمدة لا تتجاوز سنتين. وسار على نفس الاتجاه البند الرابع من المادة (33) من ذات التشريع حيث نص على أنه في غير حالة جريمة الحرابة لا يجوز الحكم بالسجن على من بلغ السبعين من العمر فإذا عدل عن الحكم بالسجن أو سقط لبلوغ عمر السبعين تسري على الجاني عقوبة التغريب. ووجه المفارقة في هذه النصوص بالنسبة لقادة نظام الإنقاذ أنهم حتى سقوط النظام كانوا يديرون الدولة باعتبارهم أكفأ الناس وأصلحهم للقيادة دون اعتبار لعامل السن، فما الذي تغير عندما آل الأمر من قيادة الناس إلى الخضوع للمحاسبة، بما يجعل غير مؤهلين للخضوع لعقوبة السجن؟. النص الذي يعفي كبار السن من عقوبة السجن نص دخيل على القانون السوداني ولم تتم دراسته بالقدر الكافي ولا توجد دراسات مقارنة حقيقية تبرر وجوده في القانون السوداني، فالقانون الجنائي السوداني لسنة 1991 هو مشروع القانون الذي وضعته الجبهة الاسلامية القومية خلال فترة الديمقراطية الثانية، وعندما آل لها الأمر بعد انقلاب 1989 تم إجازته كبديل لقانون العقوبات السوداني لسنة 1983 مع تعديل طفيف أضيفت بموجبه مادتان للمشروع، دون أن يخضع لأي دراسة أو مقارنة ، وإنما كان فعلاً سياسياً ضمن مشروع الجبهة الاسلامية الكبير في تغيير المنظومة التشريعية. وتوجد عقبة أخرى يتعين النظر لها بالتقدير الكافي وهي قاعدة التقادم المسقط للدعوى الجنائية والتي نصت عليها المادة 38 من قانون الاجراءات الجنائيةلسنة 1991 فأوردت: (لا يجوز فتح الدعوى الجنائية في الجرائم ذات العقوبات التعزيرية إذا انقضت مدة التقادم بدءاً من تاريخ وقوع الجريمة وهى: أ- عشر سنوات في أي جريمة معاقب على ارتكابها بالإعدام أو بالسجن عشر سنوات فأكثر، ب- خمس سنوات في أي جريمة معاقب على ارتكابها بالسجن أكثر من سنة واحدة، ج- سنتان في أي جريمة أخرى) فهذا النص يمثل عقبة قانونية وتحدياً تشريعياً أمام الحكم في الجرائم التي تجاوت مدتها الفترة التي حددها التشريع المذكور بما في ذلك جريمة تقويض النظام الدستوري عام 1989، ولا يمكن تجاوزها إلا من خلال تعديل دستوري يعيد الأمر إلى نصابه على غرار ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من عدم تطبيق قاعدة التقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم القتل خارج نطاق القضاء وانتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني والفساد المالي وجميع الجرائم التي تنطوي على إساءة استخدام السلطة. رابعا: رغم أن الجلسة الأخيرة كانت محط أنظار العالم من خلال القنوات الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي التي نقلت الحدث، وكان ذلك أمراً متوقعاً وطبيعياً، إلا أن الاستعداد الاعلامي له لم يكن على المستوى المطلوب، فلم يكن نقل الصوت واضحاً، فقد نقلت وقائع الجلسة قناة السودان الفضائية ونقلته عنها معظم القنوات الاقليمية والعالمية التي اهتمت به، إلا أن قناة السودان الفضائية في أحوالها العادية تعاني مشكلة هندسية في نقل الصوت مقارنة بالقنوات الأخرى المنافسة، مما انعكس أثره على نقل الحدث بمجمله. كما أن طريقة مولانا الصادق في إلقاء الحكم كانت تحتاج إلى تدريب خاص ليكون أكثر وضوحاً. ومع أن القاضي ليس إعلامياً بالمعنى الفنى للكلمة إلا أنه في حالة جلسة بمثل وزن الجلسة المذكورة يلعب هذا الدور، ولا يعيب القاضي أو ينتقص من أدائه المهني التدريب على إلقاء الحكم بطريقة واضحة ومفهومة. خامساً: تعاملت المحكمة مع الذين خرجوا عن نظام الجلسة وسلكوا طريقاً مخالفاً للطرق المرعية في مناهضة حكمها ، بالحزم والتسامح وذلك بالأمر بإخراجهم من قاعة المحكمة حسب القاعدة التي وضعتها المادة 138 من قانون الاجراءات الجنائية، ولم تلجأ لتطبيق قواعد أشد ضدهم وكان بيدها القيام بذلك، ويقني أن مثل هذه الطرق في الاخلال بنظام المحاكم لا تكسب اصحابها حقاً لا يصلون إليه بغير الوسائل المعتادة والقانونية في الاستئناف والطعون ، ولا تسجل لصالحهم هدفاً سياسياً. فالأولى احترام القضاء واتباع طرق الطعن القانوني لدحض أحكامه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.