من الحِكَم التي كانت سائدة وسط عقلاء الفصائل المعتدلة من الحيوانات، وجرت على ألسنة كبارها لسنوات: - من الأحسن أن تتعايش مع من لا تستطيع التغلُّب عليه. ومع أن عقليَّة هزيمة الآخر، والتغلُّب عليه ونفيه، والتعامُل معه وهو صاغر، من حيثُ المكون الثقافي، أوالعرقي، أوالعقائدي، تنبعُ من منابعِ السُّوء، والمرض، إلا أنه كانَ، وعلى الدوام، باستطاعة أصحاب تلك العقليات أن يحظوا بنفوذٍ ويجدوا مستمعين، ويتحلق حولهم التابعين، وأن يفوزوا وينالوا حُظوةً، ونصيب في صدور المجالس، وفي الصفوف الأمامية للمحافل. وقد لازمت تلك ظاهرة التاريخية، وما تزال، مسيرة هذه الغابة، والغابات الأُخرى، حتى وإن كانت مُجرَّد: وميضٌ تحتَ نار! وكانت فصيلة الأسود، التي دانت سلطتها، وآل نفوذها للبؤة واللبؤات من صلب الخال العريني، هي الفصيلة التي حملت على عاتقها بثُّ بُذُور الفُرقة والإنقسام على تلك الأسس البغيض، ومالت نحو الحيوانات المفترسة، وذات المخالب، وتحالفت معها، ووظفتها لحماية عرينها القذر، والهالات الملتفة حوله، من أرزقية الحيوانات، ومنتفعيها، الذي لا يجتهدُون لا في العمل، ولا في الصيد، ويقتاتون على ما يتطفلون عليه من بقايا طعامٍ، أو فضلات الموائد، والكرتة ويتعدون على آكِلَات العشب، والطيور، معتبرين إياها حيواناتٍ من الدرجة الثانية، ويستبيحوا غذائها، ودمها، وأرواحها، مهدرين حقوقها، وممعنين في اضطهادها، باستغلال ميلان كفة ميزان القوى، ذلك الميزان الذي إختل بليلٍ بهيمٍ من ليالي الغابة المنحُوسة، واستثماره لصالح فصيلة الأسود الهازلة، والكلاب المستأسدة. وبخلاف الفصائل التي تحكم، الآن، فإن الكُل كان يحتكِم لقانُون الغابة ويرعاه، بل كانت هناك أقسام متقدمة من الحيوانات تعمل على تطويره، وتهذيبه، وتعملُ على اتساقه مع سامي القيم، والأخلاق، ومُنجزات العِلم. صحيح، إن الحيواناتِ كانت تقتتل فيما بينها، ويفوزُ بعضُها على بعضٍ، في صراعٍ شرسٍ فرضته الطبيعةُ، ولكن ذلك كان في حدود تلبية متطلبات السلسلة الغذائيّة، ولم تعرف الحيواناتُ في غابة السعد (القتلَ لمجرَّد القَتل) إلا في الزمن الراهن: زمن سيادة اللبؤة وأسودها الجرباء، ونحس الغابة، وفألها الشوم. كان يقُوم بتنفيذ القتل العشوائي، والتصفيات قتلةٌ مُحترفون من فصيلة الكلاب اللاهثة، والذئاب، والضِّباع، وكان ينبني أغلب تلك الجرائم على معلوماتٍ مُستقاة من تقاريرٍ جمعتها حيواناتٌ رخوة، داجنة، أبرزها الدجاج، الذي كان يصيحُ، ويكاكي عندما يريد الإشارة إلى سهولة قتل، أو إعتقال، وبالتالي تعذيب هذا الحيوان، أوذاك... وكانت التقارير المفضية إلى الموت تلك تفتقد الدقة والعلمية، وتفتقر إلى الأمانة وتصاغ على اساس الإنطباعات والمصالح الشخصية وتصفية الحسابات. ولولا التخفِّي، والعمل من خلف سُتُر، لما استطاع ذلك الدجاج المهيم أن يعيسُ فساداً في مجتمعات الغابة ويعيق الحياة الطبيعية اليوميّة فيها. ولكنه كان يعلم أن الثعالب الآن في جحورها، تفادياً للإستِهداف، ولحرب الإبادة التي شنتها وتشنها كلاب اللبوة، وذئابها، وضباعها على تلك الفصيلة الصامدة، من حيوانات الغابة الذكيَّة، وبالتالي فإنها لا تشكل خطرا جدياً عليه عليه، ولا خوف منها، ولا جزع، ولكن، وبرغم القهر، والملاحقة، والتشريد، اختارت بعضُ الثعالب البقاءَ فوق سطح الأرض، خارج الجُحُور، بينما هاجر بعضها إلى الغابات الأخرى، مغترباً إن أتيح له ذلك، أولاجئاً أن كانت الأمور على غير ما يُرام، وكانت فصائلٌ، عديدةٌ، قد حذت حذو الثعالب، وهي مُكرهةٌ، ولسان حالها: - قلبي عليك، يا غابة السعد! وكانت الطيور المسالمة، من أكثر الفصائل التي شملتها موجات الهجرة، لقدرتها على الطيران من جهة، ولكثافة الخطر التي يهددها، ويُهدد صغارها، وينزع عنهم الأمن، ويصادر المنام ويحيله لسهر. وقد لا يستطيع بعضُها العودة، للعيش في غابة السعد مرةً أخرى، التي نحستها اللبوة أيّاماً وليالي، لطبيعة التغييرات التي حدثت، وعلى مدى طويل، في التواؤم مع ظروف معيشتها وحياتها في غابات المهجر. ولو أنه ما زالت هناك قناعة عند الكثير من الحيوانات، بأن الأغلبية ستلبي نداءات العودة الطوعية، متى ما هبت رياحُ التغيير، وحان حين الجيَّة... ولكن لن تكون عودة الطير المهاجر، الطوعية، بديلاً، ولا رديفاً لجية النوارس: أبداً... أبداً! لقد كانت غابتنا غابةَ سعدٍ فعلاً! ودون التوغل في تاريخ الغابة، الممتد، الطويل، فأنه يمكننا القول، بأن الغابة عندما كانت سعيدة، قد خاضت حربين، واحدة للتحرير، ودارت قبل ما يقارب القرن ونصف القرن من الزمان، وأخرى للإستقلال كانت قد تكللت بالنجاح قبل أكثر من نصف قرن... وفي الحربين، لم يكن هناك أثرٌ لفصيلة الأسود الهازلة، فيما وجدناه من وثائقٍ تحدثت بالتفصيل عن تاريخ الغابة، ويبدو أن أسود الغابة، الأصيلة، قد هاجرت أو اندثرت، وتركت مكاناً شاغراً، احتلته، بالمصادفة والحظ العاثر، الأسود الهازلة واللبؤات بعد حرب الإستقلال بزمنٍ يكاد يساوي العقدين من الزمان.