عاجل.. دويّ انفجارات في أمدرمان والجيش يتعامل بحسم    وفاة صحفي سوداني    قرارات مهمة لنادي الهلال السوداني    مَا تطلِّعُوه لينا (بَطَل)    الدولة البتتشكّل بعد الحرب حاليّا في بورتسودان ليست ما كنّا نطمح إليه في ديسمبر    إلى السيد وزير التعليم العالي.. هذا القرار مخالف للدستور    مبابي: أحلم بكتابة التاريخ مع ريال مدريد مثلما فعل رونالدو    رئيس مجلس الوزراء يتلقى دعوة رسمية لزيارة ليبيا    إبراهيم شقلاوي يكتب: أمن المعلومات واستعادة البيانات    الموت يغيب الفنان السوداني علي كايرو بعد يومين من إعلان توبته والحزن يخيم على مواقع التواصل الاجتماعي    لجنة أمن ولاية نهر النيل: القبض على مطلق النار بمستشفى عطبرة والحادثة عرضية    الهلال إلى نيروبي لمواجهة البوليس الكيني    بالفيديو.. الملعب الذي استضاف نهائي الكونفدرالية وفاصلة مصر والجزائر يتعرض للدمار.. شاهد كيف أصبح إستاد المريخ بعد الحرب    شاهد بالفيديو.. بمشاركة عدد من المطربين بقيادة "فرفور".. المذيع أحمد العربي يبدأ مراسم زواجه من الصحفية لينا يعقوب بحفل "حنة العريس"    مراجعة مناهج التعليم العام    مدير عام قوات الشرطة يلتقى وفد المنظمة الدولية للهجرة والعمليات    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء ضيقة ومحذقة.. حسناء سودانية تقتحم المسرح وتدخل في وصلة رقص مثيرة مع الفنانة توتة عذاب والجمهور: (فك عرش واضح واستعراض للجسم)    لجان مقاومة الفاشر : "حتى علف الحيوان اختفى".. الفاشر تستغيث    إثيوبيا ترد على تصريحات السيسي بشأن سد النهضة    أهلي الكنوز في مواجهة نهضة الوطن بالدامر    الجوهرة دفوي تزين عقد المنطقة الفرعية دلقو    كوليبَالي.. (أعِيدها والّلا وَقَع ليكُم)؟!!    *(ارزقي).. يبوح بكل الاسرار..!!    تعيين محافظ جديد لبنك السودان    ترامب: أميركا مع السيسي دائما    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة تهاجم الناشطة "ماما كوكي": (تسببتي في طلاقي وخربتي بيتي..ما تعمليني موضوع وتلوكيني لبانة وشريف الفحيل دفعتي)    تقرير الموارد المعدنية: 909 ملايين دولار حصيلة الصادرات    ترامب : أنجزنا المستحيل والدول العربية والإسلامية شركاء في السلام    الفنان علي كايرو يكتب رسالة مؤثرة من سرير المرض: (اتعلمت الدرس وراجعت نفسي وقررت أكون سبب في الخير مش في الأذى وشكراً الشعب السوداني العظيم) والجمهور: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)    قوات الطوف المشترك شرق النيل تدك اوكار الجريمة بدائرة الإختصاص وتوقف (56) أجنبي وعدد من المتهمين    حاج ماجد سوار يكتب: كيف يكتمل تفكيك المليشيا (1)    انا والسياسة الاقتصادية والكورنة    أم تكتشف مفاجأة صادمة في حديثه مع "روبوت"    السفارة القطرية: وفاة 3 دبلوماسيين في شرم الشيخ بمصر    وزير المعادن يترأس اجتماع مناقشة الخطة الاستراتيجية لتأمين المعادن ومكافحة التهريب    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    حريق في الكيبل المغذي للولاية الشمالية يتسبب بانقطاع التيار الكهربائي    احبط تهريب أخطر شحنة مخدرات    هل انتهت الحرب؟    منة شلبي: «حاجة كبيرة جدا وأنا لسه صغيرة عليه»    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    ليس ترامب .. إعلان الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2025    ويسألونك عَن فَرفور    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    الفترة الانتقالية شهدت احد اسوأ حقب الادارة الاقتصادية    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    الدولار يبتلع الجنيه السوداني.. أزمة اقتصادية بلا كوابح    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    حادث مرورى لوفد الشباب والرياضة    عملية أمنية محكمة في السودان تسفر عن ضبطية خطيرة    السودان..محكمة تفصل في البلاغ"2926″    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات من التاريخ الاجتماعي السوداني: قصة أم الحسن الهوارية ومقهاها الشهير في صحراء بيوضه .. بقلم: الاستاذ/الحسين علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 09 - 04 - 2020

في ليلة شاتية كفر النجوم (ظلامها) وفي سنة عجفاء في نهايات عقد الستين ونحن على ظهر شاحنة صغيرة بمعيار اليوم كبيرة بمقياس الامس تشق صحراء الشمال في طريق شتات لا هادي فيه الا النجم وفراسة اهل البادية وخبرتهم بأرضهم التي يميزون حتى ريح ترابها وقد ورث تلك الخبرة من ورثها من أفذاذ السائقين.
كان البرد يشوي الوجوه والشاحنة تمضي في طريق متعرج يعود غبارها فيرتد في وجهك كلما انحرفت الشاحنة عن هضبة أو كثيب رمل وهي تتبع طريق مثيلاتها العابرة للصحراء.
ما كان يبدد ظلام الليل الا مصابيح الشاحنة الذي يفسده ويبدد أشعته ذرات التراب التي يهيجها ريح الشمال، كنّا ركوبًا على ظهر الشاحنة رجالاً ونساء وشباباً وشيباً وصبية ولا صوت ولا حس الا الأنين الذي يبعثه البرد في أجسام هدها السن أو الجوع بعد مسيرة يوم وليلة في برد قارس وشمس باهتة وطعام جاف قليل وما زاد المسافر الا بُلغَة!.
كان المقصد أرض الشمال وقد إنفجر الفجر علينا وإنسلخ الظلام وقد عبرنا جبال"الحوش" و وادي النعام حيث لا نعام فيه وبدت حمره الشفق ونحن بسهلٍ منبسط تختلط فيه الرمال المتحركة بالحصى فإذا بخيمة وضوء نار، تساءل الشباب :أين نحن؟ وأجاب أهل الخبرة : إنها أم الحسن.
توقفت الشاحنة عند الخيمة ولم تكن الخيمة إلا عُشةً ...
ونفض الركاب عن ثيابهم ووجوههم غبار الصحراء وهبطوا من ظهر الشاحنة متمسكين هبوطاً بزوايا الحديد بأيدي مهتزة مرتعشة من شدة البرد ، كانوا أحوج ما يكونوا الى نار تصطلي بها أطرافهم وهي أقرب الى التجمد كما كانت أجوافهم أحوج ما تكون الى جرعة شاي بالحليب تبعث الدفء في أمعائهم المنقبضة لشدة البرد.
وتزاحم الناس على النار تزاحم الفَرَاش يمدون الأرجل ويفركون الأيادي ، وإمرأة تصيح بصبيانها عجلوا بكذا عجلوا بكذا "ناولوني كذا" تحاول أن تسعف بالشاي.
لعلها المرة الاولى التي أعرف فيها أم الحسن ، كانت إمراة فارعة الطول بصفرة لون إعتكر برمال الصحراء ، وأنف وتقاسيم وجه تلاقحت فيه دماء العرب بهجنة البربر،كانت حادة النظرات صارمة الوجه تبدو وكأنها فوق الأربعين وقد إكتهلت.
كان الخباء قصيراً لا تدخله الا مُحدودباً وما علمت سر ذلك إلا بعد عقود ، حيث أخبرني بعض اهل الخبرة أن ذلك يرجع إلى قصرِ أشجار الصحراء كاللعوت، والسَمْرُ، وشئ من سدر قليل ، وما دخل الطين واللَبِنْ في ثقافة البناء عندهم الا بعد عقد التسعين وما أرى السبب في ذلك إلا قلة المياه.. والماء أهم مدخل في عناصر البناء وما كان بناؤهم إلا من شجرهم ..وشجرهم قصير.
وتصايح الناس يطلبون الشاي وتعاركوا على الأكواب وما كانت الأكواب إلا "علب المربى" التي يتركها الركاب العابرون وحصلت على كُوب منها وأنا متلهف من إدمان الشاي فضلا عن شدة البرد والحاجة الى الإستدفاء وقد إنفتحت الشهية الى مشروب دافئ ، ناولتني مشروباً أغبر فظننته الشاي بالحليب وتذوقته فلم أجد للحليب طعماً، وإنما هو لون الماء المعتكر مختلطا بالشاي، سألتها: أم الحسن أليس عندك اللبن ؟ قالت بصوت حزين فيه حسرة " ياولدي شوفتي للبن من سبعة سنين" ، هل كانت كسني يوسف وعادت بي الذاكرة الى نهار البارحة والشاحنة تجتاز شمال غرب أمدرمان مناطق"ام صيد" والحسانية والقِريات على طول وادي المقدم وبين عيني جيف الحسرى من الأبل أما عظامها فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ وقد إلتوت أعناقها كأنها عانت سكرات الموت من الجوع، أما الأحياء منها فكانت تسعى حدباً حدابير بلا أسنمة، إنها سنن القبض والبسط والمقادير لا أَطِيْر فيها من حاكم ولا محكوم.
ثم مضت عقود وإنقطعت عن عبور الطريق، إستبدلت ذلك بالطائرة وتغيرت مسارات الشاحنات فلم تعد تغشى منطقة أم الحسن ، ذلك بعد خروج التقنية الأوربية القديمة (البدفورد، جاغوار ، وفورد) تلك الشاحنات الضعيفة التي كانت تتبع الأراضي الصلبة وجاءت التقنية اليابانية في عقد السبعين بعد أن أخرج النميري الشركات الأوربية وظهر"النيسان" وما بعده من الصناعات اليابانية التي ما عادت تبالي بالرمال، وإذا تغيرت مسارات الطرق ضاعت مدن واضمحلت حضارات ولم تعد أم الحسن تذكر في أدب الرحلات نحو الشمال ، لكنها أول بدوية تبرز إلى أهل الحاضرة بثقافة التسويق وإستراحات السائحين وتعارفت مع أهل الحاضرة وصاهرتهم في بادرة كانت الأولى من نوعها في ذلك الزمان.
ثم عادت الشركة الإيطالية لترسم طريق شريان الشمال على سيرته الأولى وتعود ذكرى أم الحسن وتعود هي نفسها إلى صنعتها بعد أن عاد الطريق إليها ، وإلتقيتها بعد ذلك ولكن في الخرطوم جاء بها إليّ الشيخ محمود محمد بشارة -عافاه الله وشفاه- كانت هي قد شاخت وكنت أنا قد إِكتهلتُ ، غادرتْ هي الكهولة وغادرتُ أنا الصبا زادت ألامها وإضمحلت أمالها وذهلت لتواضع مطالبها ، كانت تطلب خيمة لتقيها لفح الشمس وقطر المطر وقالت إنها تقيم تحت ظل شجرة وكانت تطلب "عنقريب" إذ هي تستريح على الارض ، وكانت تطلب لقاء النميري والبشير لتحقيق مطالبها الصغيرة وقد تحققت كل أمالها التي طلبت إلا لقاء النميري وكان ذلك ممكنا ولكني لم أر له فائدة فصرفتها عنه.
كانت قد غادرت المقهى وضربت في الباديه شرق الموقع بنحو عشرين كيلو سألتها: لماذا؟ قالت: لم يعد مجدياً "ماها مخارجه" ، وشكت من تعسف السائقين الذين يطلبون السجار بالمجان والطعام بالمجان والشاي بالمجان وفوق ذلك 45 جنيهاً ..فقط لأنهم يختارونها من سائر المقاهي الأخريات وقالت لي بملئ فِيهَا "ماهي مخارجه" .
سألتها : ماقصة هذا المقهى ومتى بدأتيه؟ لقد عرفنا المألآت فكيف كانت البدايات ؟ قالت: أما البداية فلا أعرف التاريج ولكني كنت أرعى الأغنام مع شقيقي فتعطلت شاحنة يقربنا فطلب مني سائقها أن أصنع لهم شاياً وأمدني بالشاي والماء وجلبت الحطب ومن ثم بدأت وألفت وأستمر الامر ، قلت لها من كان السائق قالت : علي لقمان .. وتذكرته إذ سافرت معه مرة كان رجلا رزيناً هادئ البال متمهلاً كثير الوقوف يفحص الإطارات والماكينة بين لحظة وأخرى لا يبالي من سبقه ومن تخلف عنه .. " سطوح وبطوح.. يسابق الخيل بطول الروح" وأغلب الظن لم يعد في الأحياء رحمه الله، سألتها من كان الرئيس في ذلك الوقت؟ قالت بعد تردد: أظنه عبدالله خليل ، فقدرت أن بدايتها في النصف الثاني من عقد الخمسين ، سألتها:ما طعامكم في البادية؟ قالت : الويكة والذرة ، سألتها عن الخضروات فلم تعرفها فعرفت السر وراء أمراض العيون المنتشرة في الصحراء.
قالت أن النميري أول رئيس زارها في مقهاها وذكرت أنه كان شاباً طموحا عطوفاً على الضعفاء، وذكرت انه أمر بحفر بئر لها على الطريق وقد شاع بين الناس بعد أنها أغلقتها مخافة أن يجتمع حولها العربان المنافسون، سألتها: أصحيح أنك اغلقتي البئر؟ فأستنكرت ذلك وبالغت في الإستنكار وقالت :"كيف أدفن النعمة!" ، ثم تبين لي بعد من علماء الجولوجيا أن هذه المنطقة شبه خالية من المياة الجوفية فعرفت أى بهتان رموه بها الناس فإذا فشلت بئر النميري في المنطقة فقد فشلت بعدها آبار وآبار وتلك كانت شهادة البراءة للبدوية التي لاتعرف المكر ، وحفظت حديثها كله في شؤون البادية وأنواع الطعام واللباس وذكرياتها مع السائقين والركاب والرؤوساء والكبار والصغار سجلت ذلك صوتاً وصورة ولكنه ضاع أو ضُيع فيما ضاع من تاريخ وتراث فنحن أمه شفاهية ليس من طباعنا النُبل والتوثيق تموت أمجادنا وتدفن ألامنا وأمالنا في التراب وتنشئ النابتة منا بإنفصام عن ماضيها لاتعرف الإسلام لإنها لم تعرف جاهلية ، ولاتعرف النعمة لانها لم تمتحن بالبلاء ، ولا تعرف الرخاء لانها ما ذاقت الشدة .. إلا قليلاً.
وتوفيت أم الحسن بعد إنصرام عقد التسعين بقليل بعد حياة تجسدت فيها بعض صور الإنتقال من البداوة الى الحضر ، تحكي آثار ظهور الآله في حياة الناس وكيف تصنع الطرق الحضارات وكيف تمحوها إذا مسالكها تغيرت، إمتلئ الطريق الجاف اليوم بابآر المياة وتغيرت بسبب ذلك مسارات قوافل الطيور المهاجرة وزالت الوحشة الصحراوية بعد أن إتصلت الحاضرة بالريف وتماسكت قرى البدو حول الطريق بعضها ببعض، وأخضر الحزام الشجري بعد ظهور "الغاز" وعرفت البادية الجمعة والجماعات والمدارس والمشافي ورحلت أم الحسن ولم تذق من ذلك شيئا.رحلت وفي قلبها حسرة أنها غرست وقطف الثمر غيرها ولم تلقى النميري ولكنها لقيت البشير.
_________________________
' يوليو 2016


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.