القنصل العام بأسوان يشيد بالمواقف المصرية في التخفيف من آثار الحرب    السيسي وبن زايد يبحثان الأوضاع الإقليمية وزيادة الاستثمارات الإماراتية في مصر    راحة ثلاثة أيام للاعبي الهلال    قبيل لقاء ترامب ونتنياهو.. البيت الأبيض: قريبون جدا من اتفاق بشأن غزة    تكية الفاشر تقدم وجبة غذائية لمتضرري الحرب    خالد سِلِك.. الحِرْباء عند قاعٍ يُشبه القِمَّة!    حميدتي، حمدوك، الحرّيّة والتغيير، وأتباعهم؛ بيجمع بيناتهم شي مشترك    شاهد بالفيديو.. كورال مصري يغني الأغنية السودانية الشهيرة "كدة كدة يا التريلا" بطريقة مدهشة وموقع مصري يكشف قصة الأغنية وتفاصيلها    والله بتبدأ كدة.. اوريكم النهاية..؟!    شاهد بالفيديو.. "نحنا في علامات الساعة وما جايبين خبر".. مواطن سوداني يعيش لوحده في قرية كاملة خالية من البشر والحيوانات وناشرو المقطع يكشفون مكان القرية    بريطانيا تتجه لتشديد شروط منح الإقامة الدائمة للمهاجرين    دخول مجاني للجماهير لمباراة المريخ و سانت لوبوبو    عاجل.."زغاريد" وفرحة كبرى في الفاشر..ماذا يحدث؟    شاهد بالفيديو.. بعد أن وصفه بشيخ "الكمشة".. شيخ الأمين يرد بقوة على "الإنصرافي": (انت سندوتش ما عندك لكن عندك سب الدين والإساءات والسفيه نبذ الباشا)    شاهد بالفيديو.. شاب سوداني بالنيل الأبيض يوثق لحظة إنقاذه لطائر "الباشق" النادر ويطلق سراحه    شاهد بالفيديو.. لفتت أنظار الجمهور الحاضر بأزيائها الضيقة والمحذقة.. مطربة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة مع أحد الشباب    شاهد بالفيديو.. شاب سوداني بالنيل الأبيض يوثق لحظة إنقاذه لطائر "الباشق" النادر ويطلق سراحه    تعرف على منافس الهلال في الدور التمهيدي الثاني من أبطال أفريقيا وموعد ومكان مباراتي الذهاب والإياب    الهلال يفوز على فريق جاموس الجنوب سوداني بهدف جان كلود ويتأهل    منشور غامض لترامب بشأن "إنجازات عظيمة" في الشرق الأوسط    شاهد بالفيديو.. حشود جماهيرية ضخمة تستقبل "البرهان" لحظة وصوله مدينة الأبيض    الجيش السوداني يسمي ناطق رسمي جديد    شاهد بالصور.. حرب السوشيال ميديا تتواصل.. القيادية بالحرية والتغيير حنان حسن تسخر من الناشطة رانيا الخضر وتنشر صورة لها من دون "فلتر" وتهاجمها: (نعم لدعم النساء لا لدعم الغش والنفاق)    بعد الخماسية.. أصوات صراخ وبكاء في غرفة ريال مدريد    القبض على 3 أصحاب مخابز استولوا على أموال الدعم    رئيس إتحاد المهن الموسيقية يعلق على قرار فصل الفنانة عشة الجبل: (فقدت عضويتها بسبب عدم الالتزام باللوائح)    والي سنار يصدر قراراً بتكليف صلاح قلاديمة مديراً لمنشأة سنار عاصمة الثقافة الإسلامية    والي نهر النيل يطلع على ترتيبات دخول خمسة آلاف فدان للموسم الشتوي في محلية البحيرة    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    الطاهر ساتي يكتب: حمى الصراع ..(2)    شرحبيل أحمد... ملك الجاز السوداني الذي حوّل الجيتار إلى جواز سفر موسيقي    الرواية... الفن والدور السياسي    تلاعب أوكراني بملف القمح.. وعود علنية بتوسيع تصديره لأفريقيا.. وقرارات سريّة بإيقاف التصدير    بعد تسجيل حالات..السلطات الصحية في الشمالية تطلق صافرة الإنذار    إغلاق مقر أمانة حكومة جنوب دارفور بنيالا بعد غارات جوية    حسين خوجلي يكتب: بعد جرح الدوحة أليس من حقنا أن نتسائل أين اليمين العربي؟    اللجنة المالية برئاسة د. جبريل إبراهيم تطمئن على سير تمويل مطلوبات العودة لولاية الخرطوم    كندا وأستراليا وبريطانيا تعترف بدولة فلسطين.. وإسرائيل تستنفر    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد سِلِك.. الحِرْباء عند قاعٍ يُشبه القِمَّة!
نشر في النيلين يوم 29 - 09 - 2025

أظنُّ أنّ من المعلوم عندكم أنّ أوضح ما يتصف به سلك -جاعلًا منه شخصًا مكروهًا لا يُطاق لدى غالبيتكم- هو اتسامهُ بالخبث والدناءة وحالة من الروح النَهِمة "الملهلهة" -اللهلهة والشفقة التي لا تُخطئها العين والتي تجدونها حتى في نغمات صوته "المشلهت"-. إذ هو مِنْ طبقة أولئك الرجال (الهلافيت) الذين لا يحترمون ذواتهم، وبالتالي لا يجدون أدنى حرج في بيعِ أي نوع من أنواع إلتزام الأخلاقي كانوا قد قطعوه على أنفسهم متى اقتضت المصلحة الذاتية ذلك.
فيما يبدو لي أن سلك قديم عهدٍ بالخيانة، وبيع الذمّة، وخيانة المبادئ. وسلوكيات: التنصل، والمراوغة، ومحاولات التذاكي المفضوحة؛ أظنُّ أنّ هذه الخصال جرت في دمائه منذُ الطفولة الباكرة. تحضرني طفولته مثلًا في صورةِ الطفل الجبان الذي ينقلُ الوشاية بين زملائه في الصف، وهو كذلك أول من يسعى إلى النجاة بنفسهِ بالتبليغ عن المتورّط -ولو بالتلفيق- متى ما توعّد المعلِّم بإلحاق عقوبة بدنية جماعية إذا تحفّظ طلاب الفصل عن الإعلان/ الكشف عن مُقترف الجرم.
المعلم: الظرط منو؟ لو ما طلعتوا الظرط ح يتجلد الفصل كله!
سلك: أستا أستا أستاذ دا اءءءء اء.. دا التعايشي!
وأظنُّ أنّ التعايشي يحمل الحقد الأسود تجاه أبناء دولة 56 منذ ذلك الوقت!
الأنانية -فضلًا عن قبحها- تصنعُ شخصيةً فقيرةً لا ترى أبعد من ذاتها.. وهي المحنة الروحية التي استعبدت سلك؛ إذا ظلّ دائمًا في حالةٍ مزريةٍ عجز حيالها -أي حيال وطأة العبودية- عن أنْ يرى الحُسن في مَنْ سِواه! أو أنْ يخفّض من نهمه وشرهه في سبيل خير الجميع والمصلحة العامة.
سلك سينمائيًّا لا صعوبةً بالغةً في رسمه.. فسلوكهُ وبنيته النفسية تعكسها تفاصيلهُ الجسمانية؛ إذ يميل إلى قِصر القامة، مع ظهرٍ مُحْدَوْدِب بشكلٍ طفيف لكنّه بائن، مع رأسك كبير نسبيًا بين كتفين ضيّقين. وهو -لو لاحظتم- المظهرُ السينمائيُّ المعتاد لأغلب أولئك الذين حضروا في عالم السينما أو الرواية في قوالب الشخصيات الخبيثة التي تثير الفتن والقلاقل واحترفت أعمال النصب والدجل.
براعة سلك الحقيقية تكمنُ في قدرته على التأثير على الأغبياء المحدودين ممن هم في محيطه الضيِّق. فبإمكانه أنْ يُرسل رسائل لمحمد الفكي عند كل صباح يؤكد له فيها أنّه أحب الأصدقاء إلى قلبه؛ (عارف يا منقة اءءء قصدي يا محمد أنا بحبك جدًا ءءاا.. بحبك جدًا. متذكّر زمان لما قلت ليك لو مشيت خربت ندوة الشيوعيين بعزمك كوارع؟ وفعلًا مشيت سطتها ليهم اليوم داك.. هه ه)
الفكي -يلعق أصابع يده اليمنى من خلف الهاتف لا إراديًّا-: (والله يا خالد طعم الكوارع ديك لسه في يدي. ياخ ما فيها عزومة تاني!)
سلك: (عارف يا محمد أنا بقول لأولادي السودان محظوظ بقامة سياسية كمحمد الفكي سليمان. صدقني يا فكّة هذا ما ظللتُ أردده دائما). ولا يكون توظيف المادة العاطفية التي يحقن بها سلك محمد الفكي عند كلِّ صباح إلا لأنّه يرغب في أن يدفع الفكي في يومٍ أبيض وهو يملؤه حماسًا ليمسك بيديه سلك كهرباء بجهد كهربائي بقدرة 200 فولت.. ببساطة ليُصعق ويموت؛ بغية التخلّص مِنْ مُنافسٍ مُحتمل ضمن صفوف التحالف. لكنّه لن يكتفي بذلك؛ سيأتي لسرادق العزاء ويملأ الدنيا بكاءً و(مخاخيت) وهو يحدّثُ جموع المعزين عن أنّه فقد أعزّ أصدقائه.. ثم ينفجرُ باكيًا بقوة أكبر وهو ينتحب: (لقد أوصاني محمد أن أضع السودان وثورة ديسمبر نصب عيني اهي اهي اهي. هيا ساعدوني لأكون الرجل الأول؛ هذا ليس لأجلي -لا تفهموا أنّ ذلك من أجلي أرجوكم- إنّني أسعى للوفاء بوصية المرحوم بأن أكون في المقدّمة لإكمال رسالته المجيدة التي رحل قبل أنْ يُنهيها.. اهي اهيي).
ثم يهم بالمغادرة ليلتقي عند المساء بإبراهيم الشيخ -أو السيخ في روايةٍ سائدة-. ويبدأ حديثهُ بتضخيم الذات الإبراهيمية المنعّمة.. فهو يعرفُ أنّ الأثرياء عادةً ما يُطيلون النظر إلى المرآة بزهوٍ بحثًا عن ما يُثير حنقهم -مثلاً- من شعرةٍ نبتت في غير مكانها المناسب. لذا سيعمدُ لإطالة كوبليهات المدح والثناء في حضرتهِ.
سلك: (عارف يا إبراهيم.. لو ما قروشك دي حزبنا حزبنا اءءء حزبنا كان راح في خبر كان. صمودنا أمام الكيزان يعود الفضل فيه لسخاءك في تمويل الأنشطة النضالية للحزب.. ءء). تتهلّل أسارير الشيخ وترتسم على محياه إبتسامة عريضة. لكن سلك تأبى نفسه إلى أنْ "يحش الحالة" -كما اعتاد دائمًا ولو أتى ذلك بنتائج عكسية- فيقرر تعبئة الشيخ بالمزيد حتى يصبح سكر العصير "سكر بعشرق في الحلق"!
سلك في الوصلة الإضافية: (عارف يا إبراهيم.. أمس أمس مشيت مشيت دار الطلبة بتاع أولادنا في ال cis . لقيت إتنين منهم بقولوا بقولوا عنك اءءء.. والله ما عارف أجيبا ليك كيف!) يسحب الشيخ ملامح الانشراح الأولى ثم يمسك بيد سلك بقوة ويشدها: قول يا خالد! الطلبة المقطّعين بقولوا شنو عني!
ثم يتظاهر سلك بالانهيار من الأسف ثم يصمتُ لبرهةٍ ويقول: والله يا إبراهيم لقيتهم بقولوا دا ما شعرك الحقيقي؛ دا باروكة!
عندها يركل الشيخ أواني الشاي وأطباق الحلوى بقدمه. يتصاعد غضبه فيمسك رأسه ودون أنْ يشعر يشدُّ شعره بقوة بكلتا يديه: باروكة؟ باروكة؟ أسي دي باروكة يا ولاد الحرام! ثم يهبُّ سلك واقفًا ويعمل على تهدئة الشيخ على نحوٍ من الرجاء والتوسُّل. يفلح سلك في تهدئة الشيخ ثم يسرع في مواصلة الكوبليه الذي نجح في حياكته كما خطط تمامًا: يقترب من الشيخ ثم يهمس متهكّمًا بما يشي ببعث الطمأنة لمحدّثه: (إنت قايلني سكتّ يا إبراهيم؟ يا إبراهيم ي ي ءءء أنا اسكت واضاني تسمعك بتتشتم!) ثم يضيف: (عارف: قلت للولدين أقيفوا على حيلكم.. ولطشت كل واحد فيهم كف! قلت ليهم: إبراهيم دا هو الملبّسكم ومأكّلكم يا كلاب ييء يء كلاب. نحن لو ما إبراهيم الشيخ دا ما كان عندنا حزب. تصوّر يا إبراهيم هذا ما ظللت أردده دائمًا). حينها يتنفّس إبراهيم الصعداء ثم ينده على خادم البيت ليكنس الأواني المحطمة ويمسح البلاط بعد أنْ هدأت أعصابه بعد أنْ أُزحيت غشاوة الغضب عن عينيه وغمره تصرّف سلك بالنشوة العارمة. عندها يتحيّن سلك الفرصة ليطلب من إبراهيم مبلغًا ضخمًا من المال -مدعيًا أنّه سيذهب لصالح إقامة ندوة بضاحية بري الدرايسة-.. فيقول إبراهيم وهو في حالةٍ من النشوة: سيكون معك عند الصباح يا باشمهندس!
يصل سلك منزلهُ في وقتٍ متأخرٍ من الليل وهو متعبٌ بعد يومٍ طويلٍ أمضاه في استزراع الأزمات هنا وهناك ليجني منها ما يعينه على إحرازِ مكاسب في سبيل مجده السياسي الذاتي. المهم: يجد زوجته في انتظاره ترمغه بنظرةٍ حانية. يبادلها ذات النظرة. ويبدأ في أداء الكوبليه الختامي لهذا اليوم: (أعلم أنني مقصّر في حقكم.. لكنها ضريبة النضال يا شريكة عمري الحبيبة. السودان ينتظر مني الكثير. قولي لأبنائي عند الصباح أنّ أباهم نذر حياته للسودان الحرّ الديمقراطي. سامحيني.. ثم يدلف دخل الغرفة لينام).
إنها فلسفة الحياة عند سلك.. عنوانها الأبرز: أنا أكذب إذًا أنا موجود.. أنا أستمر في سرد الأكاذيب إذًا أنا أُدلّل على وجودي!
مَنْ يظن أنّ عزيمة سلك في سرد الأكاذيب وإحداث الخراب جراء أنانيته وافتتانهِ بذاته قد يعتريها الفتور فهو مُخطئ! هاهو يستيقظُ قبيل الظهيرة بينما يتناول فطوره يفكّر في زياردة عمر الدقير؛ يفكر لبرهةٍ في الرسمة المناسبة. ثم يهب واقفًا على عجالة قبل أن يكمل طعامه؛ حتى أنّه يمضغ ما كان قد أكلهُ على نحوٍ جيّد -تحدّثنا في البداية عن "اللهلهة والشفقة" لو تذكرون-. المهم.. يركب سيارته مسرعًا. فيصل الدقير الذي يجده يقف على كرسي خشبي بحذائه وهو في كامل أناقته بينما وجهه إلى الحائط فيسمع الدقير بصوتٍ جهير يُردد وهو يتصببُ عرقًا:
"من حقول البؤس هذي الكلمات
من سفوح جوّعت، من قممٍ
نسرها أهوى على الشمروخ في يأس... ومات
من بحارٍ لم تعد فيها جزيرة
لم يعد فيها سوى اشرعة الذكرى المريرة
من جنين كُبّلت فيه الحياة
كل ما تحمل هذه الكلمات
يا أبانا.. يا أبًا أيتامه ملّوا الصلاة
يا أبانا.. نحن ما زلنا نصلي من سنين
يا أبانا.. نحن ما زلنا بقايا لاجئين"
ينزلُ الدقير من الكرسي بعد أنهى ما كان يتلوه مِنْ أشاعر.. فيجد سلك يصفق بحرارة عند نهاية المقطع كأنّه صاحب ذائقة وفهم ما قيل مِنْ شعرٍ وكلمات!
سلك: (برافو برافو.. دي كتبتها متين يا عمر. بتذكّر زمان كنت قريتها لينا في شارع المين.. ههه الوقت داك هه داك هه كنا كنا لسه طلبة وإنت خريج قديم ءءء)
تبرقُ عيني الدقير بنظراتٍ باردةٍ متعالية ثم ترتسم على محياه ابتسامة باهتة ثم ينزع نظارته الطبية ببطء ويضعها على المنضدة: (لا أيها الغبي.. هذه القصيدة لم أكتبها أنا؛ إنها لسميح القاسم). يعود الدقير -بصورة آلية- ليصعد الكرسي بحذائه مجددًا يضع نظارته الطبية ويقرأ:
"لم يعتذر أحدٌ لجرحِك، كُلُّنا قُلْنا
لروما لم نكن مَعَهُ وأسْلمناك للجلاّد،
فاصفح عن خيانتنا الصغيرة، يا أخانا
في الرضاعة"
ثم ينفجرُ باكيًا.. وينزل عن الكرسي وهو يتحسس أوصالهُ كأنما تسري بجسده قشعريرة البرد.. ويتجدّدُ بكاءه بحرقة وهو يُردّد: "فاصفح عن خيانتنا الصغيرة يا أخانا في الرضاعة". لم يعرف سلك ماذا يصنع لكنه قرّر إنهاء دراما الدقير الغرائبية بصورة مقتضبة لينسج خيوط أكاذيبه ويهم بالخروج سريعًا قبل أنْ يتلبّسه الجن المحلّق فوق رأس الدقير.
سلك: (أمس المساء يا عمر كنت مع إبراهيم.. شكى لي منك؛ قال لي ياخ ماف زول جايب لينا الكلام والمسخرة إلا عمر الدقير دا. قلت ليه لي بتقول كدا يا إبراهيم؟ ياخ عيب عليك؛ دا لو ما عمر البلد دي ما بتقوم فيها ثورة.. الثورة نهلت من مفرداته وخطبه العصماء. اتصور قال لي شنو؟ قال لي ياخ الراجل المنفسن المخّه ما تمام دا بسببه سمونا "السنابل".. خليك من دا ياخ حميدتي بقى يضحك علينا بسبب "المجد للساتك"!)
يمسح الدقير دموعه ثم يعود أدراجه مرةً أخرى لكرسيه وعلى ذات الهيئة يبدأ بهيستريا مرددًا: "أَضاعُوني وأيَّ فتىً أضاعُوا. ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثَغرِ.."
ثم من الأعلى يُشير بسبابته على سلك:
(أخرج من بيتي يا غراب الشؤم.. أفسدّت يومي يا غراب الشؤم. أكرهك وأكره إبراهيم.. أكرهكم جميعًا. أحبُّ شعري أحبُّ كلماتي! ويبكي!
وبينما يهم سلك بالمغادرة بعدما سادته حالة من الاضطراب الوجداني إزاء هذه الطردة المفاجئة والتي اتسمت بحالةٍ عصابية مستفحلة. فيتعثّر في طريق خروجه من الصالة بطرف السجاد فينادي عليه الدقير بصوتٍ مفخّم: (ليكن في علمك يا غراب الشؤم أنّه ليس في وسعك لا أنت ولا تجار السيخ المتخم تهديد رفعتي ومكانتي السامية.. أنا المُشْرئبة هامتي نحو الأعالي ووجهي الأسمر المشُوب بالحمرة؛ ف ف "الأنبياءُ جميعُهُمْ أهلي.. ولكنَّ السماءَ بعيدةٌ عن أرْضِها، وأنا بعيدٌ عَنْ كلامي.."!)
يبتلع سلك ريقه مذهولًا.. يلوي ذيله وينصرفُ مُسرعًا!
قد يظنُ ظانٌ أنّ ثمّة تخليط جرى؛ إذ أنّ الأبعاد المرسومة تبدو أقرب لعرمان من سلك. لكن -مهلًا- ثمّة فوارق دقيقة؛ سلك يعمدُ إلى مراكمة وتوظيف المكاسب لتعود إليه بالنفع الشخصي -فهو في خدمةِ أمجاده بشكلٍ صِرف- باللجوء لتكتيكات وحيل إجتماعية أقرب لسلوكيات الوشاية و"النسنسة" والتملّق واستثمار التناقضات؛ فهو بذلك أقرب للنشاط بفعاليةٍ مثلى في مجالس النميمة بينما يحتفظُ بطبقةٍ قشرية خارجية يُحاول عبرها التظاهر بأنّه يتّسمُ بالاعتدال والرصانة والصوابية ورجاحة العقل، بجانب حرفته المتّقنة التي عبرها يلجأ لتقديم محاججات مُضلّلة في لبوس الحق أمام الجمهور.. لكن في نهايةِ الأمرِ ليس أكثرَ مِنْ كونه مجرّدَ متهافتٍ وضيع. أما السلوك العرماني فهو أقرب للنزعات التدميرية العنيفة المزلزلة؛ إذ أنّ عرمان في تكوينه النفسي والسياسي أقرب لروح رجل عصاباتٍ أخرق مُستذئب؛ إذ بتتبع ظاهرته ستجدهُ أقرب لمليشي مارِق من كونه مدني منسجم مع التقاليد المخفّضة لآليات العنف والتعديات الإجرامية الصريحة -هل فهمتم ما أعنيه بالضبط؟-. مثلًا: في مشهد الدقير بالإمكان توقّع أنّ عرمان يكون ميلهُ تصعيدي؛ إذ سينشطُ تجاه دفع كلّ شئ نحو حافة الهاوية. مثلًا سيقولُ للدقير: إبراهيم الشيخ يفكّر في فصلك عن الحزب.. وفي حال فشلت خطته بالحصول على غالبية أصوات العضوية الجمعية العمومية.. فإنه يملك خطةً سريّة -أنا على علمٍ بها- تهدد حياتك بالتصفية الجسدية؛ إنه يدبّرُ لأجلك حادث اغتيال مروع يا رفيق. أرى أنْ نقودَ إنشقاقًا داخل صفوف الحزب ونعلن ذلك في بيانٍ رسمي.
أعتقد أن الفرق بذلك يتضح أكثر.. فسلك -بالطبع مخرّب اجتماعي سياسي بجانب خبرتهُ المقتدِرة في إضفاء ألاعيب لغوية متنوّعة يُحسّن عبرها من صورتهِ التي يُبدي حيال نظافتها حرصًا هوسيًّا. لكن عرمان مُدمّر بالمعنى الكامل أقرب "للعلط" -مفردة شوارعية شبابية تصفُ حالة الاسراف في الفوضى والمُجون بلا طائل-؛ يصنع الانشقاقات ويعمل على تغذية نزعات الانهيار بما يُفضي للاستئصال أو التحلّل؛ وهدم المعبد بمن فيه إذا استدعى الأمر. وهو بالمقابل يحفل بكون أنّهُ شريرٌ متعفّن؛ كما لا أدنى رغبة له في الظهور بأي فضيلة. بعكس سلك الذي يميل دومًا للتذرّع وحياكة المبررات وهو ما يُفضي لحالٍ مضطرب جراء سعيه المحموم لاحتكار اللعب على كافةِ الأصعِدة فسلك على استعداد أنْ يكون الضحية والجلاد، الشريف والوضيع، السامي والحقير، المناضِل والخائن،.. يا للهول! يخترقه الذعر، ويتصبّبُ عرقًا، وتبدأ (اللهلهة) -لعنته الأولى- في إلتهام أحشائه.. متى ما استشعر أنّه غاب عن أي ملعبٍ من الملاعب!
الإشارة التي تضعُ كذلك فارقًا جوهريًّا هو أنه مع اشتباه الخلاصات والنتائج النهائية إلا أن التخريب في حالة سلك يظهرُ في نهاية الأمرِ كنتيجةٍ عَرضية، بعكس عرمان الذي يسعى لصناعة الخراب بإعتباره هدفًا أصيلًا قائمًا بذاتهِ يسلذُّ به في ذاته بلا مبرراتٍ أبعد من ذلك؛ سوى أنّه أوقف نفسه لعبادةِ أكثر الشرور شناعةً!
أخيرًا لا ننسى أنْ نهدي سلك حكمة مولانا أبو حيان التوحيدي العظيمة -أبو حيان عالم وفيلسوف ومتصوّف وأديب بارع-:
"فإنّ العصبيّة في الحقّ ربما خذلتْ صاحبها وأسلمتْه؛ وأبدت عورتَه، واجتلبت مساءته؛ فكيف إذا كانت في الباطل!"
فكيف إذا كنت في الباطل! وأنت الباطل بعينه.
محمد أحمد عبد السلام
محمد أحمد عبد السلام
إنضم لقناة النيلين على واتساب
مواضيع مهمة
ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان
هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.