خطر يهدد 2.5 مليون مهاجر في ليبيا    مقتل مرتزقة أجانب في ضربة شرق الفاشر    قرارات صارمة من لجنة تهيئة الخرطوم لإزالة العشوائيات وضبط الأمن    ضبط أدوية غير مسجلة وعلاج مجاني بصيدليات خاصة بالجزيرة    صعوبات تواجه بث مباراة المريخ وسانت لوبوبو الكنغولي    "يوتيوب" يدفع لترامب 24.5 مليون دولار    ميلان يجتاز نابولي بنقص عددي    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (بطاقة هوية...)    إبراهيم شقلاوي يكتب: المكتبات والذاكرة السودانية    شَامِي لي ريحَة (تمهيدي) ضَارِب    حي الناظر الابيض يضم نجم الشروق    المرصد السوداني يكشف معلومات خطيرة حول تجنيد الأطفال في السودان    "الدعم السريع" تستولي على اسقاط جوي للفرقة السادسة بالفاشر    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    بمكالمة من واشنطن.. نتنياهو يعرب عن أسفه لانتهاك سيادة قطر    تركيا تعلن دعم مشروعات حيوية في السودان    من يشعل النار في سلة غذاء العالم؟    خالد سِلِك.. الحِرْباء عند قاعٍ يُشبه القِمَّة!    حميدتي، حمدوك، الحرّيّة والتغيير، وأتباعهم؛ بيجمع بيناتهم شي مشترك    شاهد بالفيديو.. كورال مصري يغني الأغنية السودانية الشهيرة "كدة كدة يا التريلا" بطريقة مدهشة وموقع مصري يكشف قصة الأغنية وتفاصيلها    قبيل لقاء ترامب ونتنياهو.. البيت الأبيض: قريبون جدا من اتفاق بشأن غزة    شاهد بالفيديو.. "نحنا في علامات الساعة وما جايبين خبر".. مواطن سوداني يعيش لوحده في قرية كاملة خالية من البشر والحيوانات وناشرو المقطع يكشفون مكان القرية    بريطانيا تتجه لتشديد شروط منح الإقامة الدائمة للمهاجرين    شاهد بالفيديو.. شاب سوداني بالنيل الأبيض يوثق لحظة إنقاذه لطائر "الباشق" النادر ويطلق سراحه    تعرف على منافس الهلال في الدور التمهيدي الثاني من أبطال أفريقيا وموعد ومكان مباراتي الذهاب والإياب    شاهد بالصورة والفيديو.. الهلال يصطاد "الجاموس" في طريقه نحو دور المجموعات بأبطال أفريقيا    منشور غامض لترامب بشأن "إنجازات عظيمة" في الشرق الأوسط    شاهد بالصور.. حرب السوشيال ميديا تتواصل.. القيادية بالحرية والتغيير حنان حسن تسخر من الناشطة رانيا الخضر وتنشر صورة لها من دون "فلتر" وتهاجمها: (نعم لدعم النساء لا لدعم الغش والنفاق)    رئيس إتحاد المهن الموسيقية يعلق على قرار فصل الفنانة عشة الجبل: (فقدت عضويتها بسبب عدم الالتزام باللوائح)    والي سنار يصدر قراراً بتكليف صلاح قلاديمة مديراً لمنشأة سنار عاصمة الثقافة الإسلامية    القبض على 3 أصحاب مخابز استولوا على أموال الدعم    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    والي نهر النيل يطلع على ترتيبات دخول خمسة آلاف فدان للموسم الشتوي في محلية البحيرة    الطاهر ساتي يكتب: حمى الصراع ..(2)    الرواية... الفن والدور السياسي    شرحبيل أحمد... ملك الجاز السوداني الذي حوّل الجيتار إلى جواز سفر موسيقي    تلاعب أوكراني بملف القمح.. وعود علنية بتوسيع تصديره لأفريقيا.. وقرارات سريّة بإيقاف التصدير    بعد تسجيل حالات..السلطات الصحية في الشمالية تطلق صافرة الإنذار    إغلاق مقر أمانة حكومة جنوب دارفور بنيالا بعد غارات جوية    حسين خوجلي يكتب: بعد جرح الدوحة أليس من حقنا أن نتسائل أين اليمين العربي؟    اللجنة المالية برئاسة د. جبريل إبراهيم تطمئن على سير تمويل مطلوبات العودة لولاية الخرطوم    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المك نمر في مذكرات بوركهارت .. بقلم: د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
نشر في سودانيل يوم 26 - 12 - 2020

المك نمر قائد أول حركة عصيان تم تدوينها في دفتر الغزو التركي المصري، بعد أن أكمل المرحلة الأولى من فرض سيطرته بنجاح ودان له حكم السودان النيلي وكردفان، فقد ارتبط اسم المك نمر بحادثة مقتل إسماعيل باشا قائد الحملة التي أخضعت السودان النيلي، وابن محمد علي الكبير الذي تم الغزو باسمه، وما تبعها من حملات انتقامية قادها صهره محمد بك الدفتردار. ورغم ما يقال عن مشروعية الطريقة التي لجأ إليها في التعبير عن عصيانه، فالذي لا جدال فيه أن الفرق الغازية استغلت فارق التسليح واختلال ميزان القوة المنظمة في مواجهة مجتمع ليس له كبير عهد بالأسلحة النارية ولم يكن له من سبيل لمنازلته في مواجهة مباشرة.
زار بوركهارت منطقة شندي في ابريل عام 1813 أي قبل الغزو بثمان سنوات وقبل حادثة مقتل إسماعيل باشا بتسع سنوات، واستقر بها شهراً من الزمان قبل أن يغادرها في رحلة إلى التاكا وسواكن. وقد تسنى له خلال ذلك الشهر أن يجمع معلومات ويكون انطباعات مناسبة عن المك نمر وأسلوبه في إدارة منطقته، وعن الفضاء الاجتماعي والسياسي الذي يحيط به. وهي معلومات ضرورية في فهم سياق التعامل مع الحكم التركي المصري، وفي تحديد موقف على بينة تجاه القضايا المعاصرة بما فيها قضايا التنوع وتشكيل السودان بوضعه السياسي الحالي.
خضع المك نمر اسمياً لسلطة مملكة سنار، وكان يدفع نظير ذلك بعض المبالغ المالية، إلا أن كل شواهد بوركهارت تنبي أنه قد تمتع باستقلال كامل في إدارة منطقته ومارس فيها سلطة مطلقة، شأنه في ذلك شأن كل المناطق المجاورة مثل بربر والدامر ودنقلا وحلفا ومناطق الشايقية، فلم يكن يوجد أي رابط سياسي يجمع هذه المناطق أو يوحد بينها، وكانت تتمتع باستقلال سياسي شبه تام.
وصف بوركهارت حكم المك نمر على منطقة شندي بعدم الهدوء، فقد عاش ردحاً طويلاً من الزمن منغمساً في حروب ممتدة جعلت فترة حكمه متسمة بصراع مستمر، وخاض معارك عديدة مع الشايقية الذين كانوا دائمي الاغارة على المناطق الغربية للنهر، ولم تهدأ هذه الغارات إلا حين وصل المماليك إلى منطقة دنقلا. فعقد الشايقية صلحاً مع المك نمر ليتفرغوا لقتال المماليك، ومن ثم هدأت هذه الجبهة قليلاً.
بعد أن توقف الشايقية عن مهاجمة الجانب الغربي من سلطانه، أوكل إدارته إلى أخيه الذي تولى سلطة الحكم فيه، لكن أخاه أيضاً تمرد وانقلب عليه وسعى إلى الاستقلال بحكم المنطقة، واستمرت بينهما الحرب سجالاً لعدة سنوات دون أن يتمكن أحدهما من إحراز نصر واضح، وكان النهر حداً فاصلاً بينهما، جعل من الصعب على الفرق المتقاتلة عبوره بيسر إلا من شرازم قليلة.
لم تكن أملاك الملك نمر في الجهة الشرقية من النيل أيضاً في مأمن، فهي على شاكلة الضفة الغربية، محل مناوشة من عرب الشكرية والكواهلة، وهما قبيلتان تنزلان في الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية من حدود سلطانه، ودائماً ما تغيران على منطقة شندي وتنهبان الماشية. وفي الفترة التي أقام فيها بوركهارت في شندي نظم الجعليون حملة كبيرة على القبيلتين غنموا فيها مأتي بعير وعادوا بها إلى شندي.
مثلت شندي في فترة حكم المك نمر موقعاً أشبه بالمنطقة التجارية الحرة التي تقل فيها الرسوم الحكومية إلى الحد الأدنى، وتضعف القيود التجارية مقارنة بالمناطق الحضرية الأخرى على النيل مثل بربر ودنقلا. فلم يكن يفزع الغرباء بمطالبتهم بدفع أتوات أو ابتزاز أموالهم، ولا تجبر القوافل العابرة على دفع رسوم إلى السلطة الحاكمة سوى هدايا بسيطة نظير إضفاء الحماية عليها وهي تعبر المنطقة. وربما ساهم في هذا التسامح تجاه العمل التجاري أن المك نمر نفسه كان تاجراً يستثمر في استيراد الذرة التي لم تكن تنتج في منطقة شندي بالوفرة اللازمة.
أدى هذا النظام الإداري إلى جعل منطقة شندي أحد مراكز التجارة المنفتحة في السودان الشمالي. ويصفها بوركهارت بأنها أكبر بلد في شرق السودان بعد سنار وكانت تتفوق في ذلك على عاصمتي دنقلا وكردفان، وتتألف من أحياء تفصلها الميادين العامة وعديد من الأسواق. كما وصف الوفود التجارية التي قدمت إلى شندي من جهات مختلفة من السودان واستقرت فيها ووجدت ملاذا آمناً لممارسة العمل التجاري بفضل هذه السياسة فيقول (طبقة التجار هي أجل طبقات الناس في شندي قدراً وأوفرها اعتباراً، وبين هؤلاء كثير من النزلاء وفدوا عليها من سنار وكردفان ودار فور ودنقلا).
لم تقتصر تجارة شندي مع المراكز التجارية الداخلية فقط، وإنما امتدت لأقطار بعيدة، فقد كانت المنتجات الهندية متعارف عليها بما في ذلك خشب الصندل الذي يجلبه التجار من الهند عبر ميناء سواكن، وكانت تجارتها مع مصر رائجة تتبادل معها أصناف المعروضات المختلفة فالقوافل الصادرة والواردة تتحرك في أوقات متقاربة لتصل البحر الأبيض المتوسط بمنطقة نهر النيل. وقاد هذا الازهار التجاري إلى شيء من الثراء ورغد العيش، تمتع به سكان منطقة شندي، وظهرت ملامحه في حياة الناس وطريقة معيشتهم. ويصف بوركهارت هذا الرغد المعيشي فيقول ((كانت ثياب القوم أنظف، والذهب من السلع الكثيرة المتداولة في سوق شندي، لذلك ترى من بين نسائها من يلبسن الأقراط في أنوفهن وآذانهن أكثر مما ترى بين نساء بربر، والقوم هنا أيسر حالاً، ومن المألوف أن ترى الأسرة منهم تملك اثني عشر عبداً يخدمون في البيت وفي الحقل)
امتاز المك نمر برؤية خاصة للنظام الجزائي الذي يسعى إلى تقييد ارتكاب الجرائم وتحديد العقوبات على المدانين في جرائم مثل السرقة والتعدي وتفلتات السكارى في الشوارع، فلم يكن ميالاً إلى إنزال العقوبات الجسدية، ولا استخدام جزاءات قاسية مثل الجلد أو الحبس لفترات طويلة، وإنما استعاض عن ذلك بالغرامات المالية. كما لم يكن هناك وجود لعقوبة الإعدام إلا في حالات نادرة. وهذا يختلف عن كثير من النظم التي كانت سائدة في عصره، فيذكر بوركهارت أن عقوبة السرقة في كردفان كانت الإعدام بينما يوقع المك نمر عقوبة الغرامة والحبس لأيام قليلة.
حرص المك نمر على إظهار سطوته ومقامه العالي من خلال أدوات السلطة في تلك الفترة، فقد كانت النقارة تضرب كل عصر أمام منزله، وتمثل النقارة في سودان القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر رمزاً للمنعة ولازمة من لوازم القوة والسلطة على امتداد بلاد السودان، ويقال في وصف الرجل من ذوي السلطان (النقارة تقرع أمام بيته). واستغل المك نمر المناسبات التي تمر بالأسرة الحاكمة لإظهار أبهته وفخامته السلطانية، فيذكر بوركهارت الاحتفال الكبير الذي أقامه يوم ختان أحد أنجاله، واصطف فيه جميع فرسان المنطقة، وأقيمت حلقات الطرب التي أمها الفرسان وأشعلوا فيها الأرض رقصاً يثب فيه المحتفلون أماماً وخلفاً. ووفقاً لعبارات بوركهارت (احتشد فرسان شندي عن بكرة أبيهم في يوم مهرجان أقامه المك نمر بمناسبة ختان ولد له، وطافوا المدينة مع أسرة الملك وجيادهم تثب وتخطر).
أقام المك نمر أيضاً عرضاً عسكرياً لمبعوث أرسله محمد علي باشا لسلطنة سنار حين عبر مناطق شندي وهو في طريقه من سنار إلى مصر ، وذلك من باب إظهار القوة واستعراض المنعة الحربية، قبل الغزو التركي المصري. ويبدو أن هذه البعثة كانت طليعة استكشافية تمهيداً لغزو السودان الذي تم بعد ذلك بسنوات قليلة . واستعرض المك نمر أمام البعثة التركية فرقة من الفرسان في حضرة قائدها. وفي المقابل طلب القائد التركي من المك نمر أن يأذن له في استعراض تمرينات المدفعية التركية فقد كان في معيته مدفعين محمولين على جملين. لم يتسن لبوركهارت أن يقابل هذه البعثة لأنها جاءت قبل قدومه إلى شندي بعام، وإنما سمع بهذه الرواية من المبعوث التركي فدونها في مذكراته.
اتصف الجهاز الإداري الذي أقامه المك نمر بالبساطة الشديدة، فقد كانت السلطات كلها بيد المك، وعين أقرباءه على شياخات القرى التي تتبع لإقليمه، لضمان الطاعة. ولم يزد بلاطه الإداري عن ستة رجال من الشرطة، وكاتب وإمام وخازن وفرقة حرس يتكون غالبها من رقيقه الخاص. أما الجيش الذي اعتمد عليه في صد غارات الطامعين، وحماية سلطانه، فلم يكن أقل بساطة من الجهاز الإداري. ولم تكن قدرة المك نمر تتجاوز حشد أكثر من مأتي فارس، يتسلحون بالأسلحة البيضاء. كما لم يكن السلاح الناري متوفراً لديهم سوى بعض البنادق قليلة الفعالية أو التالفة التي أصابها الصدأ، ولا يزيد عددها عن اثنتي عشر بندقية، اشتراها أو أخذها من التجار المصريين. ومن الواضح من خلال إفادات بوركهارت أنه لم يكن هناك تدريب كاف على استخدامها، فغاية ما تهدف إليه هو خلق منظر عسكري لإرهاب العدو يؤدي إلى إنهاء المعركة سريعاً.
يحكي بوركهارت أن بعض أتباع المك رأوه ينظف بندقية كان يحملها معه، فحسبوا أنه على معرفة بكيفية التعامل مع الأسلحة النارية وإصلاحها واقترحوا عليه أن يلتحق بخدمة المك صانعاً لأسلحته وعرضوا عليه مقابلاً مغرياً، ولم يستطع التخلص من هذا العرض وإقناعهم بعدم خبرته في هذا المجال إلا بصعوبة. كما أن المك أخذ منه بندقيته في آخر المطاف نظير مقابل محترم رضي به بوركهارت رغم تمنعه بادئ الأمر.
هذا الضعف في مجال التسليح لدى المك نمر والملوك وأمراء المناطق وعدم وجود جيوش مستقرة، والاستقلال السياسي للقبائل المختلفة التي تعيش على شاطئ النيل دون أي يكون بينها تنسيق أو ترابط وهو ما جعل بوركهارت يصل إلى اعتقاد راسخ أن (فرقة صغيرة من الجند كفيلة بأن تشق لها طريقاً دون أن تلقى مقاومة إذا تذرعت بالصبر. واحسب أن ثلاثمائة رجل مثلاً ممن مرنوا على احتمال المناخ المداري، يستطيعون أن يوغلوا في شرق أفريقيا ولن تعترض طريقهم عقبات قوية يؤبه بها من أسوان إلى سنار. وإذا كان مئتان وخمسون من صعاليك المماليك قد فتحوا دنقلا وفرضوا عليها سلطانهم برغم مقاومة الدناقلة والشايقية مجتمعين فخليق بقوة مدربة من الأوربيين أن لا تخشى بأس هؤلاء الأفريقيين وهم على حالهم من تشتت وانقسام إلى إمارات صغيرة لا رابط بينها ولا اتحاد). وهذا هو نفس السيناريو الذي اتبعه محمد علي باشا في غزو السودان بإعداد فرقتين استقلت أحدهما ببسط سيطرته على المنطقة من اسوان إلى سنار، دون أن تجد كبير مقاومة، واستقلت الأخرى بضم كردفان إلى سلطانه. وحيثما كان وجه الرأي حول طبيعة الغزو التركي المصري، إلا أن صفحته الإيجابية أنه أنشأ الوحدة السياسية الحالية للسودان وخلق رابطاً إدارياً موحداً من أقصاها إلى أقصاها.
استرعى انتباهي في مذكرات بوركهارت إشارته لممارسة التلقيح ضد الجدري في شندي، فقد كان معلوماً ومتعارفاً عليه كأحد الوسائل الواقية من الإصابة في منطقة شندي رغم أن اكتشافه من ناحية رسمية ينسب إلى الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر عام 1796، وقد توصل إليه من خلال ملاحظاته على الحلابات اللائي لم يكن يصيبهن الجدري بعد إصابتهن بجدري الأبقار، فاستنتج أن نقل مواد من جلد المصابة وحقنها في جسم شخص سليم يولد لديه المناعة الكافية ضد الجدري، ومن ثم طور هذا الاستنتاج وعمل عليه وكانت نتيجته اللقاح الذي ينسب إليه. وكان ذلك قبل مدة لا تتجاوز سبعة عشر عاماً من قدوم بوركهارت إلى شندي أي في 1813. ويذكر بوركهارت أنه عندما أتى إلى شندي نزل في بيت فسيح لأحد أصدقائه العبابدة. وفي الصباح جاء إليهم مندوب المك نمر وطلب منهم إخلاء المنزل لأنه يريده لإحدى جواريه الحبشيات وستطعم بلقاح الجدري، ويريدها أن تقضي فترة مرضها في بيت خلوي منعزل متجدد الهواء. وأمر لهم ببيت آخر في وسط البلدة. ومن الصعب تخيل أن اللقاح الذي كان يستخدم في شندي كان انتاجاً أوربياً فأغلب الظن أنه ممارسة محلية انبنت على ملاحظات شعبية متراكمة. وقد كان أمراً معلوماً لدى سكان المنطقة أن الناجين من مرض الجدري بعد إصابتهم به، لا يمسهم مرة أخرى.
رغم السطوة التي تمتع بها المك نمر، إلا أنه لم ينسلخ عن العادات التي كان يمارسها قومه خاصة لعب السيجة، والتي كانت إحدى الألعاب الترفيهية التي اشتهرت بها منطقة شندي. فقد أثر عنه أنه كان يحب لعب السيجة ولا يستنكف عن مسابقة أقل الناس شأنا إذا عرف عنه مهارة في لعبها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.