لم يستبعد د. محمد الجاك تطبيق تكامل اقتصادي بين الشمال والجنوب ولكنه استبعد الاتحاد اقتصادي بينهما منذ البداية نظراً لارتباط تطبيقه بوجود مستوى اقتصادي متقدم ومتكافئ وهو أمر غير متحقق حالياً بين الاقتصاديين. يعتبر وزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي هو أول من طرح فكرة اقامة اتحاد اقتصادي بين الشمال والجنوب في ندوة اقيمت بالخرطوم في اكتوبر الماضي. الدوافع الاقتصادية كانت حاضرة عند اندلاع وانتهاء الحرب الاهلية الثانية بالجنوب، أما قسمة البترول فباتت احد المسوغات لدعم حجج القوميين الجنوبيين الانفصاليين باعتبارها منحتهم نصف بترول الجنوب. قبل انطلاقة استفتاء جنوب السودان يوم الاحد الماضي قام رئيس الجمهورية المشير عمر البشير بزيارة تاريخية لجوبا بث فيها العديد من الرسائل كان أهمها إعلانه قبول الشمال لخيار ونتيجة استفتاء الجنوب بالحد الادنى من معايير النزاهة والشفافية، ثم طرح قبل (48) ساعة من انطلاقة الاستفتاء مقترحاً للاتحاد والتعاون الاقتصادي بين الشمال والجنوب. على عكس التخوفات المحلية والإقليمية والدولية من إمكانية أن انزلاق الشمال والجنوب في اتون الحرب مجدداً قبل انطلاقة الاستفتاء أو عند بداية العملية من واقع حالة الشد والجذب وتبادل الاتهامات بين الطرفين في الفترة التي سبقت زيارة البشير لجوبا، سيما مع الإشارات التي صدرت عن حزب المؤتمر الوطني بإمكانية عدم اعترافه بنتيجة الاستفتاء وإبدائه للعديد من الاعتراضات على عملية التسجيل بالشمال والجنوب، وهو ما اعتبرته الحركة الشعبية بمثابة تمهيد للانقضاض على الاستفتاء عبر الطعن والتشكيك في نزاهته إما لعرقلته بشكل قانوني عن طريق الطعون الدستورية ضد عملية التسجيل أو سياسياً برفض الاعتراف بنتيجة الاستفتاء وهو ما كان سيجعل قرار انفصال جنوب السودان محل تنازع قانوني ودولي وربما يعرقل عملية الاعتراف بدولة جنوب السودان، إذاً فجميع تلك السيناريوهات كانت حاضرة وبالتالى ادت لزيادة القلق والخوف بشكل جعلت جل الاطراف الدولية والاقليمية تركز في الفترة التي سبقت الاستفتاء على حث الطرفين على ضبط النفس وتجنب الانزلاق في اتون الحرب مجدداً .. إلا أن الاجواء التي اعقبت زيارة البشير لجوبا هدأت من روع تلك المخاوف شمالاً وجنوباً وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، ووقتها بدأ واضحاً للعيان أن الطرفين قرارا تغليب خيار المصالح والابتعاد عن العواطف. تأطير التعاون وكشفت صحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية عن محتوى وثيقة تحصلت عليها تتضمن مجموعة من المقترحات التي قدمها خبراء للشريكين خلال مباحثاتهما وحوارتهما طوال العام الماضي وتم اعدادها كإعلان مبادئ للاتفاق على (ترتيبات ما بعد الاستفتاء في حالتي الوحدة، والانفصال)، وذكرت الصحيفة أن رئيس لجنة حكماء إفريقيا والرئيس الجنوب أفريقي السابق ثامبو مبيكي يحرص على تشجيع الطرفين لإقامة (سوق مشتركة، أو اتحاد على طريقة الاتحاد الأوروبي). وأجملت المسودة التوصيات والمقترحات قضايا المواطنة والجنسية والموارد والنفط، والديون، والاتفاقات الدولية والمعاهدات. وتطرقت لحركة المواطنين عبر الحدود في حالتي الوحدة والانفصال، واتفاقية عن حقوق السكان المتجولين عبر الحدود، واتفاقية عن الحقوق المستمرة للتحركات التقليدية، وأوضاع الجنوبيين في الخدمة العامة ووضع الشماليين في الخدمة بالجنوب، وحقوق الملكية ووضع الممتلكات وحقوق التملك في حالة غير المواطنين والمقيمين بصورة قانونية. وفي ما يتصل بمسألة العملة فقد اقترح الخبراء "الاتفاق حول كيفية إنشاء اتحاد العملة أو التعامل بعملتين في حال الانفصال. والاتفاق حول الفترة الانتقالية بالتشديد على الشفافية وعدم تشجيع السلوك غير القانوني في حالة فصل العملات، والاتفاق حول كيفية الإسراع لإدخال عملة جديدة، والعملة التي يجب استخدامها حتى إصدار العملة الجديدة، والاتفاق حول توزيع العمل الصعبة الموجودة لدعم العملة الجديدة، و(في حال الوحدة) حل الصعوبات الموجودة بين الطرفين في ما يخص احتياطي العملات الصعبة وملكية وإنتاج العملة ووضع خارطة لاحتياطات العملات الصعبة، والموافقة على مراجعة كل الاتفاقيات والمعاهدات التي يكون السودان طرفا فيها". و دعا الخبراء للوصول لاتفاق لتعزيز أسس التعاون الاقتصادي (خارج ما يخص قطاع النفط) والعلاقات الأخوية بين الشمال والجنوب (اتفاق عدم اعتداء، اتفاق في ما يخص تعريفة الجمارك، التجارة الحرة، واحتمال التوصل لاتفاقات أخرى مثل الخدمات الاجتماعية والمكتسبات والفوائد مثل التعليم (إعفاء الجنوبيين في الشمال بمعاهد التعليم العالي) واحتمال التوصل لاتفاق حول بنيات المواصلات العامة. الدعوة الاولي يعتبر وزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي هو أول من طرح فكرة اقامة اتحاد اقتصادي بين الشمال والجنوب في حال اختيار الثاني الانفصال خلال حديثه في الندوة السنوية التي اقامها بنك فيصل الاسلامي بقاعة الصداقة في اكتوبر الماضي بعنوان (مآلات الاستفتاء وتداعياتها على السودان) التي تحدث فيها أيضاً كل من نائب مدير بنك السودان المركزي بدرالدين محمود ووزير المالية الاسبق ووكيل وزارة المالية الشيخ المك. ودعا حمدي يومها للقبول بتنظيم الاستفتاء دون اشتراط لاكمال عملية ترسيم الحدود وعدم عرقلة انفصال الجنوب وقيام الاستفتاء باعتباره يؤدي لزيادة التوتر بين الشطرين، واقترح انتهاج سياسة قائمة على التعاون بالتوقيع على اتفاق للحريات الأربعة بجانب اقامة اتحاد اقتصادي ومنطقة حرة بين الشمال والجنوب مبيناً أن اقتصاد الجنوب الناشئ بحاجة للاستفادة من خبرات الشمال الاقتصادية لاعانته على بناء نظام ومؤسسات اقتصادية تساعده على الاندماج في الاقتصاد الدولي. وإقتراح معالجة قضية تواجد الجنوبيين في الشمال باستمرار وجودهم فيه مع دفع حكومة الجنوب من عائدات البترول قيمة الخدمات التي ستقدمها لهم حكومة الشمال واعتبر أن هذا المقترح في مصلحة الجنوب للحيلولة دون تعرض خدماته وبنياته التحتحتية للضغط والانهيار بسبب استقابلها دون تهيأ للجنوبيين القادمين من الخرطوم. رافعة الاقتصاد لاعطاء صورة اعمق لمعرفة اثر الاقتصاد وتقاطع مصالحه ومنافعه على مجمل الصراع السياسي بين الشمال والجنوب فيمكننا الإستدلال هنا بأمرين عند بداية ونهاية الحرب الاهلية الثانية. فمن بين ابرز المسببات التي عززت شكوك الجنوب تجاه الشمال وقادت لاندلاع الحرب كانت قضية استخراج النفط باعتباره سيتم استغلاله لمصلحة الشمال وهذا المنطق هو الذي جعل الحقول النفطية التي تعمل فيها شركة شيفرون الامريكيةبالجنوب أحد الاهداف الاساسية التي استهدفتها قوات الجيش الشعبي وانتهي الامر بالشركة لايقاف عملها ومغادرة البلاد. ذات الامر انطبق على نهاية الحرب الاهلية الثانية بالتوقيع على اتفاق السلام الشامل في يناير 2005م بين الحكومة السودانية والحركة والجيش الشعيين لتحرير السودان، إذا أن المنافع الاقتصادية نفسها لم تكن غائبة عن ردهات ذلك الاتفاق. فالورشة التي عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطون في فبراير 2001م الهادفة لوضع استراتيجية امريكية تجاه السودان بعد تقلد الجمهوريين الإدارة الامريكية خلفاً للديمقراطيين بفوز مرشحهم جورج بوش الابن في الانتخابات الرئاسية –والتي تعتبر الاب الشرعى لما خلصت له اتفاقية السلام الشامل باعتبارها وضعت الافكار الاساسية للاتفاقية- برز الاقتصاد في ثنايا توصياتها حينما خلص تحليلها إلي أن احد الاسباب الرئيسة التي تستوجب التوصل لاتفاق سلام بين الشمال والجنوب قائم على اساس دولة واحدة بنظامين هو دخول معطى (النفظ وعائدته) وإمكانية أن يؤدي توظيف عائدته من قبل الشمال للاخلال بميزان التوازن العسكري بين الطرفين الذين لم يحققا حتي تلك اللخظة اي منهما النصر الحاسم ضد غريمه، مما يجعل الوقت مناسباً للحركة الشعبية للتوصل لتسوية سلمية وهي في مرحلة قوة قبل اختلال الميزان العسكري، أما الشمال فرغم أن عائدات البترول قد تمنحه قدرة على الاستمرار في الحرب إلا أن مصلحته الاستراتيجية تتمثل في الاستفادة وقف الحرب وتوظيف تلك العائدات في المشاريع الاقتصادية ووقف الصرف على الة الحرب وجعل اتفاق السلام نفسه آلية لرفع العقوبات الاقتصادية عنه واكمال عملية ادماجه في المجتمع الدولي. الترتيبات الاقتصادية التي نصت عليها اتفاقية السلام الشامل سيما الخاصة بقسمة البترول تحولت نفسها لمسوغات لدعم خيار الانفصال، فالقوميون الجنوبيون اعتبروا أن منح الجنوب نصف بتروله هو (قسمة ضيزه) في وقت يمكنه الحصول على كل الحصة في حال الانفصال هو سبب كافى لتفضيل هذا الخيار على وحدة تمنحك (نصف حقك فقط). وعند تكوين حكومة الوحدة الوطنية في اغسطس 2005م وإصرار المؤتمر الوطني يومها بالتمسك بشغل وزارتي المالية والطاقة –التي كان النفط احد قطاعتها قبل فصلها مؤخراً في وزارة قائمة بذاتها- عزز ذلك من توجهات القوميين الجنوبيين الذين واسوا انفسهم بقولهم:"ليس امامنا الكثير فبعد ست سنوات سنأخذ الجمل بما حمل". استبعاد الاتحاد من جهته اعتبر استاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. محمد الجاك بأن سيكون وارداً في حال افضاء الاستفتاء لقيام دولة مستقلة بجنوب السودان إقامة الشطرين لأي شكل من اشكال التكامل الاقتصادي في ما بينهما مثلهما مثل أي دولتين يمكن أن تقيما شكل من اشكال التكامل الاقتصادي المتعددة والتي يعتبر الاتحاد الاقتصادي احد صورها. واستبعد تطبيق الشمال والجنوب للاتحاد الاقتصادي من البداية نظراً لارتباط تطبيق الاتحاد الاقتصادي بوجود مستوى اقتصادي متقدم ومتكافئ وغياب الفوارق الكبيرة من حيث التقدم الاقتصادي بينهما وأضاف:"الجنوب كدولة ناشئة لا يمكن مقارنة اقتصادها بنفس اقتصاد الشمال واستقراره مهما يكتنف مصيره –ويقصد اقتصاد الشمال- من مخاطر ولذلك يمكن أن يكون هناك شكل من اشكال التكامل ولكنه لن يكون بشكل اتحاد لأن ذلك يتطلب التكافؤ"، واستدل هنا بتطور التجارب التي ميزت العديد من التكتلات الاقتصادية التي لم تبدأ في شكل اتحاد اقتصادي وانما بدأت في شكل مناطق حرة ثم تطورت تدريجاً وقال:" لذلك، لا اعتقد أن ذلك ممكناً حالياً ولكنني على يقين بأن هناك شكل من اشكال التكامل سيتم بشكله الاولي سيستفيد منه البلدين". فوائد عديدة واشار الجاك إلي أن التكامل الاقتصادي وبحكم مفهومه النظرى لديه فوائد اقتصادية ايجابية للبلدين إذ سيمكنهما على سبيل المثال من استغلال الموارد التي لم تستغل، وستؤدي التسهيلات التي ستتم بين البلدين للخفض من تكاليف التعاون الخارجي ويجنبهما من مخاطر الاعتماد على السوق المفتوحة وسيقوي من القدرات التنافسية لهما، بجانب توفيره لمستلزمات الانتاج بسمتوي اقل مع استفادة البلدين من السلع الاستهلاكية التي ستنتج بنطاق كبير والوفورات الاقتصادية. واوضح أن التكامل الذي سيحدث بين اسواق العمل في البلدين سيساعد على خفض حدة البطالة التي تعتبر مشكلة تعاني منها العديد من الدول النامية بجانب تأمينه لمكاسب التجارة الخارجية بالنسبة للبلدين وقال:"اعتقد أن كثير من المشاكل يمكن أن يساههم التكامل في معالجتها وهذا الامر يمكن استشفافه من التكتلات الاقليمية التي شارك السودان كالكوميسا والتبادل التجاري بين السودان وتلك الدول ولذلك اعتقد أن التكامل الاقتصادي في حال تطبيقه بين الشمال والجنوب في حال احتيار مواطنيه لخيار الدولة المستقلة فسيعود بنفس الفوائد على الشطرين". mahir abugoukh [[email protected]]