في الثالث عشر من شهر أبريل الجاري، وهو يصادف ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية التي تفجرت في عام 1973، أقيمت في العاصمة اللبنانية بيروت مباراة كرة قدم بين فريقين، شارك في كل منهما عدد من النواب والوزراء. ارتدىأحد الفريقين اللون الأحمر وقاده رئيس الوزراء سعد الحريري، بينما ارتدى أعضاء الفريق الثاني اللون الآخر للعلم اللبناني، أي الأبيض، وحملت قمصان الفريقين عبارة "كلنا فريق واحد". انتهت المباراة التي كانت من شوطين، كل منهما 15 دقيقة فقط، امتحنت لياقة المشاركين أقسى امتحان، بفوز فريق رئيس الحكومة سعد الحريري بهدفين لصفر. ولأن السياسيين لا يمكن أن يتخلوا عن السياسة حتى وهم يلعبون كرة القدم، فإن أحد نواب حزب الله في فريق القمصان البيضاء صرح للإعلام بعد المباراة بأنهم سمحوا لفريق رئيس الوزراء بالفوز من أجل تعزيز الوفاق اللبناني. من جانبه فإن النائب أمين الجميل صرح بأن المباراة أثبتت فشل الاستراتيجية الدفاعية للنائب علي عمار (أحد نواب حزب الله)، وأحد أبرز مدافعي الفريق الأبيض، في تلميح لا يخفى للجدل المستعر حول سلاح حزب الله ودوره في استراتيجية لبنان الدفاعية. رمزية لعب كرة قدم بين الفرقاء اللبنانيين في ذكرى الحرب الأهلية لها دلالات عميقة. فهناك فرق هائل بين الرياضة والسياسة، وفرق أكبر بين الرياضة والحروب الأهلية. ويتحدث الناس عن الروح الرياضية باعتبارها واحدة من أهم مميزات النشاط الرياضي، وهي روح تقبل النتيجة، سواء أكانت لك أو عليك، بأريحية ورضا. صحيح أن نتائج المباريات الرياضية قد تكون لكثير من المشجعين أهم بكثير من نتائج الانتخابات، خاصة في البلدان الديمقراطية. ونادراً ما نشهد العنف يستقبل نتائج الانتخابات السياسية في أوروبا، ولكن كثيراً من مباريات كرة القدم يعقبها العنف هناك. وقد شهدنا ما أعقب لقاءات مصر والجزائر في كأس الأندية الافريقية وصاحبها من عنف واستقطاب كاد يبلغ مرحلة الحرب. ولكن يبقى أن الألعاب الرياضية هي ذات قيمة رمزية في الغالب، حتى حين تتقاطع مع الشعور القومي كما في المنافسات الأولمبية أو المنافسات الدولية والإقليمية. فلا يمكن مساواة دخول كرة في شباك فريق من أحد عشر شخصاً بتطور سياسي يرفع أقواماً ويضع آخرين. ولكن من جانب آخر فإن التحول الديمقراطي في أي بلد لا يبلغ مداه إلا حين تقترب السياسة من الرياضة في حالها: أي حين تسود الروح الرياضية "اللعبة" الديمقراطية، ويتقبل الجميع النتائج بأريحية. ولا يعني هذا أن نفوس الناس تتغير، وأنهم يصبحون بين عشية وضحاها أهل نبل وتواضع للآخرين، ولكن يعني أن طبيعة اللعبة نفسها لا بد أن تتغير، بحيث تستبعد الأمور المختلف عليها من الرهان، ويتم حسمها خارج الميدان إن صح التعبير. هناك أنواع من الرياضة والألعاب قد تخرج عن هذا النمط. ولعل رياضة الملاكمة تحتل موقعاً بين بين، لأنها تشتمل على عنف مباشر يوجه ضد الخصم. ولكن "الرياضةّ" التي تخرج بحق عن نطاق الفعل الرياضي هي لعبة "الروليت الروسية"، والتي صورت ببشاعة واقتدار في الفيلم الأمريكي المشهور عن حرب فيتنام، "صائد الغزلان". في هذه "اللعبة" توضع في خزينة المسدس طلقة واحدة، ويتبارى المشاركون بمحاولة كل منهم وضع المسدس على رأسه والرهان على الجانب الفارغ من الخزينة. أما إذا كان حظه سيئاً فإن الطلقة الوحيدة داخل المسدس تصادف رأسه، فيصبح أثراً بعد عين. أما المستفيدون الحقيقيون فهم المشاهدون الذين يراهنون على نتيجة الضغط على الزناد في كل حالة، فيكسب الفائز منهم المبالغ الكبيرة. غني عن القول أن هذه ليست لعبة رياضية بالمعنى المتعارف عليه، وأن الرهان فيها لا يشبه الرهان على سباق الخيل أو نتائج مباريات كرة القدم. وبنفس القدر فإن الانتخابات كآلية للتغيير الديمقراطي لا يمكن أن تحقق غرضها إذا كانت أشبه بالروليت الروسية منها بكرة القدم أو لعبة البينغ بونغ. فإذا كان الخلاف بين القوى السياسية عميقاً، والقضايا المختلف عليها قضايا حياة أو موت لهذا الفريق أو ذاك، فإن الانتخابات تصبح أقصر الطرق إلى الحرب الأهلية. وقد كان هذا هو تحديداً ما حدث في لبنان عند انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان في عام 1982 في ظل استقطاب لم يحدث له مثيل، فكان ما كان. نفس الأمر حدث في يوغسلافيا في نهاية الثمانينات ومطلع الثمانينات حين أدى انتخاب سلوبودان ميلوسوفيتش رئيساً لصربيا والاتحاد اليوغسلافي في ظل استقطاب حاد إلى تفكك الاتحاد في سلسلة من الحروب الأهلية ما تزال البلاد تعاني من ذيولها. وهناك سيناريوهات مماثلة تكررت في رواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية وسيراليون وليبيريا وكينيا وزيمبابوي. وإذا كانت هناك عبرة من كل هذه السيناريوهات فهي أن الانتخابات لا بد أن تكون خاتمة مرحلة الوفاق الديمقراطي وليست مبتداها. فلا بد من أن يتم أولاً التوافق على حماية المصالح الحيوية لكل الأطراف الفاعلة في الوطن بحيث لا تتأثر تلك المصالح بتقلب الحكومات، مما يطمئن الجميع ويجعلهم على استعداد لتقبل نتائج الانتخابات والتعايش معها. ولنا في السودان نفسه عبرة، حيث تفجرت الحرب الأهلية فيه عام 1955 في ظل حكومة الزعيم اسماعيل الأزهري المنتخبة ديمقراطياً، وتعمقت الأزمة بعد رفض ذلك البرلمان المنتخب مطالب الجنوب في الفيدرالية. وقد بلغت تلك الحرب أشرس حالاتها تحت حكومتي الصادق المهدي والمحجوب المنتخبيين ديمقراطياً بين عامي 1965 و 1969. أما الديمقراطية الثالثة (1986-1989) فقد شهدت بدورها زيادة اشتعال أوار الحرب في الجنوب بحدة لم تشهدها من قبل، كما شهدت أيضاً اندلاع الفصل الأول من حرب دارفور في عام 1987. الحقب الديمقراطية الثلاث في السودان انهارت بدورها في كل مرة على خلفية زيادة الاستقطاب والفشل في حسم القضايا الخلافية، وتعمق عدم الثقة المتبادلة بين أطراف المجال السياسي. فقد انهارت الديمقراطية الأولى إثر تعمق الخلاف حول قضية الوحدة مع مصر وتعمق عدم الثقة بين الأحزاب وداخلها، بينما انهارت الديمقراطية الثانية على خلفية قرار حل الحزب الشيوعي وقضية الدستور الإسلامي والصدام بين السلطتين التشريعية والقضائية. أما الديمقراطية الثالثة فقد انهارت على خلفية الاستقطاب الحاد حول القوانين الإسلامية وحرب الجنوب. ولا يعني هذا قدحاً في العملية الديمقراطية، أو تأييداً لمزعم البعض بأن الدكتاتورية هي الأصلح لما يسمى بدول العالم الثالث، بل بالعكس، تشير إلى ضرورة استكمال أهم شروط الديمقراطية، وهي التوافق بين جميع أطراف العملية السياسية على القضايا الكبرى، وعدم تركها لتقلبات المزاج السياسي على طريقة الروليت الروسية. فهناك فهم قاصر للديمقراطية يرى منها شكلها فقط، وهو العملية الانتخابية، ويغفل جوهرها، وهو حسم كل القضايا الحساسة خارج هذه العملية وقبلها، عبر حلول توافقية لا تحتقر مصلحة فئة أو مطالبها المشروعة لمجرد أنها أقلية. ذلك أن احترام حقوق ومصالح الأقليات هو من أهم مقومات العملية الديمقراطية. من هنا نحتاج هنا إلى إعادة تأكيد ما أشرنا إليها في مرات سابقة من عدم توفر مقومات التحول الديمقراطي في السودان، وربما توضيح تلك المقولة لما بدا أنه اعتراها من سوء فهم عند البعض. ففي الحالة السودانية هناك استقطاب حاد بين الحكومة والمعارضة بحيث لا يكان الطرفان يتفقان على أمر من الأمور الجوهرية. ويظهرهذا في التراشق بالألفاظ بين هذه الأطراف، وقول كل طرف في الآخر مقولة مالك في الخمر، والتصريح باستحالة التعايش والوفاق. ويتعقد هذا الاستقطاب بآخر بين شريكي نيفاشا، حيث تعمق الاختلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حول جملة من القضايا المهمة.. وفي ظل هذا الاستقطاب الحاد فإن المشاركة بين الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية السودانية، فضلاً عن قبول انفراد طرف من الأطراف بالحكم، أصبحت في حكم المستحيل. فقد تحولت شراكة الوطني والشعبية خلال السنوات الماضية إلى علاقة صراع أكثر منها علاقة شراكة، ولا توجد الآن نقطة تلاق بين الطرفين سوى السير في إجراءات الطلاق البائن. وهذا أبرز مؤشر على عدم نضج التحول الديمقراطي، لأن من أهم شروط هذا النضج هو ألا يجد أي طرف بأساً بانفراد طرف آخر بالسلطة، لأن النظام يضمن ألا تضار مصالحه الحيوية أو أن تنتهك محارمه أو قيمه العليا. أما في الوضع الذي شهده السودان ويشهده حالياً، فإن هذا الشرط غير متوفر. ذلك أن أجندات الأحزاب المتنافسة تتضارب تضارباً بيناً فيما بينها. فقد ظل المؤتمر الوطني ونظام الإنقاذ الذي يمثله في سعي دءوب لتدمير الأحزاب المنافسة له، وظلت تلك الأحزاب بدورها تسعى لإسقاط النظام بكل وسيلة ممكنة. ولكل طرف أجندة مناقضة تماماً لأجندة خصمه. فلو فاز مرشح الحركة الشعبية أو مرشح حزب الأمة أو الاتحادي في الانتخابات، فإن برامجهم المعلنة ليست هي فقط تصفية نظام الإنقاذ ومحو آثاره وتفكيك مؤسساته، بل قد تصل كما في حالة الحركة الشعبية لتحولات أبعد من ذلك. أما استمرار المؤتمر الوطني في الحكم فيعني بدوره استمرار نهجه الإقصائي تجاه الآخرين، والتمادي في سعيه للقضاء كلياً على الآحزاب المنافسة عبر استراتيجيات معروفة ظلت متبعة حتى الآن. لا يمكن إذن أن تزدهر الديمقراطية في ظل نهج الإقصاء المتبادل، واستمرار التلاعن والتهديد بالفناء بين الأطراف المتنافسة على الساحة السياسية. ولا بد من تراجع عن هذا النهج من الجميع، خاصة وأن استراتيجيات الإقصاء قد فشلت. فالمعارضة فشلت في إسقاط الحكومة رغم استراتيجياتها المدعومة دولياً، مما دفعها لعقد اتفاقيات سلام متعددة مع النظام. أما الحزب الحاكم فقد فشلت استراتيجيته في القضاء شعبياً على الأحزاب المعارضة، رغم نتيجة الانتخابات الأخيرة. فالحزب الحاكم ما يزال يعاني نفوراً قوياً من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام السوداني لايواجهه أي حزب آخر. فهناك كثيرون لا يؤيدون الأحزاب الأخرى، ولكنهم لا يظهرون شعوراً بالكراهية تجاهها. ولكن الناس ينقسمون تجاه المؤتمر الوطني بين مؤيد متحمس أو غير متحمس، وبين كاره شانئ. يحتاج الأمر إذن إلى "تبريد" الساحة السياسية، وتخفيف حدة الاستقطاب والتوتر. وهناك واجب يقع على عاتق كل طرف سياسي لبذل الجهد في هذا المجال خدمة للمصلحة العامة، ولكن الواجب الأكبر يقع على المؤتمر الوطني الذي يحتكر السلطة وموارد البلاد وظل يوجهها لخدمة هيمنته المستدامة على مقاليد السلطة، على حساب العمل السياسي الجاد، مما جعل الحزب يعاني من الضمور السياسي والانتفاخ الإداري والمالي. والمؤتمر يحتاج إلى مراجعة أساليبه ووسائله وقياداته لعله يستطيع بذلك استعادة بعض قدراته السياسية، ومنها القدرة على التعامل سياسياً مع الأحزاب المنافسة والتوافق معها على سياسات تساعد على استقرار البلاد، وربما وحدتها. عن "القدس العربي" و "التيار" (الثلاثاء 27 أبريل 2010) Abdelwahab El-Affendi [[email protected]]